عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 06-07-2025, 08:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ الحج
من صــ 64 الى صــ 73
الحلقة (493)






وقال عنترة :
وضربت قرني كبشها فتجدلا
أي سقط مقتولا إلى الجدالة ، وهي الأرض ؛ ومثله كثير. والوجوب للجنب بعد النحر علامة نزف الدم وخروج الروح منها ، وهو وقت الأكل ، أي وقت قرب الأكل ؛ لأنها إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شيء من الذبيحة ثم يطبخ. ولا تسلخ حتى تبرد لأن ذلك من باب التعذيب ؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه : لا تعجلوا الأنفس أن تزهق.
التاسعة : قوله تعالى : {فَكُلُوا مِنْهَا} أمر معناه الندب. وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هدية وفيه أجر وامتثال ؛ إذا كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم كما تقدم. وقال أبو العباس بن شريح : الأكل والإطعام مستحبان ، وله الاقتصار على أيهما شاء. وقال الشافعي : الأكل مستحب والإطعام واجب ، فإن أطعم جميعها أجزاه وإن أكل جميعها لم يجزه ، وهذا فيما كان تطوعا ؛ فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا حسبما تقدم بيانه. {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} قال مجاهد وإبراهيم والطبري : قوله : {وَأَطْعِمُوا} أمر إباحة. و {الْقَانِعَ} السائل. يقال : قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل ، بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل ، يقنع قناعة فهو قنع ، إذا تعفف واستغنى ببلغته ولم يسأل ؛ مثل حمد يحمد ، قناعة وقنعا وقنعانا ؛ قاله الخليل. ومن الأول قول الشماخ :
لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع
وقال ابن السكيت : من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة ، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة. وروي عن أبى رجاء أنه قرأ {وأطعِموا القَنِع} ومعنى هذا مخالف للأول.
يقال : قنع الرجل فهو قنع إذا رضي. وأما المعتر فهو الذي يطيف بك يطلب ما عندك ، سائلا كان أو ساكنا. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن : المعتر المعترض من غير سؤال. قال زهير :
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
وقال مالك : أحسن ما سمعت أن القانع الفقير ، والعتر الزائر. وروي عن الحسن أنه قرأ {والمعترِيَ} ومعناه كمعنى المعتر. يقال : اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه ؛ ذكره النحاس.
الآية : 37 {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}
فيه خمس مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا} قال ابن عباس : "كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بدماء البدن ، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك" فنزلت الآية. والنيل لا يتعلق بالبارئ تعالى ، ولكنه عبر عنه تعبيرا مجازيا عن القبول ، المعنى : لن يصل إليه. وقال ابن عباس : لن يصعد إليه. ابن عيسى : لن يقبل لحومها ولا دماءها ، ولكن يصل إليه التقوى منكم ؛ أي ما أريد به وجهه ، فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه ؛ ومنه الحديث "إنما الأعمال بالنيات" . والقراءة {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ} و {يَنَالُهُ} بالياء فيهما. وعن يعقوب بالتاء فيهما ، نظرا إلى اللحوم.
الثانية : قوله تعالى : {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} من سبحانه علينا بتذليلها وتمكيننا من تصريفها وهي أعظم منا أبدانا وأقوى منا أعضاء ، ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير ، وإنما هي بحسب ما يريدها العزيز القدير ، فيغلب الصغير الكبير ليعلم الخلق أن الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده.
الثالثة : {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها من الآية قبلها فقال عز من قائل : {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} ، وذكر هنا التكبير. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول : باسم الله والله أكبر ؛ وهذا من فقهه رضي الله عنه. وفي الصحيح عن أنس قال : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين. قال : ورأيته يذبحها بيده ، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما ، وسمى وكبر.
وقد اختلف العلماء في هذا ؛ فقال أبو ثور : التسمية متعينة كالتكبير في الصلاة ؛ وكافة العلماء على استحباب ذلك. فلو قال ذكرا أخر فيه اسم من أسماء الله تعالى وأراد به التسمية جاز. وكذلك لو قال : الله أكبر فقط ، أولا إله إلا الله ؛ قال ابن حبيب. فلو لم يرد التسمية لم يجز عن التسمية ولا تؤكل ؛ قال الشافعي ومحمد بن الحسن. وكره كافة العلماء من أصحابنا وغيرهم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند التسمية في الذبح أو ذكره ، وقالوا : لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكره ، وقالوا : لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجاز الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح.
