
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 154 الى صــ 163
الحلقة (502)
فشبه أصواتهم بصوت الحمير ، أولها زفير وآخرها شهيق. خرجه الترمذي مرفوعا بمعناه من حيث أبي الدرداء. وقال قتادة : صوت الكفار في النار كصوت الحمار ، أوله زفير وآخره شهيق. وقال ابن عباس : يصير لهم نباح كنباح الكلاب. وقال محمد بن كعب القرظي : بلغني أو ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة... الخبر بطوله ، ذكره ابن المبارك ، وقد ذكرناه بكمال في التذكرة ، وفي آخره : ثم مكث عنهم ما شاء الله ، ثم ناداهم {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} قال : فلما سمعوا صوته قالوا الآن يرحمنا ربنا فقالوا عند ذلك : {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي الكتاب الذي كتب علينا {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فقال عند ذلك {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء ، وأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض ، وأطبقت عليهم.
الآيات : 109 - 111 {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ، فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ، إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا} الآية. قال مجاهد : هم بلال وخباب وصهيب ، وفلان وفلان من ضعفاء المسلمين ؛ كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم. {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} بالضم قراءة نافع وحمزة والكسائي ها هنا وفي {ص} . وكسر الباقون. قال النحاس : وفرق أبو عمرو بينهما ، فجعل المكسورة من جهة التهزؤ ، والمضمومة من جهة السخرة ، ولا يعرف هذا التفريق الخليل ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفراء. قال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد ؛ كما يقال : عصي وعصي ، ولجي ولجي. وحكى الثعلبي عن الكسائي والفراء الفرق الذي ذكره أبو عمرو ، وأن الكسر بمعنى الاستهزاء
والسخرية بالقول ، والضم بمعنى التسخير والاستبعاد بالفعل. وقال المبرد : إنما يؤخذ التفريق بين المعاني عن العرب ، وأما التأويل فلا يكون. والكسر في سخري في المعنيين جميعا ؛ لأن الضمة تستثقل في مثل هذا . {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي اشتغلتم بالاستهزاء بهم عن ذكرى. {وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} استهزاء بهم ، وأضاف الإساء إلى المؤمنين لأنهم كانوا سببا لاشتغالهم عن ذكره ؛ وتعدي شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم . {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} على أذاكم ، وصبروا على طاعتي. {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على ابتداء المدح من الله تعالى لهم وفتح الباقون ؛ أي لأنهم هم الفائزون. ويجوز نصبه بوقوع الجزاء عليه ، تقديره : إني جزيتهم اليوم الفوز بالجنة. قلت : وينظر إلى معنى هذا قوله تعالى في آخر المطففين : {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين : 34] إلى آخر السورة ، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى. ويستفاد من هذا : التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين والاحتقار لهم ، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يغني ، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل.
الآيات : 112 - 114 {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ ، قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} قيل : يعني في القبور. وقيل : هو سؤال لهم عن مدة حياتهم في الدنيا. وهذا السؤال للمشركين في عرصات القيامة أو في النار. {عَدَدَ سِنِينَ} بفتح النون على أنه جمع مسلم ، ومن العرب من يخفضها وينونها. {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أنساهم شدة العذاب مدة مكثهم في القبور. وقيل : لأن العذاب رفع عنهم بين النفختين فنسوا ما كانوا فيه من العذاب في قبورهم. قال ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى الثانية ؛ وذلك أنه ليس من أحد قتله نبي أو قتل نبيا
أو مات بحضرة نبي إلا عذب من ساعة يموت إلى النفخة الأولى ، ثم يمسك عنه العذاب فيكون كالماء حتى ينفخ الثانية. وقيل : استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي القبور ورأوه يسيرا بالنسبة إلى ما هم بصدده. {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} أي سل الحساب الذين يعرفون ذلك فإنا قد نسيناه ، أو فاسأل الملائكة الذين كانوا معنا في الدنيا ؛ الأول قول قتادة ، والثاني قول مجاهد ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ } على الأمر. ويحتمل ثلاثة معان : أحدها : قولوا كم لبثتم ؛ فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد الجماعة ؛ إذ كان المعنى مفهوما. الثاني : أن يكون أمرا للملك ليسألهم يوم البعث عن قدر مكثهم في الدنيا. أو أراد قل أيها الكافر كم لبثتم ، وهو الثالث. الباقون {قَالَ كَمْ} على الخبر ؛ أي قال الله تعالى لهم ، أو قالت الملائكة لهم كم لبثتم. وقرأ حمزة والكسائي أيضا {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} الباقون {قال} على الخبر ، على ما ذكر من التأويل الأول ؛ أي ما لبثتم في الأرض إلا قليلا ؛ وذلك أن مكثهم في القبور وإن طال كان متناهيا. وقيل : هو قليل بالنسبة إلى مكثهم في النار ؛ لأنه لا نهاية له. {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ذلك.
