عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 06-07-2025, 08:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,520
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (11)
سُورَةُ الأنبياء
من صــ 324 الى صــ 333
الحلقة (484)



مع أنه يفتقر إلى نقل صحيح ، ولا سبيل إلى وجوده.
الثامن : أن الدود كان يتناول بدنه فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه ، فقال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} لاشتغاله عن ذكر الله ، قال ابن العربي : وما أحسن هذا لو كان له سند ولم تكن دعوى عريضة.
التاسع : أنه أبهم عليه جهة أخذ البلاء له هل هو تأديب ، أو تعذيب ، أو تخصيص ، أو تمحيص ، أو ذخر أو طهر ، فقال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} أي ضر الإشكال في جهة أخذ البلاء. قال ابن العربي : وهذا غلو لا يحتاج إليه.
العاشر : أنه قيل له سل الله العافية فقال : أقمت في النعيم سبعين سنة وأقيم في البلاء سبع سنين وحينئذ أسأله فقال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} . قال ابن العربي : وهذا ممكن ولكنه لم يصح في إقامته مدة خبر ولا في هذه القصة.
الحادي عشر : أن ضره قول إبليس لزوجه اسجدي لي فخاف ذهاب الإيمان عنها فتهلك ويبقي بغير كافل.
الثاني عشر : لما ظهر به البلاء قال قومه : قد أضر بنا كونه معنا وقذره فليخرج عنا ، فأخرجته امرأته إلى ظاهر البلد ؛ فكانوا إذا خرجوا رأوه وتطيروا به وتشاءموا برؤيته ، فقالوا : ليبعد بحيث لا نراه. فخرج إلى بعد من القرية ، فكانت امرأته تقوم عليه وتحمل قوته إليه. فقالوا : إنها تتناوله وتخالطنا فيعود بسببه ضره إلينا. فأرادوا قطعها عنه ؛ فقال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} .
الثالث عشر : قال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما. بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من نتن ريحه ، فقال أحدهما : لو علم الله في أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا البلاء ؛ فلم يسمع شيئا أشد عليه من هذه الكلمة ؛ فعند ذلك قال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} ثم قال : "اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني" فنادى مناد من السماء "أن صدق عبد ي" وهما يسمعان فخرا ساجدين.
الرابع عشر : أن معنى {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} من شماتة الأعداء ؛ ولهذا قيل له : ما كان أشد عليك في بلائك ؟ قال شماتة الأعداء. قال ابن العربي : وهذا ممكن فإن الكليم قد سأله أخوه العافية من ذلك فقال : {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} [الأعراف : 150] . الخامس عشر : أن امرأته كانت ذات ذوائب فعرفت حين منعت أن تتصرف لأحد بسببه
ما تعود به عليه ، فقطعت ذوائبها واشترت بها ممن قوتا وجاءت به إليه ، وكان يستعين بذوائبها في تصرفه وتنقله ، فلما عدمها وأراد الحركة في تنقله لم يقدر قال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} . وقيل : إنها لما اشترت القوت بذوائبها جاءه إبليس في صفة رجل وقال له : إن أهلك بغت فأخذت وحلق شعرها. فحلف أيوب أن يجلدها ؛ فكانت المحنة على قلب المرأة أشد من المحنة على قلب أيوب.
قلت : وقول سادس عشر : ذكر ابن المبارك : أخبرنا يونس بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما أيوب النبي صلى الله عليه وسلم وما أصابه من البلاء ؛ الحديث. وفيه أن بعض إخوانه ممن صابره ولازمه قال : يا نبي الله لقد أعجبني أمرك وذكرته إلى أخيك وصاحبك ، أنه قد ابتلاك بذهاب الأهل والمال وفي جسدك منذ ثمان عشرة سنة حتى بلغت ما ترى ألا يرحمك فيكشف عنك ! لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه! فقال أيوب عليه السلام : "ما أدري ما يقولان غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان وكل يحلف بالله - أو على النفر يتزاعمون - فأنقلب إلى أهلي فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد ذكره ولا يذكره أحد إلا بالحق" فنادى ربه {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} إنما كان دعاؤه عرضا عرضه على الله تبارك وتعالى يخبره بالذي بلغه ، صابرا لما يكون من الله تبارك وتعالى فيه. وذكر الحديث.
وقول سابع عشر : سمعته ولم أقف عليه أن دودة سقطت من جسده فطلبها ليردها إلى موضعها فلم يجدها فقال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} لما فقد من أجر ألم تلك الدودة ، وكان أراد أن يبقي له الأجر موفرا إلى وقت العافية ، وهذا حسن إلا أنه يحتاج إلى سند. قال العلماء : ولم يكن قوله {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} جزعا ؛ لأن الله تعالى قال : {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص : 44] بل كان ذلك دعاء منه ، والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى ، والدعاء لا ينافي الرضا. قال الثعلبي سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول : حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان ، فسألت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب كان شكاية قد قال الله تعالى : {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص : 44]
فقلت : ليس هذا شكاية وإنما كان دعاء ؛ بيانه {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه. وسئل الجند عن هذه الآية فقال : عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكوم النوال.
