
06-07-2025, 09:37 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,234
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ المؤمنون
من صــ 114 الى صــ 123
الحلقة (498)
وإن أكل تفاحا أو خوخا أو مشمشا أو تينا أو إجاصا يحنث. وكذلك البطيخ ؛ لأن هذه الأشياء كلها تؤكل على جهة التفكه قبل الطعام وبعده ؛ فكانت فاكهة. وكذلك يابس هذه الأشياء إلا البطيخ اليابس لأن ذلك لا يؤكل إلا في بعض البلدان. ولا يحنث بأكل البطيخ الهندي لأنه لا يعد من الفواكه. وإن أكل عنبا أو رمانا أو رطبا لا يحنث. وخالفه صاحباه فقالا يحنث ؛ لأن هذه الأشياء من أعز الفواكه ، وتؤكل على وجه التنعم. والإفراد لها بالذكر في كتاب الله عز جل لكمال معانيها ؛ كتخصيص جبريل وميكائيل من الملائكة. واحتج أبو حنيفة بأن قال : عطف هذه الأشياء على الفاكهة مرة فقال : {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن : 68] ومرة عطف الفاكهة على هذه الأشياء فقال : {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس : 31] والمعطوف غير المعطوف عليه ، ولا يليق بالحكمة ذكر الشيء الواحد بلفظين مختلفين في موضع المنة. والعنب والرمان يكتفى بهما في بعض البلدان فلا يكون فاكهة ؛ ولأن ما كان فاكهة لا فرق بين رطبه ويابسه ، ويابس هذه الأشياء لا يعد فاكهة فكذلك رطبها.
الآية : 20 {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}
فيه ست مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَشَجَرَةً} شجرة عطف على جنات. وأجاز الفراء الرفع لأنه لم يظهر الفعل ، بمعنى وثم شجرة ؛ ويريد بها شجرة الزيتون. وأفردها بالذكر لعظيم منافعها في أرض الشام والحجاز وغيرهما من البلاد ، وقلة تعاهدها بالسقي والحفر وغير ذلك من المراعاة في سائر الأشجار. {تَخْرُجُ} في موضع الصفة. {مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} أي أنبتها الله في الأصل من هذا الجبل الذي بارك الله فيه. وطور سيناء من أرض الشام وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ؛ قال ابن عباس وغيره ، وقد تقدم في البقرة والأعراف. والطور الجبل في كلام العرب. وقيل : هو مما عرب من كلام العجم. وقال ابن زيد : هو جبل
بيت المقدس ممدود من مصر إلى أيلة. واختلف في سيناء ؛ فقال قتادة : معناه الحسن ؛ ويلزم على هذا التأويل أن ينون الطور على النعت. وقال مجاهد : معناه مبارك. وقال معمر عن فرقة : معناه شجر ؛ ويلزمهم أن ينونوا الطور. وقال الجمهور : هو اسم الجبل ؛ كما تقول جبل أحد. وعن مجاهد أيضا : سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده. وقال مقاتل : كل جبل يحمل الثمار فهو سيناء ؛ أي حسن. وقرأ الكوفيون بفتح السين على وزن فعلاء ؛ وفعلاء في كلام العرب كثير ؛ يمنع من الصرف في المعرفة والنكرة ؛ لأن في آخرها ألف التأنيث ، وألف التأنيث ملازمة لما هي فيه ، وليس في الكلام فعلاء ، ولكن من قرأ سيناء بكسر السين جعل فعلالا ؛ فالهمزة فيه كهمزة حرباء ، ولم يصرف في هذه الآية لأنه جعل اسم بقعة 0 وزعم الأخفش أنه اسم أعجمي.
