عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 06-07-2025, 08:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ الحج
من صــ 24 الى صــ 33
الحلقة (489)



قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} هذه رؤية القلب ؛ أي ألم تر بقلبك وعقلك. وتقدم معنى السجود في "البقرة" ، وسجود الجماد في "النحل" . {وَالشَّمْسُ} معطوفة على "من" . وكذا {وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} . ثم قال : {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} وهذا مشكل من الإعراب ، كيف لم ينصب ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل ؛ مثل {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ؟ [الإنسان : 31] فزعم الكسائي والفراء أنه لو نصب لكان حسنا ، ولكن اختير الرفع لأن المعنى وكثير أبي السجود ، فيكون ابتداء وخبرا ، وتم الكلام عند قوله {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} . ويجوز أن يكون معطوفا ، على أن يكون السجود التذلل والانقياد لتدبير الله عز وجل من ضعف وقوة وصحة وسقم وحسن وقبح ، وهذا يدخل فيه كل شيء. ويجوز أن ينتصب على تقدير : وأهان كثيرا حق عليه العذاب ، ونحوه. وقيل : تم الكلام عند قوله {وَالدَّوُابُّ} ثم ابتدأ فقال {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} في الجنة {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} . وكذا روي عن ابن عباس أنه قال : "المعنى وكثير من الناس في الجنة وكثير حق عليه العذاب" ؛ ذكره ابن الأنباري. وقال أبو العالية : ما في السماوات نجم ولا قمر ولا شمس إلا يقع ساجدا لله حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيرجع من مطلعه ". قال القشيري : وورد هذا في خبر مسند في حق الشمس ؛ فهذا سجود حقيقي ، ومن ضرورته تركيب الحياة والعقل في هذا الساجد."
قلت : الحديث المسند الذي أشار إليه خرجه مسلم ، وسيأتي في سورة "يس" عند قوله تعالى : {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس : 38] . وقد تقدم في البقرة معنى السجود لغة ومعنى.
قوله تعالى : {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه. وقال ابن عباس : "إن من تهاون بعبادة الله صار إلى النار" .
قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} يريد أن مصيرهم إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه. وحكى الأخفش والكسائي والفراء {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} أي إكرام.
الآيات : 19 - 21 {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ، وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}
قوله تعالى : {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} خرج مسلم عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما إن {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. وبهذا الحديث ختم مسلم رحمه الله كتابه. وقال ابن عباس : "نزلت هذه الآيات الثلاث على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في ثلاثة نفر من المؤمنين وثلاثة نفر كافرين" ، وسماهم ، كما ذكر أبو ذر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : "إني لأول من يجثو للخصومة بين يدي الله يوم القيامة ؛ يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه" ؛ ذكره البخاري. وإلى هذا القول ذهب هلال بن يساف وعطاء بن يسار وغيرهما. وقال عكرمة : المراد بالخصمين الجنة والنار ؛ اختصمتا فقالت النار : خلقني لعقوبته. وقالت الجنة خلقني لرحمته.
قلت : وقد ورد بتخاصم الجنة والنار حديث عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لهذه أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها" . خرجه البخاري ومسلم والترمذي وقال : حديث حسن صحيح. وقال ابن عباس أيضا : "هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله منكم ، وأقدم منكم كتابا ، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون : نحن أحق بالله منكم ، آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل إليه من كتاب ، وأنتم تعرفون نبينا وتركتموه وكفرتم به حسدا ؛ فكانت هذه خصومتهم" ، وأنزلت فيهم هذه الآية. وهذا قول قتادة ، والقول الأول أصح رواه البخاري عن حجاج بن منهال عن هشيم عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن
قيس بن عباد عن أبي ذر ، ومسلم عن عمرو بن زرارة عن هشيم ، ورواه سليمان التيمي عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن علي قال : فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ - إلى قوله - عَذَابَ الْحَرِيقِ} . وقرأ ابن كثير {هَذَانِ خَصْمَانِ} بتشديد النون من {هَذَانِ} . وتأول الفراء الخصمين على أنهما فريقان أهل دينين ، وزعم أن الخصم الواحد المسلمون والآخر اليهود والنصارى ، اختصموا في دين ربهم ؛ قال : فقال : {اخْتَصَمُوا} لأنهم جمع ، قال : ولو قال "اختصما" لجاز. قال النحاس : وهذا تأويل من لا دراية له بالحديث ولا بكتب أهل التفسير ؛ لأن الحديث في هذه الآية مشهور ، رواه سفيان الثوري وغيره عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما إن هذه الآية نزلت في حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. وهكذا روى أبو عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس. وفيه قول رابع "أنهم المؤمنون كلهم والكافرون كلهم من أي ملة كانوا" ؛ قاله مجاهد والحسن وعطاء بن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي. وهذا القول بالعموم يجمع المنزل فيهم وغيرهم. وقيل : نزلت في الخصومة في البعث والجزاء ؛ إذ قال به قوم وأنكره قوم.