قوله تعالى : {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} قال مجاهد وعكرمة قيل لأيوب صلى الله عليه وسلم : قد آتيناك أهلك في الجنة فإن شئت تركناهم لك في الجنة وإن شئت آتيناكهم في الدنيا. قال مجاهد : فتركهم الله عز وجل له في الجنة وأعطاه مثلهم في الدنيا. قال النحاس : والإسناد عنهما بذلك صحيح.
قلت : وحكاه المهدوي عن ابن عباس. وقال الضحاك : قال عبد الله بن مسعود كان أهل أيوب قد ماتوا إلا امرأته فأحياهم الله عز وجل في أقل من طرف البصر ، وآتاه مثلهم معهم. وعن ابن عباس أيضا : كان بنوه قد ماتوا فأحيوا له وولد له مثلهم معهم. وقال قتادة وكعب الأحبار والكلبي وغيرهم. قال ابن مسعود : مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإناث فلما عوفي نشروا له ، وولدت امرأته سبعة بنين وسبع بنات. الثعلبي : وهذا القول أشبه بظاهر الآية.
قلت : لأنهم ماتوا ابتلاء قبل آجالهم حسب ما تقدم بيانه في سورة "البقرة" في قصة {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة : 243] . وفي قصة السبعين الذين أخذتهم الصعقة فماتوا ثم أحيوا ؛ وذلك أنهم ماتوا قبل آجالهم ، وكذلك هنا والله أعلم. وعلى قول مجاهد وعكرمة يكون المعنى : {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ} في الآخرة {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} في الدنيا. وفي الخبر : إن الله بعث إليه جبريل عليه السلام حين ركض برجله على الأرض ركضة فظهرت عين ماء حار ، وأخذ بيده ونفضه نفضة فتناثرت عنه الديدان ، وغاص في الماء غوصة فنبت لحمه وعاد إلى منزله ، ورد الله عليه أهله ومثلهم معهم ، ونشأت سحابة على قدر قواعد داره فأمطرت ثلاثة أيام بلياليها جرادا من ذهب. فقال له جبريل : أشبعت ؟ فقال : ومن
يشبع من فضل الله!. فأوحى الله إليه : قد أثنيت عليك بالصبر قبل وقوعك في البلاء وبعده ، ولولا أني وضعت تحت كل شعرة منك صبرا ما صبرت. {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا. وقيل : ابتليناه ليعظم ثوابه غدا. {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أي وتذكيرا للعباد ؛ لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب وصبره عليه ومحنته له وهو أفضل أهل زمانه وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا نحو ما فعل أيوب ، فيكون هذا تنبيها لهم على إدامة العبادة ، واحتمال الضرر. واختلف في مدة إقامته في البلاء ؛ فقال ابن عباس : كانت مدة البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال. وهب : ثلاثين سنة. الحسن سبع سنين وستة أشهر. قلت : وأصح من هذا والله أعلم ثماني عشرة سنة ؛ رواه ابن شهاب عن النبي صلى ؛ ذكره ابن المبارك وقد تقدم.