الثانية : قوله تعالى : {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} قرأ الجمهور {تَنْبُتُ} بفتح التاء وضم الباء ، والتقدير : تنبت ومعها الدهن ؛ كما تقول : خرج زيد بسلاحه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بقسم التاء وكسر الباء. واختلف في التقدير على هذه القراءة ؛ فقال أبو علي الفارسي : التقدير تنبت جناها ومعه الدهن ؛ فالمفعول محذوف. وقيل : الباء زائدة ؛ مثل {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة : 195] وهذا مذهب أبي عبيدة. وقال الشاعر :
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
وقال آخر :
هن الحرائر لا ربات أخمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ونحو هذا قال أبو علي أيضا ؛ وقد تقدم. وقيل : نبت وأنبت بمعنى ؛ فيكون المعنى كما مضى في قراءة الجمهور ، وهو مذهب الفراء وأبي إسحاق ، ومنه قول زهير :
حتى إذا أنبت البقل
والأصمعي ينكر أنبت ، ويتهم قصيدة زهير التي فيها :
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
أي نبت. وقرأ الزهري والحسن والأعرج {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} برفع التاء ونصب الباء. قال ابن جني والزجاج : هي باء الحال ؛ أي تنبت ومعها دهنها. وفي قراءة ابن مسعود : {تخرج بالدهن} وهي باء الحال. ابن درستويه : الدهن الماء اللين ؛ تنبت من الإنبات. وقرأ زر بن حيش {تُنْبِت - بضم التاء وكسر الباء - الدهن} بحذف الباء ونصبه. وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب {بالدهان} . والمراد من الآية تعديه نعمة الزيت على الإنسان ، وهي من أركان النعم التي لا غنى بالصحة عنها. ويدخل في معنى الزيتون شجر الزيت كله على اختلافه بحسب الأقطار.
الثالثة : قوله تعالى : {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} قراءة الجمهور. وقرأت فرقة {وأصباغ} بالجمع. وقرأ عامر بن عبد قيس {ومتاعا} ؛ ويراد به الزيت الذي يصطبغ به الأكل ؛ يقال : صبغ وصباغ ؛ مثل دبغ ودباغ ، ولبس ولباس. وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ ؛ حكاه الهروي وغيره. وأصل الصبغ ما يلون به الثوب ، وشبه الإدام به لأن الخبز يلون بالصبغ إذا غمس فيه. وقال مقاتل : الأدم الزيتون ، والدهن الزيت. وقد جعل الله تعالى في هذه الشجرة أدما ودهنا ؛ فالصبغ على هذا الزيتون.
الرابعة : لا خلاف أن كل ما يصطبغ فيه من المائعات كالزيت والسمن والعسل والرب والخل وغير ذلك من الأمراق أنه إدام. وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخل فقال : "نعم الإدام الخل" رواه تسعة من الصحابة ، سبعة رجال وامرأتان. وممن رواه في الصحيح جابر وعائشة وخارجة وعمر وابنه عبيدالله وابن عباس وأبو هريرة وسمرة بن جندب وأنس وأم هانئ.
الخامسة : واختلف فيما كان جامدا كاللحم والتمر والزيتون وغير ذلك من الجوامد ؛ فالجمهور أن ذلك كله إدام ؛ فمن حلف ألا يأكل إداما فأكل لححا أو جبنا حنث. وقال أبو حنيفة : لا يحنث ؛ وخالفه صاحباه. وقد روي عن أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة. والبقل
ليس بإدام في قولهم جميعا. وعن الشافعي في التمر وجهان ؛ والمشهور أنه ليس بإدام لقوله في التنبيه. وقيل يحنث ؛ والصحيح أن هذا كله إدام. وقد روى أبو داود عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة فقال : "هذا إدام هذه" . وقال صلى الله عليه وسلم : "سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم" . ذكره أبو عمر. وترجم البخاري "باب الإدام" وساق حديث عائشة ؛ ولأن الإدام مأخوذ من المؤادمة وهي الموافقة ، وهذه الأشياء توافق الخبز فكان إداما. وفي الحديث عنه عليه السلام : "ائتدموا ولو بالماء" . ولأبي حنيفة أن حقيقة الإدام الموافقة في الاجتماع على وجه لا يقبل الفصل ؛ كالخل والزيت ونحوهما ، وأما اللحم والبيض وغيرهما لا يوافق الخبز بل يجاوزه كالبطيخ والتمر والعنب. والحاصل : أن كل ما يحتاج في الأكل إلى موافقة الخبز كان إداما ، وكل ما لا يحتاج ويؤكل على حدة لا يكون إداما ، والله أعلم.
