عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 06-07-2025, 07:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ الحج
من صــ 34 الى صــ 43
الحلقة (490)






يوتها ". وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله ؛ ألا أبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس ؟ فقال :" لا ، إنما هو مناخ من سبق إليه ". وتمسك الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى : {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} الحج : 40] فأضافها إليهم. وقال عليه السلام يوم الفتح :" من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن "."
الرابعة : قرأ جمهور الناس {سواء} بالرفع ، وهو على الابتداء ، و {العاكف} خبره. وقيل : الخبر {سواء} وهو مقدم ؛ أي العاكف فيه والبادي سواء ؛ وهو قول أبي علي ، والمعنى : الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء. وقرأ حفص عن عاصم {سواء} بالنصب ، وهي قراءة الأعمش. وذلك يحتمل أيضا وجهين : أحدهما : أن يكون مفعولا ثانيا لجعل ، ويرتفع {الْعَاكِفُ} به لأنه مصدر ، فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو. والوجه الثاني : أن يكون حالا من الضمير في جعلناه. وقرأت فرقة {سواء} بالنصب {العاكِف} بالخفض ، و {البادي} عطفا على الناس ، التقدير : الذي جعلناه للناس العاكف والبادي. وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء ، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء. وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف. وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام ، واختلفوا في مكة ؛ وقد ذكرناه.
الخامسة : قوله تعالى : {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} شرط ، وجوابه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . والإلحاد في اللغة : الميل ؛ إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد. واختلف في الظلم ؛ فروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس : {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال : الشرك. وقال عطاء : الشرك والقتل. وقيل : معناه صيد حمامه ، وقطع شجره ؛ ودخول غير محرم. وقال ابن عمر : "كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان : لا والله! وبلى والله! وكلا والله! ولذلك كان له فسطاطان ، أحدهما"
في الحل والآخر في الحرم ؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم ، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل ، صيانة للحرم عن قولهم كلا والله وبلى والله ، حين عظم الله الذنب فيه. وكذلك كان لعبد بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل ، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم ، فقيل له في ذلك فقال : إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول كلا والله وبلى والله ، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات ، فتكون المعصية معصيتين ، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام ؛ وهكذا الأشهر الحرم سواء. وقد تقدم. وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه" . وهو قول عمر بن الخطاب. والعموم يأتي على هذا كله.
السادسة : ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله. وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا : لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو "بعدن أبين" لعذبه الله.
قلت : هذا صحيح ، وقد جاء هذا المعنى في سورة {نْ وَالْقَلَمِ} القلم : 1] مبينا ، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
الباء في {بِإِلْحَادٍ} زائدة كزيادتها في قوله تعالى : {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون : 20] ؛ وعليه حملوا قول الشاعر :
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أراد : نرجو الفرج. وقال الأعشى :
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا
أي رزق : وقال آخر :
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
أي ما لاقت ؛ والباء زائدة ، وهو كثير. وقال الفراء : سمعت أعرابيا وسألته عن شيء فقال : أرجو بذاك ، أي أرجو ذاك. وقال الشاعر :
بواد يمان ينبت الشث صدرة ... وأسفله بالمرخ والشبهان
أي المرخ. وهو قول الأخفش ، والمعنى عنده : ومن يرد فيه إلحادا بظلم. وقال الكوفيون : دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد ، والباء مع أن تدخل وتحذف. ويجوز أن يكون التقدير : ومن برد الناس فيه بإلحاد. وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر ؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه. ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة. هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم. وقد ذكرناه آنفا.