الرابعة : ذهب الجمهور إلى أن قول المضحي : اللهم تقبل مني ؛ جائز. وكره ذلك أبو حنيفة ؛ والحجة عليه ما رواه الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ، وفيه : ثم قال "باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد" ثم ضحى به. واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة : 127] . وكره مالك قولهم : اللهم منك وإليك ، وقال : هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا والحسن ، والحجة لهما ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله قال : ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين موجوءين أملحين ، فلما وجههما قال : إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً - وقرأ إلى قوله : وأنا أول المسلمين - اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر "ثم ذبح. فلعل مالكا لم يبلغه هذا الخبر ، أو لم يصح عنده ، أو رأى العمل يخالفه. وعلى هذا يدل قوله : إنه بدعة. والله أعلم."
الخامسة : قوله تعالى : {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} روي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة ؛ حسبما تقدم في الآية التي قبلها. فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم في كل محسن.
الآية : 38 {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}
روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة ؛ أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال ؛ فنزلت هذه الآية إلى قوله : {كَفُورٍ} . فوعد فيها سبحانه بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر. وقد مضى في {الأنفال} التشديد في الغدر ؛ وأنه "ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان" . وقيل : المعنى يدفع عن المؤمنين بأن يديم توفيقهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم ، فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم ؛ وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم. وقيل : يدفع عن المؤمنين بإعلائهم بالحجة. ثم قتل كافر مؤمنا نادر ، وإن فيدفع الله عن ذلك المؤمن بأن قبضه إلى رحمته. وقرأ نافع {يُدَافِعُ} {وَلَوْلاَ دِفَاعُ} . وقرأ أبو عمرو وابن كثير {يُدَفِعُ} {وَلَوْلاَ دَفْعُ} . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {يُدَافِعُ} {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ} . ويدافع بمعنى يدفع ؛ مثل عاقبت اللص ، وعافاه الله ؛ والمصدر دفعا. وحكى الزهراوي أن {دِفَاعاً} مصدر دفع ؛ كحسب حسابا.
الآية : 39 {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} قيل : هذا بيان قوله {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم ؛ وفيه إضمار ، أي
أذن للذين يصلحون للقتال في القتال ؛ فحذف لدلالة الكلام على المحذوف. وقال الضحاك : استأذن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة ؛ فأنزل الله {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} فلما هاجر نزلت {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} . وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك صفح. وهي أول آية نزلت في القتال. قال ابن عباس وابن جبير : نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وروى النسائي والترمذي عن ابن عباس قال : "لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ليهلكن ؛ فأنزل الله تعالى : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} فقال أبو بكر : لقد علمت أنه سيكون قتال" . فقال : هذا حديث حسن. وقد روى غير واحد عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير مرسلا ، ليس فيه : عن ابن عباس.
الثانية : في هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع ، خلافا للمعتزلة ؛ لأن قوله : {أُذِنَ} معناه أبيح ؛ وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع. وقد تقدم هذا المعنى في "البقرة" وغير موضع. وقرئ {أَذِنَ} بفتح الهمزة ؛ أي أذن الله. {يُقَاتَلُونَ} بكسر التاء أي يقاتلون عدوهم. وقرئ {يُقَاتَلُونَ} بفتح التاء ؛ أي يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون. ولهذا قال : {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} أي أخرجوا من ديارهم.
الآية : 40 {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}
فيه ثمان مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} هذا أحد ما ظلموا به ؛ وإنما أخرجوا لقولهم : ربنا الله وحده. فقوله : {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} استثناء منقطع ؛ أي لكن لقولهم ربنا الله ؛ قال سيبويه. وقال الفراء يجوز أن تكون في موضع خفض ، يقدرها مردودة على الباء ؛ وهو قول أبي إسحاق الزجاج ، والمعنى عنده : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا بأن يقولوا ربنا الله ؛ أي أخرجوا بتوحيدهم ، أخرجهم أهل الأوثان. و {الَّذِينَ أُخْرِجُوا} في موضع خفض بدلا من قوله : {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} .