السادسة : روى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة" . هذا حديث لا يعرف إلا من حديث عبد الرزاق ، وكان يضطرب فيه ، فربما يذكر فيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وربما رواه على الشك فقال : أحسبه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وربما قال : عن زيد بن أسلم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل : خص الطور بالزيتون لأن أول الزيتون نبت منها. وقيل : إن الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان. والله أعلم.
الآيات : 21 - 27 وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ، فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ،
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ، قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ، فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
قوله تعالى : {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} تقدم القول فيهما في النحل. {وَعَلَيْهَا} أي وعلى الأنعام في البر. {وَعَلَى الْفُلْكِ} في البحر. {تُحْمَلُونَ} وإنما يحمل في البر على البر فيجوز أن ترجع الكناية إلى بعض الأنعام. وروي أن رجلا ركب بقرة في الزمان الأول فأنطقها الله تعالى معه فقالت : إنا لم نخلق لهذا! وإنما خلقت للحرث. {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} قرئ بالخفض ردا على اللفظ ، وبالرفع ردا على المعنى. وقد مضى في "الأعراف" .
قوله تعالى : {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي يسودكم ويشرف عليكم بأن يكون متبوعا ونحن له تبع. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} أي لو شاء الله ألا يعبد شيء سواه لجعل رسول ملكا. {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} أي بمثل دعوته. وقيل : ما سمعنا بمثله بشرا ؛ أي برسالة ربه. {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} أي في الأمم الماضية ؛ قال ابن عباس. والباء في {بِهَذَا} زائدة ؛ أي ما سمعنا هذا كائنا في أبائنا الأولين ، ثم عطف بعضهم على بعض فقالوا : {إِنْ هُوَ}
يعنون نوحا {إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي جنون لا يدري ما يقول . {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أي انتظروا موته. وقيل : حتى يستبين جنونه. وقال الفراء : ليس يراد بالحين ها هنا وقت بعينه ، إنما هو كقول : دعه إلى يوم ما. فقال حين تمادوا على كفرهم : {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} أي انتقم ممن لم يطعن ولم يسمع رسالتي. {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} أي أرسلنا إليه رسلا من السماء {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} على ما تقدم بيانه.
قوله تعالى : {فَاسْلُكْ فِيهَا} أي أدخل فيها واجعل فيها ؛ يقال : سلكته في كذا وأسلكته فيه في كذا وأسلكته فيه إذا أدخلته. قال عبد مناف بن ربع الهذلي :
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلا كما تطرد الجمالة الشردا
{مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} قرأ حفص { مِنْ كُلٍّ} بالتنوين ، الباقون بالإضافة ؛ وقد ذكر. وقال الحسن : لم يحتمل نوج في السفينة إلا ما يلد ويبيض ، فأما البق والذباب والدود فلم يحمل شيئا منها ، وإنما خرج من الطين. وقد مضى القول في السفينة والكلام فيها مستوفى ، والحمد لله.
الآية : 28 {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
قوله تعالى : {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ} أي علوت. {أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} راكبين. {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي احمدوا الله على تخليصه إياكم. {الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ومن الغرق. والحمد لله : كلمة كل شاكر لله. وقد مضى في الفاتحة بيانه.
الآية : 29 {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}
قوله تعالى : {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً} قراءة العامة {مُنْزَلاً} بضم الميم وفتح الزاي ، على المصدر الذي هو الإنزال ؛ أي انزلني إنزالا مباركا. وقرأ زر بن حبيش وأبو بكر
عن عاصم والمفضل {مَنْزَلاً} بفتح الميم وكسر الزاي على الموضع ؛ أي أنزلني موضعا مباركا. الجوهري : المنزل "بفتح الميم والزاي" النزول وهو الحلول ؛ تقول : نزلت نزولا ومنزلا. وقال :
أأن ذكرتك الدار منزلها جمل ... بكيت فدم العين منحدر سجل
نصب "المنزل" لأنه مصدر. وأنزل غيره واستنزله بمعنى. ونزله تنزيلا ؛ والتنزيل أيضا الترتيب. قال ابن عباس ومجاهد : هذا حين خرج من السفينة ؛ مثل قوله تعالى : {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود : 48] . وقيل : حين دخلها ؛ فعلى هذا يكون قول {مُبَارَكاً} يعني بالسلامة والنجاة.