الآية : 26 {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم ؛ يقال : بوأته منزلا وبوأت له. كما يقال : مكنتك ومكنت لك ؛ فاللام في قوله : {لِإِبْرَاهِيمَ} صلة للتأكيد ؛ كقوله : {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل : 72] ، وهذا قول الفراء. وقيل : {بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أي أريناه أصله ليبنيه ، وكان قد درس بالطوفان وغيره ، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام أمره الله ببنيانه ، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا ، فبعث الله ريحا فكشفت عن أساس آدم عليه السلام ؛ فرتب قواعده عليه ؛ حسبما تقدم بيانه في "البقرة" . وقيل : {بَوَّأْنَا} نازلة منزلة فعل يتعدى باللام ؛ كنحو جعلنا ، أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ. وقال الشاعر :
كم من أخ لي ماجد ... بوأته بيدي لحدا
الثانية : {أَنْ لا تُشْرِكْ} هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور. وقرأ عكرمة {أَنْ لاَ يُشْرِكْ} بالياء ، على نقل معنى القول الذي قيل له. قال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة ، بمعنى لئلا يشرك. وقيل : إن "أن" مخففة من الثقيلة. وقيل مفسرة. وقيل زائدة ؛ مثل {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف : 96] . وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت ؛ أي هذا كان الشرط على أبيكم ممن بعده وأنتم ، فلم تفوا بل أشركتم. وقالت فرقة : الخطاب من قول {أَنْ لا تُشْرِكْ} لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج. والجمهور على أن ذلك لإبراهيم ؛ وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء. وقيل : عنى به التطهير عن الأوثان ؛ كما قال تعالى : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج : 30] ؛ وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام. وقيل : المعنى نزه بيتي عن أن يعبد فيه صنم. وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره من المساجد بما فيه كفاية في سورة "التوبة" . والقائمون هم المصلون. وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها ، وهو القيام والركوع والسجود.
الآية : 27 {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}
فيه سبع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} قرأ جمهور الناس {وَأَذِّنْ} بتشديد الذال. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن {وآذن } بتخفيف الذال ومد الألف. ابن عطية : وتصحف هذا على ابن جني ، فإنه حكى عنهما {وأذن} على أنه فعل ماض ، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على {بَوَّأْنَا} . والأذان الإعلام ، وقد تقدم في "التوبة"
الثانية : لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت ، وقيل له : أذن في الناس بالحج ، قال : يا رب! وما يبلغ صوتي ؟ قال : أذن وعلي الإبلاغ ؛ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح : يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار ، فحجوا ؛ فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء : لبيك اللهم لبيك! فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة ؛ إن أجاب مرة فمرة ، وإن أجاب مرتين فمرتين ؛ وجرت التلبية على ذلك ؛ قاله ابن عباس وابن جبير. وروي عن أبي الطفيل قال قال لي ابن عباس : "أتدري ما كان أصل التلبية ؟ قلت لا! قال : لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى ؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء : لبيك اللهم لبيك" . وقيل : إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله {السجود} ، ثم خاطب الله عز وجل محمدا عليه الصلاة والسلام فقال : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي أعلمهم أن عليهم الحج. وقول ثالث : إن الخطاب من قوله {أَنْ لا تُشْرِكْ} مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا قول أهل النظر ؛ لأن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك. وههنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي} بالتاء ، وهذا مخاطبة لمشاهد ، وإبراهيم عليه السلام غائب ، فالمعنى على هذا : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده. وقرأ جمهور الناس "بالحج" بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها. وقيل : إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين. والله أعلم.