قوله تعالى : {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} يعني من الفرق الذين تقدم ذكرهم. {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} أي خيطت وسويت ؛ وشبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب. وقوله {قُطِّعَتْ} أي تقطع لهم في الآخرة ثياب من نار ؛ وذكر بلفظ الماضي لأن ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق ؛ قال الله تعالى : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة : 116] أي يقول الله تعالى. ويحتمل أن يقال قد أعدت الآن تلك الثياب لهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار. وقال سعيد بن جبير : {مِنْ نَارٍ} من نحاس ؛ فتلك الثياب من نحاس قد أذيبت وهي السرابيل المذكورة في {قَطِرَانٍ} [إبراهيم : 50] وليس في الآنية شيء إذا حمي
يكون أشد حرا منه. وقيل : المعنى أن النار قد أحاطت بهم كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم ؛ فصارت من هذا الوجه ثيابا لأنها بالإحاطة كالثياب ؛ مثل {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} [النبأ : 10] . {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} أي الماء الحار المغلى بنار جهنم. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان" . قال : حديث حسن صحيح غريب. {يُصْهَرُ} يذاب. {بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} والصهر إذابة الشحم. والصهارة ما ذاب منه ؛ يقال : صهرت الشيء فانصهر ، أي أذبته فذاب ، فهو صهير. قال ابن أحمر يصف فرخ قطاة :
تروي لقى ألقي في صفصف ... تصهره الشمس فما ينصهر
أي تذيبه الشمس فيصبر على ذلك. {وَالْجُلُودُ} أي وتحرق الجلود ، أو تشوى الجلود ؛ فإن الجلود لا تذاب ؛ ولكن يضم في كل شيء ما يليق به ، فهو كما تقول : أتيته فأطعمني ثريدا ، إي والله ولبنا قارصا ؛ أي وسقاني لبنا. وقال الشاعر :
علفتها تبنا وماء باردا
{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} أي يضربون بها ويدفعون ؛ الواحدة مقمعة ، ومقمع أيضا كالمحجن ، يضرب به على رأس الفيل. وقد قمعته إذا ضربته بها. وقمعته وأقمعته بمعنى ؛ أي قهرته وأذللته فانقمع. قال ابن السكيت : أقمعت الرجل عني إقماعا إذا طلع عليك فرددته عنك. وقيل : المقامع المطارق ، وهي المرازب أيضا. وفي الحديث "بيد كل ملك من خزنة جهنم مرزبة لها شعبتان فيضرب الضربة فيهوي بها سبعين ألفا" . وقيل : المقامع سياط من نار ، وسميت بذلك لأنها تقمع المضروب ، أي تذلله.
الآية : 22 {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}
قوله تعالى : {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ} أي من النار. {أُعِيدُوا فِيهَا} بالضرب بالمقامع. وقال أبو ظبيان : ذكر لنا أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش بهم وتفور فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان إليها بالمقامع. وقيل : إذا اشتد غمهم فيها فروا ؛ فمن خلص منهم إلى شفيرها أعادتهم الملائكة فيها بالمقامع ، ويقولون لهم {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي المحرق ؛ مثل الأليم والوجيع. وقيل : الحريق الاسم من الاحتراق. تحرق الشيء بالنار واحترق ، والاسم الحرقة والحريق. والذوق : مماسة يحصل معها إدراك الطعم ؛ وهو هنا توسع ، والمراد به إدراكهم الألم.