الآية : 115 {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}
قوله تعالى : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} أي مهملين كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها ؛ مثل قوله تعالى : {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة : 36] يريد كالبهائم مهملا لغير فائدة. قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي : إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه ، فيثيبهم على العبادة ويعاقبهم على تركها ، فإن عبد وه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رق الدنيا ، ملوك في دار الإسلام ؛ وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أباق سقاط لئام ، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران. و {عَبَثاً} نصب على الحال عند سيبويه وقطرب. وقال أبو عبيدة : هو نصب على المصدر أو لأنه مفعول له. "وأنكم إلينا لا ترجعون" فتجازون بأعمالكم. قرأ حمزة والكسائي {تَرْجِعون} بفتح التاء وكسر الجيم من الرجوع
الآية : 116 {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}
قوله تعالى : {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي تنزه وتقدس الله الملك الحق عن الأولاد والشركاء والأنداد ، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها ؛ لأنه الحكيم. {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} ليس في القرآن غيرها. وقرأ ابن محيصن وروي عن ابن كثير "الكريم" بالرفع نعتا لله.
الآيتان : 117 - 118 {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ، وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}
قوله تعالى : {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} أي لا حجة له عليه {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي هو يعاقبه ويحاسبه. {إِنَّهُ} الهاء ضمير الأمر والشأن. {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وقرأ الحسن وقتادة {لا يَفْلَح} - بالفتح - من كذب وجحد ما جئت به وكفر نعمتي. ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالاستغفار لتقتدي به الأمة. وقيل : أمره بالاستغفار لأمته. وأسند الثعلبي من حديث ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن حنش بن عبد الله الصنعاني عن عبد الله بن مسعود أنه مر بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} حتى ختم السورة فبرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ماذا قرأت في أذنه" ؟ فأخبره ، فقال : "والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال"
تفسير سورة النور
سورة النور
الآية : 1 {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة : "علموا نساءكم سورة النور" . وقالت عائشة رضي الله عنها : "لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور والغزل" . {وَفَرَضْنَاهَا} قرئ بتخفيف الراء ؛ أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام. وبالتشديد : أي أنزلنا فيها فرائض مختلفة. وقرأ أبو عمرو : {وَفَرَضْنَاهَا} بالتشديد أي قطعناها في الإنزال نجما نجما. والفرض القطع ، ومنه فرضة القوس. وفرائض الميراث وفرض النفقة. وعنه أيضا {فَرَضْنَاهَا} فصلناها وبيناها. وقيل : هو على التكثير ؛ لكثرة ما فيها من الفرائض. والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة ؛ ولذلك سميت السورة من القرآن سورة. قال زهير :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
وقد مضى في مقدمة الكتاب القول فيها. وقرئ {سُورَةٌ} بالرفع على أنها مبتدأ وخبرها {أَنْزَلْنَاهَا} ؛ قاله أبو عبيدة والأخفش. وقال الزجاج والفراء والمبرد : {سُورَةٌ} بالرفع لأنها خبر الابتداء ؛ لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع ، أي هذه سورة. ويحتمل أن يكون قوله {سُورَةٌ} ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك ، ويكون الخبر في قوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} . وقرئ "سورةً" بالنصب ، على تقدير أنزلنا سورة أنزلناها. وقال الشاعر
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أو تكون منصوبة بإضمار فعل أي اتل سورة. وقال الفراء : هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه.