الثانية : قال ابن العربي : قال علماؤنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحل له الدماء ؛ إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل مدة عشرة أعوام ؛ لإقامة حجة الله تعالى عليهم ، ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء : 15] . فاستمر الناس في الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان ، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم ؛ فمنهم من فر إلى أرض الحبشة ، ومنهم من خرج إلى المدينة ، ومنهم من صبر على الأذى. فلما عتت قريش على الله تعالى وردوا أمره وكذبوا نبيه عليه السلام ، وعذبوا من آمن به ووحده وعبده ، وصدق نبيه عليه السلام واعتصم بدينه ، أذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم ، وأنزل {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا - إلى قوله - الْأُمُورِ} .
الثالثة : في هذه الآية دليل على أن نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه ؛ لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار ، لأن الكلام في معنى تقدير الذنب وإلزامه. وهذه الآية مثل قوله تعالى : {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة : 40] والكلام فيهما واحد ؛ وقد تقدم في "التوبة" والحمد لله.
الرابعة : قوله تعالى : {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء ، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات ، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم في الأمم ، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات ؛ فكأنه قال : أذن في القتال ، فليقاتل المؤمنون. ثم قوي هذا الأمر في القتال بقوله : {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} الآية ؛ أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة. فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه ؛ إذ لولا القتال لما بقي الدين الذي يذب عنه. وأيضا هذه المواضع التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى ؛ أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع ، وفي زمن محمد عليه السلام المساجد. {لَهُدِمَتْ} من هدمت البناء أي نقضته فانهدم. قال ابن عطية : هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : ولولا دفع الله بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الكفار عن التابعين فمن بعدهم. وهذا وإن كان فيه دفع قوم بقوم إلا أن معنى القتال أليق ؛ كما تقدم. وقال مجاهد لولا دفع الله ظلم قوم بشهادة العدول. وقالت فرقة : ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة. وقال أبو الدرداء : لولا أن الله عز وجل يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد ، وبمن يغزو عمن لا يغزو ، لأتاهم العذاب. وقالت فرقة : ولولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار إلى غير ذلك من التفصيل المفسر لمعنى الآية ؛ وذلك أن الآية ولا بد تقتضي مدفوعا من الناس ومدفوعا عنه ، فتأمله.
الخامسة : قال ابن خويز منداد : تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم ، ولا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن ، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا ، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها ، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها. وينقض ما وجد في بلاد الحرب من البيع والكنائس. وإنما لم ينقض
ما في بلاد الإسلام لأهل الذمة ؛ لأنها جرت مجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهدوا عليها في الصيانة. ولا يجوز أن يمكنوا من الزيادة لأن في ذلك إظهار أسباب الكفر. وجائز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه ؛ وقد فعل ذلك عثمان رضي الله عنه بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
السادسة : قرئ {لَهُدِمَتْ} بتخفيف الدال وتشديدها. { صَوَامِعُ} جمع صومعة ، وزنها فوعلة ، وهي بناء مرتفع حديد الأعلى ؛ يقال : صمع الثريدة أي رفع رأسها وحدده. ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة. والأصمع من الرجال الحديد القول. وقيل : هو الصغير الأذن من الناس وغيرهم. وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين - قال قتادة - ثم استعمل في مئذنة المسلمين. والبيع. جمع بيعة ، وهي كنيسة النصارى. وقال الطبري : قيل هي كنائس اليهود ؛ ثم أدخل عن مجاهد ما لا يقتضي ذلك.
قوله تعالى : {وَصَلَوَاتٌ} قال الزجاج والحسن : هي كنائس اليهود ؛ وهي بالعبرانية صلوتا. وقال أبو عبيدة : الصلوات بيوت تبنى للنصارى في البراري يصلون فيها في أسفارهم ، تسمى صلوتا فعربت فقيل صلوات. وفي {صلوات} تسع قراءات ذكرها ابن عطية : صلوات ، صلوات ، صلوات ، صلولي على وزن فعولي ، صلوب بالباء بواحدة جمع صليب ، صلوث بالثاء المثلثة على وزن فعول ، صلوات بضم الصاد واللام وألف بعد الواو ، صلوثا بضم الصاد واللام وقصر الألف بعد الثاء المثلثة ، [صلويثا بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء منقوطة بثلاث بعدها ألف] . وذكر النحاس : وروي عن عاصم الجحدري أنه قرأ {وصلوب} . وروي عن الضحاك {وصَلُوث} بالثاء معجمة بثلاث ؛ ولا أدري أفتح الصاد أم ضمها.