الآية : 23 {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}
قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} لما ذكر أحد الخصمين وهو الكافر ذكر حال الخصم الآخر وهو المؤمن. {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} {مِنْ} صلة. والأساور جمع أسورة ، وأسورة واحدها سوار ؛ وفيه ثلاث لغات : ضم السين وكسرها وإسوار. قال المفسرون : لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة ، وليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة : سوار من ذهب ، وسوار من فضة ، وسوار من لؤلؤ. قال هنا وفي فاطر :
{مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [فاطر : 33] وقال في سورة الإنسان : {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان : 21] . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول : "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" . وقيل : تحلى النساء بالذهب والرجال بالفضة. وفيه نظر ، والقرآن يرده. {وَلُؤْلُؤاً} قرأ نافع وابن القعقاع وشيبة وعاصم هنا وفي سورة الملائكة {لُؤْلُؤْاً} بالنصب ، على معنى ويخلون لؤلؤا ؛ واستدلوا بأنها مكتوبة في جميع المصاحف هنا بألف. وكذلك قرأ يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر بالنصب هنا والخفض في {فاطر} اتباعا للمصحف ، ولأنها كتبت ههنا بألف وهناك بغير ألف. الباقون بالخفض في الموضعين. وكان أبو بكر لا يهمز {اللؤلؤ} في كل القرآن ؛ وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف. قال القشيري : والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ ؛ ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت.
قلت : وهو ظاهر القرآن بل نصه. وقال ابن الأنباري : من قرأ {ولؤلؤٍ} بالخفض وقف عليه ولم يقف على الذهب. وقال السجستاني : من نصب {اللؤلؤ} فالوقف الكافي {من ذهب} ؛ لأن المعنى ويحلون لؤلؤا. قال ابن الأنباري : وليس كما قال ، لأنا إذا خفضنا {اللؤلؤ} نسقناه على لفظ الأساور ، وإذا نصبناه نسقناه على تأويل الأساور ، وكأنا قلنا : يحلون فيها أساور ولؤلؤا ، فهو في النصب بمنزلته في الخفض ، فلا معنى لقطعه من الأول.
قوله تعالى : {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي وجميع ما يلبسونه من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير ، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير. وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب فيها في الآخرة - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة" . فإن قيل : قد سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين هذه الأشياء الثلاثة وأنه يحرمها في الآخرة ؛ فهل يحرمها
إذا دخل الجنة ؟ قلنا : نعم! إذا لم يتب منها حرمها في الآخرة وإن دخل الجنة ؛ لاستعجاله ما حرم الله عليه في الدنيا. لا يقال : إنما يحرم ذلك في الوقت الذي يعذب في النار أو بطول مقامه في الموقف ، فأما إذا دخل الجنة فلا ؛ لأن حرمان شيء من لذات الجنة لمن كان في الجنة نوع عقوبة ومؤاخذة والجنة ليست بدار عقوبة ، ولا مؤاخذة فيها بوجه. فإنا نقول : ما ذكرتموه محتمل ، لولا ما جاء ما يدفع هذا الاحتمال ويرده من ظاهر الحديث الذي ذكرناه. وما رواه الأئمة من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة" . والأصل التمسك بالظاهر حتى يرد نص يدفعه ، بل قد ورد نص على صحة ما ذكرناه ، وهو ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" . وهذا نص صريح وإسناده صحيح. فإن كان "وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو الغاية في البيان ، وإن كان من كلام الراوي على ما ذكر فهو أعلى بالمقال وأقعد بالحال ، ومثله لا يقال بالرأي ، والله أعلم. وكذلك "من شرب الخمر ولم يتب" و "من استعمل آنية الذهب والفضة" وكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه ، وليس ذلك بعقوبة كذلك لا يشتهي خمر الجنة ولا حريرها ولا يكون ذلك عقوبة. وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة مستوفى ، والحمد لله ، وذكرنا فيها أن شجر الجنة وثمارها يتفتق عن ثياب الجنة ، وقد ذكرناه في سورة الكهف.