الآية : 2 {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
فيه اثنان وعشرون مسألة : -
الأولى : قوله تعالى : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} كان الزنى في اللغة معروفا قبل الشرع ، مثل اسم السرقة والقتل. وهو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها. وإن شئت قلت : هو إدخال فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا ؛ فإذا كان ذلك وجب الحد. وقد مضى الكلام في حد الزنى وحقيقته وما للعلماء في ذلك. وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة "النساء" باتفاق.
الثانية : قوله تعالى : {مِائَةَ جَلْدَةٍ} هذا حد الزاني الحر البالغ البكر ، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرة. وثبت بالسنة تغريب عام ؛ على الخلاف في ذلك. وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة ؛ لقوله تعالى : {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء : 25] وهذا في الأمة ، ثم العبد في معناها. وأما المحصن من الأحرار فعليه الرجم دون الجلد. ومن العلماء من يقول : يجلد مائة ثم يرجم. وقد مضى هذا كله ممهدا في "النساء" فأغنى عن إعادته ، والحمد لله.
الثالثة : قرأ الجمهور {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} بالرفع. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي {الزَّانِيَةُ} بالنصب ، وهو أوجه عند سيبويه ؛ لأنه عنده كقولك : زيدا اضرب. ووجه الرفع عنده :
خبر ابتداء ، وتقديره : فيما يتلى عليكم [حكم] الزانية والزاني. وأجمع الناس على الرفع وإن كان القياس عند سيبويه النصب. وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه ، والخبر في قوله : {فَاجْلِدُوا} لأن المعنى : الزانية والزاني مجلودان بحكم الله وهو قول جيد وهو قول أكثر النحاة. وإن شئت قدرت الخبر : ينبغي أن يجلدا. وقرأ ابن مسعود {والزان} بغير ياء.
الرابعة : ذكر الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى ، والزاني كان يكفي منهما ؛ فقيل : ذكرهما للتأكيد كما قال تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة : 38] . ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظان أن الرجل لما كان هو الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حد فذكرها رفعا لهذا الإشكال الذي أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعي. فقالوا : لا كفارة على المرأة في الوطء في رمضان ؛ لأنه قال جامعت أهلي في نهار رمضان ؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "كفر" . فأمره بالكفارة ، والمرأة ليس بمجامعة ولا واطئة.
الخامسة : قدمت {الزَّانِيَةُ} في الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنى النساء فاش وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات ، وكن مجاهرات بذلك. وقيل : لأن الزنى في النساء أعر وهو لأجل الحبل أضر. وقيل : لأن الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب فصدرها تغليظا لتردع شهوتها وإن كان قد ركب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله. وأيضا فإن العار بالنساء ألحق إذ موضوعهن الحجب والصيانة فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما.
السادسة : الألف واللام في قول {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} للجنس ، وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة. ومن قال بالجلد مع الرجم قال : السنة جاءت بزيادة حكم فيقام مع الجلد. وهو قول إسحاق بن راهويه والحسن بن أبي الحسن ، وفعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه بشراحة وقد مضى في "النساء" بيانه. وقال الجمهور : هي خاصة في البكرين ، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج العبيد والإماء منها
السابعة : نص الله سبحانه وتعالى على ما يجب على الزانيين إذا شُهد بذلك عليهما على ما يأتي وأجمع العلماء على القول به. واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في ثوب واحد فقال إسحاق بن راهويه : يضرب كل واحد منهما مائة جلدة. وروي ذلك عن عمر وعلى وليس يثبت ذلك عنهما. وقال عطاء وسفيان الثوري : يؤدبان. وبه قال مالك وأحمد على قدر مذاهبهم في الأدب. قال ابن المنذر : والأكثر ممن رأيناه يرى على من وجد على هذه الحال الأدب. وقد مضى في "هود" اختيار ما في هذه المسألة ، والحمد لله وحده.
الثامنة : قوله تعالى : {فَاجْلِدُوا} دخلت الفاء لأنه موضع أمر والأمر مضارع للشرط. وقال المبرد : فيه معنى الجزاء ، أي إن زنى زان فافعلوا به كذا ، ولهذا دخلت الفاء ؛ وهكذا {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة : 38] .
التاسعة : لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه. وزاد مالك والشافعي : السادة في العبيد. قال الشافعي : في كل جلد وقطع. وقال مالك : في الجلد دون القطع. وقيل : الخطاب للمسلمين لأن إقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين ، ثم الإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود.