الثالثة : قوله تعالى : {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب ، وإنما قال : {يَأْتُوكَ} وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادي إبراهيم ، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم ؛ لأنه أجاب نداءه ، وفيه تشريف إبراهيم. ابن عطية : {رجالاً} جمع راجل مثل تاجر وتجار ، وصاحب وصحاب. وقيل : الرجال
جمع رَجْل ، والرَّجْل جمع راجل ؛ مثل تجار وتجر وتاجر ، وصحاب وصحب وصاحب. وقد يقال في الجمع : رجال ، بالتشديد ؛ مثل كافر وكفار. وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة {رُجَالاً} بضم الراء وتخفيف الجيم ، وهو قليل في أبنية الجمع ، ورويت عن مجاهد. وقرأ مجاهد {رُجَالَى} على وزن فعالى ؛ فهو مثل كسالى. قال النحاس : في جمع راجل خمسة أوجه ، ورجالة مثل ركاب ، وهو الذي روي عن عكرمة ، ورجال مثل قيام ، ورجلة ، ورجل ، ورجالة. والذي روي عن مجاهد رجالا غير معروف ، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى ، ولو نون لكان على فعال ، وفعال في الجمع قليل. وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي. {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ} لأن معنى {ضَامِرٍ} معنى ضوامر. قال الفراء : ويجوز {يأتي} على اللفظ. والضامر : البعير المهزول الذي أتعبه السفر ؛ يقال : ضمر يضمر ضمورا ؛ فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة. وذكر سبب الضمور فقال : {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي أثر فيها طول السفر. ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها ؛ كما قال : {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} [العاديات : 1] في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله.
الرابعة : قال بعضهم : إنما قال {رِجَالاً} لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث ؛ فقول {رجالاً} من قولك : هذا رجل ؛ وهذا فيه بعد ؛ لقوله : {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} يعني الركبان ، فدخل فيه الرجال والنساء. ولما قال تعالى : {رِجَالاً} وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب. قال ابن عباس : "ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا ، فإني سمعت الله عز وجل يقول {يَأْتُوكَ رِجَالاً} . وقال ابن أبي نجيح : حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين. وقرأ أصحاب ابن مسعود {يأتون} وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك ، والضمير للناس."
الخامسة : لا خلاف في جواز. الركوب والمشي ، واختلفوا في الأفضل منهما ؛ فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل ، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكثرة
النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقة على النفس ، ولحديث أبي سعيد قال : حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة ، وقال : "اربطوا أوساطكم بأزركم" ومشى خلط الهرولة ؛ خرجه ابن ماجه في سننه. ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل ؛ للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
السادسة : استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط. قال مالك في الموازية : لا أسمع للبحر ذكرا ، وهذا تأنس ، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه ؛ وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن ؛ ولابد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر ؛ فإنما ذكرت حالتا الوصول ؛ وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوي. فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصا ، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار ، وأنه ليس بسبيل يستطاع. قال ابن عطية : وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما. ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار ؛ وهذا ضعيف.
قلت : وأضعف من ضعيف ، وقد مضى في {البقرة} بيانه. والفج : الطريق الواسعة ، والجمع فجاج. وقد مضى في {الأنبياء} . والعميق معناه البعيد. وقراءة الجماعة {يأتِين} . وقرأ أصحاب عبد الله {يأتون} وهذا للركبان و {يأتِين} للجمال ؛ كأنه قال : وعلى إبل ضامرة يأتين {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي بعيد ؛ ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر ؛ ومنه :
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
السابعة : واختلفوا في الواصل إلى البيت ، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا ؛ فروى أبو داود قال : سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال : ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا اليهود ، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ترفع الأيدي في سبع مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين" . وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر ؛ لأن مهاجرا المكي راوية مجهول. وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت. وعن ابن عباس مثله.
الآيتان : 28 - 29 {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
فيه ثلاث وعشرون مسألة : -
الأولى : قوله تعالى : {لِيَشْهَدُوا} أي أذن بالحج يأتوك رجالا وركبانا ليشهدوا ؛ أي ليحضروا. والشهود الحضور. {مَنَافِعَ لَهُمْ} أي المناسك ، كعرفات والمشعر الحرام. وقيل المغفرة. وقيل التجارة. وقيل هو عموم ؛ أي ليحضروا منافع لهم ، أي ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة ؛ قال مجاهد وعطاء واختاره ابن العربي ؛ فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى. ولا خلاف في أن المراد بقوله : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } الثانية : {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} قد مضى في "البقرة" الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات. والمراد بذكر اسم الله ذكر التسمية عند الذبح والنحر ؛ مثل
قولك : باسم الله والله أكبر ، اللهم منك ولك. ومثل قولك عند الذبح {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام : 162] الآية. وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم ، فبين الرب أن الواجب الذبح على اسم الله ؛ وقد مضى في "الأنعام" .