قلت : وبالجملة فالآية تعليم من الله عز وجل لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا أن يقولوا هذا ؛ بل وإذا دخلوا بيوتهم وسلموا قالوا. وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا دخل المسجد قال : اللهم أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين.
الآية : 30 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}
قوله تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في أمر نوج والسفينة وإهلاك الكافرين. {لَآيات} أي دلالات على كمال قدرة الله تعالى ، وأنه ينصر أنبياءه ويهلك أعداءهم. {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أي ما كنا إلا مبتلين الأمم قبلكم ؛ أي مختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم ليظهر المطيع والعاصي فيتبين للملائكة حالهم ؛ لا أن يستجد الرب علما. وقيل : أي نعاملهم معاملة المختبرين. وقد تقدم هذا المعنى في "البقرة" وغيرها. وقيل : {إِنْ كُنَّا} أي وقد كنا.
الآيتان : 31 - 32 {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ، فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ}
قوله تعالى : {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي من بعد هلاك قوم نوح. {قَرْناً آخَرِينَ} قيل : هم قوم عاد. {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً} يعني هودا ؛ لأنه ما كانت أمة أنشأت في إثر قوم نوح إلا عاد. وقيل : هم قوم ثمود {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً} يعني صالحا. قالوا : والدليل عليه قوله تعالى آخر الآية {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [المؤمنون : 41] ؛ نظيرها : {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود : 67] .
قلت : وممن أخذ بالصيحة أيضا أصحاب مدين قوم شعيب ، فلا يبعد أن يكونوا هم ، والله أعلم. {مِنْهُمْ} أي من عشيرتهم ، يعرفون مولده ومنشأه ليكون سكونهم إلى قول أكثر.
الآيات : 33 - 35 {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ ، أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}
قوله تعالى : {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} أي الأشراف والقادة والرؤساء. {مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ} يريد بالبعث والحساب. {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي وسعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا وصاروا يؤتون بالترفة ، وهي مثل التحفة. {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} فلا فضل له عليكم لأنه محتاج إلى الطعام والشراب كأنتم. وزعم الفراء أن معنى {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} على حذف من ، أي مما تشربون منه ؛ وهذا لا يجوز عند البصريين ولا يحتاج إلى حذف البتة ؛ لأن {ما} إذا كان مصدرا لم يحتج إلى عائد ، فإن جعلتها بمعنى الذي حذفت المفعول ولم يحتج إلى إضمار من. {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} يريد لمغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه
من غير فضيلة له عليكم. {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} أي مبعوثون من قبوركم. و {أنّ} الأولى في موضع نصب بوقوع {يَعِدُكُمْ} عليها ، والثانية بدل منها ؛ هذا مذهب سيبويه. والمعنى : أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم. قال الفراء : وفي قراءة عبد الله {أيعدكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاماً أنكم مخرجون} ؛ وهو كقولك : أظن إن خرجت أنك نادم. وذهب الفراء والجرمي وأبو العباس المبرد إلى أن الثانية مكررة للتوكيد ، لما طال الكلام كان تكريرها حسنا. وقال الأخفش : المعنى أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما يحدث إخراجكم ؛ فـ {أنّ} الثانية في موضع رفع بفعل مضمر ؛ كما تقول : اليوم القتال ، فالمعنى اليوم يحدث القتال. وقال أبو إسحاق : ويجوز {أيعدكم إنكم إذا مِتم وكنتم تراباً وعظاماً إنكم مخرجون} ؛ لأن معنى {أَيَعِدُكُمْ} أيقول إنكم.