قلت : فعلى هذا تجيء هنا عشر قراءات. وقال ابن عباس : "الصلوات الكنائس" . أبو العالية : الصلوات مساجد الصابئين. ابن زيد : هي صلوات المسلمين تنقطع إذا دخل عليهم العدو وتهدم المساجد ؛ فعلى هذا استعير الهدم للصلوات من حيث تعطل ، أو أراد موضع صلوات فحذف المضاف. وعلى قول ابن عباس والزجاج وغيرهم يكون الهدم
حقيقة. وقال الحسن : هدم الصلوات تركها ، قطرب : هي الصوامع الصغار ولم يسمع لها واحد. وذهب خصيف إلى أن القصد بهذه الأسماء تقسيم متعبدات الأمم. فالصوامع للرهبان ، والبيع للنصارى ، والصلوات لليهود ، والمساجد للمسلمين. قال ابن عطية : والأظهر أنها قصد بها المبالغة في ذكر المتعبدات. وهذه الأسماء تشترك الأمم في مسمياتها ، إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في لغة العرب. ومعاني هذه الأسماء هي في الأمم التي لها كتاب على قديم الدهر. ولم يذكر في هذه الآية المجوس ولا أهل الإشراك ؛ لأن هؤلاء ليس لهم ما يجب حمايته ، ولا يوجد ذكر الله إلا عند أهل الشرائع. وقال النحاس : {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} الذي يجب في كلام العرب على حقيقة النظر أن يكون {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} عائدا على المساجد لا على غيرها ؛ لأن الضمير يليها. ويجوز أن يعود على {صوامع} وما بعدها ؛ ويكون المعنى وقت شرائعهم وإقامتهم الحق. فإن قيل : لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين ؟ قيل : لأنها أقدم بناء. وقيل لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر ؛ كما أخر السابق في قوله : {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر : 32] .
قوله تعالى : {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} أي من ينصر دينه ونبيه. {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} أي قادر. قال الخطابي : القوي يكون بمعنى القادر ، ومن قوي على شيء فقد قدر عليه. {عَزِيزٌ} أي جليل شريف ؛ قال الزجاج. وقيل الممتنع الذي لا يرام ؛ وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
الآية : 41 {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}
قال الزجاج : {الَّذِينَ} في موضع نصب ردا على {مَنْ} ، يعني في قوله : {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} . وقال غيره : {الَّذِينَ} في موضع خفض ردا على قوله : أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ ويكون {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في الأرض غيرهم. وقال ابن عباس : "المراد المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان" . وقال قتادة : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة : هم أهل الصلوات الخمس. وقال الحسن وأبو العالية : هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة. وقال ابن أبي نجيح : يعني الولاة. وقال الضحاك : هو شرط شرطه الله عز وجل على من أتاه الملك ؛ وهذا حسن. قال سهل بن عبد الله : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه. وليس على الناس أن يأمروا السلطان ؛ لأن ذلك لازم له واجب عليه ، ولا يأمروا العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم.
الآيات : 42 - 44 {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ، وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}
هذا تسليه للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية ؛ أي كان قبلك أنبياء كذبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين ، فاقتد بهم واصبر. {وَكُذِّبَ مُوسَى} أي كذبه فرعون وقومه. فأما بنو إسرائيل فما كذبوه ، فلهذا لم يعطفه على ما قبله فيكون وقوم موسى. {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أي أخرت عنهم العقوبة. {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} فعاقبتهم. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} استفهام بمعنى التغيير ؛ أي فانظر كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك ، فكذلك أفعل بالمكذبين من قريش. قال الجوهري : النكير والإنكار تغيير المنكر ، والمنكر واحد المناكير.
الآية : 45 {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.80 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.55%)]