الثالثة : واختلف العلماء في وقت الذبح يوم النحر ؛ فقال مالك رضي الله عنه : بعد صلاة الإمام وذبحه ؛ إلا أن يؤخر تأخيرا يتعدى فيه فيسقط الاقتداء به. وراعى أبو حنيفة الفراغ من الصلاة دون ذبح. والشافعي دخول وقت الصلاة ومقدار ما توقع فيه الخطبتين ؛ فاعتبر الوقت دون الصلاة ، هذه رواية المزني عنه ، وهو قول الطبري. وذكر الربيع عن البويطي قال قال الشافعي : ولا يذبح أحد حتى يذبح الإمام إلا أن يكون ممن لا يذبح ، فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح. وهذا كقول مالك. وقال أحمد : إذا انصرف الإمام فاذبح. وهو قول إبراهيم. وأصح هذه الأقوال قول مالك ؛ لحديث جابر بن عبد الله قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة ، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر أن يعيد بنحر آخر ، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم خرجه مسلم والترمذي وقال : وفي الباب عن جابر وجندب وأنس وعويمر بن أشقر وابن عمر وأبي زيد الأنصاري ، وهذا حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم ألا يضحى بالمصر حتى يصلي الإمام. وقد احتج أبو حنيفة بحديث البراء ، وفيه : "ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين" . خرجه مسلم أيضا. فعلق الذبح على الصلاة ولم يذكر الذبح ، وحديث جابر يقيده. وكذلك حديث البراء أيضا ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا" الحديث. وقال أبو عمر بن عبد البر : لا أعلم خلافا بين العلماء أن من ذبح قبل الصلاة وكان من أهل المصر أنه غير مضح ؛ لقوله عليه السلام : "من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم"
الرابعة : وأما أهل البوادي ومن لا أمام له فمشهور مذهب مالك يتحرى وقت ذبح الإمام ، أو أقرب الأئمة إليه. وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له : إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يجزه ، ويجزيه إن ذبح بعده. وقال أهل الرأي : يجزيهم من بعد الفجر. وهو قول ابن المبارك ، ذكره عنه الترمذي. وتمسكوا بقوله تعالى : {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ، فأضاف النحر إلى اليوم. وهل اليوم من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس ، قولان. ولا خلاف أنه لا يجزى ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر من يوم النحر.
الخامسة : واختلفوا كم أيام النحر ؟ فقال مالك : ثلاثة ، يوم النحر ويومان بعده. وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل ، وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس بن مالك من غير اختلاف عنهما. وقال الشافعي : أربعة ، يوم النحر وثلاثة بعده. وبه قال الأوزاعي ، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، وروي عنهم أيضا مثل قول مالك وأحمد. وقيل : "هو يوم النحر خاصة وهو العاشر من ذي الحجة" ؛ وروي عن ابن سيرين. وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد أنهما قالا : النحر في الأمصار يوم واحد وفي منى ثلاثة أيام. وعن الحسن البصري في ذلك ثلاث روايات : إحداها : كما قال مالك ، والثانية : كما قال الشافعي ، والثالثة : إلى آخر يوم من ذي الحجة ؛ فإذا أهل هلال المحرم فلا أضحى.
قلت : وهو قول سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، ورويا حديثا مرسلا مرفوعا خرجه الدارقطني : الضحايا إلى هلال ذي الحجة ؛ ولم يصح ، ودليلنا قوله تعالى : {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} الآية ، وهذا جمع قلة ؛ لكن المتيقن منه الثلاثة ، وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به. قال أبو عمر بن عبد البر : أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى ، وأجمعوا أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة ، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان : أحدهما : قول مالك والكوفيين. والآخر : قول الشافعي والشاميين ؛ وهذان القولان مرويان




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.57 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.56%)]