الآية : 36 {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}
قال ابن عباس : هي كلمة للبعد ؛ كأنهم قالوا بعيد ما توعدون ؛ أي أن هذا لا يكون ما يذكر من البعث. وقال أبو علي : هي بمنزلة الفعل ؛ أي بعد ما توعدون. وقال ابن الأنباري : وفي {هيهات} عشر لغات : هيهات لك "بفتح التاء" وهي قراءة الجماعة. وهيهاتِ لك "بخفض التاء" ؛ ويروى عن أبي جعفر بن القعقاع. وهيهاتٍ لك "بالخفض والتنوين" يروى عن عيسى ابن عمر. وهيهاتُ لك "برفع التاء" ؛ الثعلبي : وبها قرأ نصر بن عاصم وأبو العالية. وهيهات لك "بالرفع والتنوين" وبها قرأ أبو حيوة الشامي ؛ ذكره الثعلبي أيضا. وهيهاتاً لك "بالنصب والتنوين" قال الأحوص :
تذكرت أياما مضين من الصبا ... وهيهات هيهاتا إليك رجوعها
واللغة السابعة : أيهات أيهات ؛ وأنشد الفراء :
فأيهات أيهات العقيق ومن ... به وأيهات خل بالعقيق نواصله
قال المهدوي : وقرأ عيسى الهمداني {هيهاتْ هيهاتْ} بإسكان. قال ابن الأنباري : ومن العرب من يقول "أيهان" بالنون ، ومنهم من يقول "أيها" بلا نون. وأنشد الفراء :
ومن دوني الأعيان والقنع كله ... وكتمان أيها ما أشت وأبعدا
فهذه عشر لغات. فمن قال {هيهاتَ} بفتح التاء جعله مثل أين وكيف. وقيل : لأنهما أداتان مركبتان مثل خمسة عشر وبعلبك ورام هرمز ، وتقف على الثاني بالهاء ؛ كما تقول : خمس عشرة وسبع عشرة. وقال الفراء : نصبها كنصب ثمت وربت ، ويجوز أن يكون الفتح إتباعا للألف والفتحة التي قبلها. ومن كسره جعله مثل أمس وهؤلاء. قال :
وهيهات هيهات إليك رجوعها
قال الكسائي : ومن كسر التاء وقف عليها بالهاء ؛ فيقول هيهاه. ومن نصبها وقف بالتاء وإن شاء بالهاء. ومن ضمها فعلى مثل منذ وقط وحيث. ومن قرأ {هيهات} بالتنوين فهو جمع ذهب به إلى التنكير ؛ كأنه قال بعدا بعدا. وقيل : خفض ونون تشبيها بالأصوات بقولهم : غاق وطاق. وقال الأخفش : يجوز في {هيهات} أن تكون جماعة فتكون التاء التي فيها تاء الجميع التي للتأنيث. ومن قرأ {هيهاتٍ} جاز أن يكون أخلصها اسما معربا فيه معنى البعد ، ولم يجعله اسما للفعل فيبنيه. وقيل : شبه التاء بتاء الجمع ، كقوله تعالى : {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة : 198] . قال الفراء : وكأني أستحب الوقف على التاء ؛ لأن من العرب من يخفض التاء على كل حال ؛ فكأنها مثل عرفات وملكوت وما أشبه ذلك. وكان مجاهد وعيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء والكسائي وابن كثير يقفون عليها {هيهاه} بالهاء. وقد روي عن أبي عمرو أيضا أنه كان يقف على {هيهات} بالتاء ، وعليه بقية القراء لأنها حرف. قال ابن الأنباري. من جعلهما حرفا واحدا لا يفرد أحدهما من الآخر ، وقف على الثاني بالهاء ولم يقف على الأول ؛ فيقول : هيهات هيهاه ، كما يقول خمس عشرة ، على ما تقدم. ومن نوى إفراد أحدهما من الآخر وقف فيهما جميعا بالهاء والتاء ؛ لأن أصل الهاء تاء.
الآية : 37 {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|