العاشرة : أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب. والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطا بين سوطين. لا شديدا ولا لينا. وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط ، فأتي بسوط مكسور ، فقال : "فوق هذا" فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال : "دون هذا" فأتي بسوط قد ركب به ولان. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد... "الحديث. قال أبو عمر : هكذا روى الحديث مرسلا جميع"
رواة الموطأ ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ بوجه من الوجوه ، وقد روى معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء. وقد تقدم في {المائدة} ضرب عمر قدامة في الخمر بسوط تام. يريد وسطا.
الحادية عشرة : اختلف العلماء في تجريد المجلود في الزنى ؛ فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما : يجرد ، ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب. وقال الأوزاعي : الإمام مخير إن شاء جرد وإن شاء ترك. وقال الشعبي والنخعي : لا يجرد ولكن يترك عليه قميص. قال ابن مسعود : لا يحل في الأمة تجريد ولا مد وبه فال الثوري.
الثانية عشرة : اختلف العلماء في كيفية ضرب الرجال والنساء ؛ فقال مالك : الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء لا يقام واحد منهما ؛ ولا يجزى عنده إلا في الظهر. وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف ، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال الليث وأبو حنيفة والشافعي : الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه. وحكاه المهدوي في التحصيل عن مالك. وينزع عنه الحشو والفرو. وقال الشافعي : إن كان مده صلاحا مد.
الثالثة عشرة : واختلفوا في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود ؛ فقال مالك : الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر ، وكذلك التعزير. وقال الشافعي وأصحابه : يتقى الوجه والفرج وتضرب سائر الأعضاء ؛ وروي عن علي. وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى. قال ابن عطية : والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل. واختلفوا في ضرب الرأس فقال الجمهور : يتقى الرأس. وقال أبو يوسف : يضرب الرأس. وروي عن عمر وابنه فقالا : يضرب الرأس. وضرب عمر رضي الله عنه صبيا في رأسه وكان تعزيرا لا حدا. ومن حجة مالك ما أدرك عليه الناس ، وقوله عليه السلام : "البينة وإلا حد في ظهرك" وسيأتي.
الرابعة عشرة : الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يبضع ، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه. وبه قال الجمهور ، وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما. وأتي عمر رضي الله عنه برجل في حد فأتي بسوط بين سوطين وقال للضارب : اضرب ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه. وأتي رضي الله عنه بشارب فقال : لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة فبعثه إلى مطيع بن الأسود العدوي فقال : إذا أصبحت الغد فاضربه الحد فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضربا شديدا فقال : قتلت الرجل كم ضربته ؟ فقال ستين ؛ فقال : أقص عنه بعشرين. قال أبو عبيدة : "أقص عنه بعشرين" يقول : اجعل شدة هذا الضرب الذي ضربته قصاصا بالعشرين التي بقيت ولا تضربه العشرين. وفي هذا الحديث من الفقه أن ضرب الشارب ضرب خفيف. وقد اختلف العلماء في أشد الحدود ضرباوهي :
الخامسة عشرة : فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد : الضرب في الحدود كلها سواء ضرب غير مبرح ؛ ضرب بين ضربين. هو قول الشافعي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة وأصحابه : التعزير أشد الضرب ؛ وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر ، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف. وقال الثوري : ضرب الزنى أشد من ضرب القذف ، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر. احتج مالك بورود التوقيف عل عدد الجلدات ، ولم يرد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عمن يجب التسليم له. احتج أبو حنيفة بفعل عمر ، فإنه ضرب في التعزير ضربا أشد منه في الزنى. احتج الثوري بأن الزنى لما كان أكثر عددا في الجلدات استحال أن يكون القذف أبلغ في النكاية. وكذلك الخمر ؛ لأنه لم يثبت الحد إلا بالاجتهاد ، وسبيل مسائل الاجتهاد لا يقوي قوة مسائل التوقيف.
السادسة عشرة : الحد الذي أوجب الله في الزنى والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن يقام بين أيدي الحكام ، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم يختارهم الإمام لذلك. وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شيء من ذلك ، رضي الله عنهم. وسبب ذلك أنه