الآيتان : 85 - 86 {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ، وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}
قوله تعالى : {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ} وهو أخنوخ وقد تقدم. {وَذَا الْكِفْلِ} أي واذكرهم. وخرج الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" وغيره من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك قالت من هذا العمل والله ما عملته قط قال أأكرهتك قالت لا ولكن حملني عليه الحاجة قال اذهبي فهو لك والله لا أعصى الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن الله قد غفر لذي الكفل" وخرجه أبو عيسى الترمذي أيضا ولفظه. ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع موات - [لم أحدث به] ولكني سمعته أكثر من ذلك ؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كان"
ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أأكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك وقال والله لا أعصي الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر لذي الكفل "قال : حديث حسن. وقيل إن اليسع لما كبر قال : لو استخلفت رجلا على الناس أنظر كيف يعمل. فقال : من يتكفل لي بثلاث : بصيام النهار وقيام الليل وإلا يغضب وهو يقضي ؟ فقال رجل من ذرية العيص : أنا ؛ فرده ثم قال مثلها من الغد ؛ فقال الرجل : أنا ؛ فاستخلفه فوفي فأثنى الله عليه فسمي ذا الكفل ؛ لأنه تكفل بأمر ؛ قال أبو موسى ومجاهد وقتادة. وقال عمرو بن عبد الرحمن بن الحارث وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن ذا الكفل لم يكن نبيا ، ولكنه كان عبد ا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته ، وكان يصلي ، لله كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه قال كعب : كان في بني إسرائيل ملك كافر فمر ببلاده رجل صالح فقال : والله إن خرجت من هذه البلاد حتى أعرض على هذا الملك الإسلام. فعرض عليه فقال : ما جزائي ؟ قال : الجنة - ووصفها له - قال : من يتكفل لي بذلك ؟ قال : أنا ؛ فأسلم الملك وتخلى عن المملكة وأقبل على طاعة ربه حتى مات ، فدفن فأصبحوا فوجدوا يده خارجة من القبر وفيها رقعة خضراء مكتوب فيها بنور أبيض : إن الله قد غفر لي وأدخلني الجنة ووفى عن كفالة فلان ؛ فأسرع الناس إلى ذلك الرجل بأن يأخذ عليهم الإيمان ، ويتكفل لهم بما تكفل به للملك ، ففعل ذلك فأمنوا كلهم فسمي ذا الكفل. وقيل : كان رجلا عفيفا يتكفل بشأن كل إنسان وقع في بلاء أو تهمة أو مطالبة فينجيه الله على يديه. وقيل : سمي ذا الكفل لأن الله تعالى تكفل له في سعيه وعمله بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمانه. والجمهور على أنه ليس بنبي. وقال الحسن : هو نبي قبل إلياس. وقيل : هو زكريا بكفالة مريم. {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي على أمر الله والقيام بطاعته واجتناب معاصيه. {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} أي في الجنة {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} "
الآيتان : 87 - 88 {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}
قوله تعالى : {وَذَا النُّونِ} أي واذكر {ذَا النُّونِ} وهو لقب ليونس بن متى لابتلاع النون إياه. والنون الحوت. وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبيا مليحا فقال : دسموا نونته كي لا تصيبه العين. روى ثعلب عن ابن الأعرابي : النونة النقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير ، ومعنى دسموا سودوا.
{إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً} قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير : مغاضبا لربه عز وجل. واختاره الطبري والقتبي واستحسنه المهدوي ، وروي عن ابن مسعود. وقال النحاس : وربما أنكره هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح. والمعنى : مغاضبا من أجل ربه ، كما تقول : غضبت لك أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : "اشترطي لهم الولاء" من هذا. وبالغ القتبي في نصرة هذا القول. وفي الخبر في وصف يونس : إنه كان ضيق الصدر فلما حمل أعباء النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل ، فمضى على وجهه مضي الآبق الناد. وهذه المغاضبة كانت صغيرة. ولم يغضب على الله ولكن غضب لله إذ رفع العذاب عنهم. وقال ابن مسعود : أبق من ربه أي من أمر ربه حتى أمره بالعودة إليهم بعد رفع العذاب عنهم. فإنه كان يتوعد قومه بنزول العذاب في وقت معلوم ، وخرج من عندهم في ذلك الوقت ، فأظلهم العذاب فتضرعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم ؛ فلذلك ذهب مغاضبا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد. وقال الحسن : أمره الله تعالى بالمسيرة إلى قومه فسأل أن ينظر ليتأهب ، فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلا ليلبسها فلم ينظر ، وقيل له : الأمر أعجل من ذلك - وكان في خلقه ضيق - فخرج مغاضبا لربه ، فهذا قول وقول
النحاس أحسن ما قيل في تأويله. أي خرج مغاضبا من أجل ربه ، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه وقيل : إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه ، ولم يصبر على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء ، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير إذن من الله. روي عن ابن عباس والضحاك ، وأن يونس كان شابا ولم يحمل أثقال النبوة ؛ ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم : 48] . وعن الضحاك أيضا خرج مغاضبا لقومه ؛ لأن قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم ، وعلى كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل. وقالت فرقة منهم الأخفش : إنما خرج مغاضبا للملك الذين كان على قومه. قال ابن عباس : أراد شعيا النبي والملك الذي كان في وقته اسمه حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى ، وكان غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل ، وكان الأنبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم ، والأمر والسياسة إلى ملك قد اختاروه فيعمل على وحي ذلك النبي ، وكان أوحى الله لشعيا : أن قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا أمينا من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم. فقال يونس لشعيا : هل أمرك الله بإخراجي ؟ قال : لا. قال : فهل سماني لك ؟ قال : لا. قال فها هنا أنبياء أمناء أقوياء. فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي الملك وقومه ، فأتى بحر الروم وكان من قصته ما كان ؛ فابتلي ببطن الحوت لتركه أمر شعيا ؛ ولهذا قال الله تعالى : {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات : 142] والمليم من فعل ما يلام عليه. وكان ما فعله إما صغيرة أو ترك الأولى. وقيل : خرج ولم يكن نبيا في ذلك الوقت ولكن أمره ملك من ملوك بني إسرائيل أن يأتي نينوى ؛ ليدعو أهلها بأمر شعيا فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله ، فخرج مغاضبا للملك ؛ فلما نجا من بطن الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم وآمنوا به. وقال القشيري : والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه ، وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم ؛ فإنه كره رفع العذاب عنهم.