الآية : 24 {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}
قوله تعالى : {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أي أرشدوا إلى ذلك. قال ابن عباس : "يريد لا إله إلا الله والحمد لله" . وقيل : القرآن ، ثم قيل : هذا في الدنيا ، هدوا إلى الشهادة ،
وقراءة القرآن. {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي إلى صراط الله. وصراط الله : دينه وهو الإسلام. وقيل : هدوا في الآخرة إلى الطيب من القول ، وهو الحمد لله ؛ لأنهم يقولون غدا الحمد لله الذي هدانا لهذا ، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ؛ فليس في الجنة لغو ولا كذب فما يقولونه فهو طيب القول. وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله ، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله. وقيل : الطيب من القول ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة. {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي إلى طريق الجنة.
الآية : 25 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
فيه سبع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ} أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية ، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع ؛ إلا أن يريد صدهم لأفراد من الناس ، فقد وقع ذلك في صدر المبعث. والصد : المنع ؛ أي وهم يصدون. وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي. وقيل : الواو زائدة {وَيَصُدُّونَ} خبر {إِنَّ} . وهذا مفسد للمعنى المقصود ، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله {وَالْبَادِ} تقديره : خسروا إذا هلكوا. وجاء {وَيَصُدُّونَ} مستقبلا إذ هو فعل يديمونه ؛ كما جاء قوله تعالى : {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد : 28] ؛ فكأنه قال : إن الذين كفروا من شأنهم الصد. ولو قال إن الذين كفروا وصدروا لجاز. قال النحاس : وفي كتابي عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . قال أبو جعفر : وهذا غلط ، ولست أعرف ما الوجه فيه ؛ لأنه جاء بخبر {إنّ} جزما ، وأيضا
فإنه جواب الشرط ، ولو كان خبر {إن} لبقي الشرط بلا جواب ، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب.
الثانية : قوله تعالى : {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قيل : إنه المسجد نفسه ، وهو ظاهر القرآن ؛ لأنه لم يذكر غيره. وقيل : الحرم كله ؛ لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية ، فنزل خارجا عنه ؛ قال الله تعالى : {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح : 25] وقال : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء : 1] . وهذا صحيح ، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك.
الثالثة : {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} أي للصلاة والطواف والعبادة ؛ وهو كقوله تعالى : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 96] . {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} العاكف : المقيم الملازم. والبادي : أهل البادية ومن يقدم عليهم. يقول : سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد ؛ فليس أهل مكة أحق من النازح إليه. وقيل : إن المساواة إنما هي في دوره ومنازله ، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها. وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله ؛ وهذا قول مجاهد ومالك ؛ رواه عنه ابن القاسم. وروي عن عمر وابن عباس وجماعة "إلى أن القادم له النزول حيث وجد ، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى" . وقال ذلك سفيان الثوري وغيره ، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول ، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة ؛ فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال : أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله ؟ فقال : إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة ، فتركه فاتخذ الناس الأبواب. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة ، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء ، وكانت الفساطيط تضرب في الدور. وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد ؛ وهذا هو العمل اليوم. وقال بهذا جمهور من الأمة.
وهذا الخلاف يبنى على أصلين : أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس. وللخلاف سببان : أحدهما : هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم ؛ كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لاتباع ولا تكرى ، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي. أو كان فتحها صلحا - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم بأيديهم ، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاؤوا. وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنا ، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام ، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة "المائدة" . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة. وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول : لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة.
قلت : الصحيح ما قاله مالك ؛ وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة. قال أبو عبيد : ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد. وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب ؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وزاد في رواية : وعثمان. وروي أيضا عن علقمة بن نضلة الكناني قال : كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب ، لا تباع ؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وروي أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال - من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا" . قال الدارقطني : كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم فيه ، ووهم أيضا في قوله عبيدالله بن أبي يزيد وإنما هو ابن أبي زياد القداح ، والصحيح أنه موقوف ، وأسند الدارقطني أيضا عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله : "مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر"




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.08 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.54%)]