قلت : هذا أحسن ما قيل فيه على ما يأتي بيانه في "والصافات" إن شاء الله تعالى. وقيل : إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب ، وخرج فارا على وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر. فقال أهلها : أفيكم آبق ؟ فقال : أنا هو. وكان من قصته ما كان ، وابتلي ببطن الحوت تمحيصا من الصغيرة كما قال في أهل أحد : {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} [آل عمران : 152] إلى قوله : {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران : 141] فمعاصي الأنبياء مغفورة ، ولكن قد يجري تمحيص ويتضمن ذلك زجرا عن المعاودة. وقول رابع : إنه لم يغاضب ربه ، ولا قومه ، ولا الملك ، وأنه من قولهم غضب إذا أنف. وفاعل قد يكون من واحد ؛ فالمعنى أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف عنهم العذاب ، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج أبقا. وينشد هذا البيت :
وأغضب أن تهجي تميم بداوم
أي آنف. وهذا فيه نظر ؛ فإنه يغال لصاحب هذا القول : إن تلك المغاضبة وإن كانت من الأنفة ، فالأنفة لا بد أن يخالطها الغضب وإن ذلك دق على من كان ؟ ! وأنت تقول لم يغضب على ربه ولا على قومه.
قوله تعالى : {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} قيل : معناه استنزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا قول مردود مرغوب عنه ؛ لأنه كفر. روي عن سعيد بن جبير حكاه عنه المهدوي ، والثعلبي عن الحسن وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه : فظن أن لن نضيق عليه. الحسن : هو من قوله تعالى : {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد : 26] أي يضيق. وقوله {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق : 7] .
قلت : وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن وقدر وقدر وقتر وقتر بمعنى ، أي ضيق وهو قول ابن عباس فيما ذكره الماوردي والمهدوي. وقيل : هو من القدر الذي هو القضاء والحكم ؛ أي فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة ؛ قال قتادة ومجاهد والفراء. مأخوذ من القدر وهو الحكم
دون القدرة والاستطاعة. وروي عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب ، أنه قال في قول الله عز وجل : {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} هو من التقدير ليس من القدرة ، يقال منه : قدر الله لك الخير يقدره قدرا ، بمعنى قدر الله لك الخير. وأنشد ثعلب :
فليست عشيات اللوى برواجع ... لنا أبدا ما أورق السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
يعني ما تقدره وتقضي به يقع. وعلى هذين التأويلين العلماء. وقرأ عمر بن عبد العزيز والزهري : {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُقَدِّرَ عَلَيهِ} بضم النون وتشديد الدال من التقدير. وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس. وقرأ عبيد بن عمير وقتادة والأعرج : {أنْ لَنْ يُقَدَّرَ عَلَيهِ} بضم الياء مشددا على ، الفعل المجهول. وقرأ يعقوب وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن وابن عباس أيضا {يُقْدَرُ عَلَيْهِ} بياء مضمومة وفتح الدال مخففا على الفعل المجهول. وعن الحسن أيضا {فَظَنَّ أَنْ لَنٍْ يَقْدِر عَلَيْهِ} . الباقون {نَقْدِرَ} بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير.
قلت : وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فحرقوه "فوالله لئن قدر الله على" الحديث فعلى التأويل الأول يكون تقديره : والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك ، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني : أي لن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري. وحديثه خرجه الأئمة في الموطأ وغيره. والرجل كان مؤمنا موحدا. وقد جاء في بعض طرقه "لم يعمل خيرا إلا التوحيد" وقد قال حين قال الله تعالى : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق ؛ قال الله تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . [فاطر : 28] . وقد قيل : إن معنى {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} الاستفهام وتقديره : أفظن ، فحذف ألف الاستفهام إيجازا ؛ وهو قول سليمان "أبو" المعتمر. وحكى القاضي منذر بن سعيد : أن بعضهم قرأ "أفظن" بالألف.
قوله تعالى : {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}
فيه مسألتان : -
الأولى : قوله تعالى : {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} اختلف العلماء في جمع الظلمات ما المراد به ، فقالت فرقة منهم ابن عباس وقتادة : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة الحوت. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبد الله بن مسعود في بيت المال قال : لما ابتلع الحوت يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار الأرض ، فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى في الظلمات ظلمات ثلاث : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة الليل ، وظلمة البحر {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات : 145] كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد : ظلمة البحر ، وظلمة حوت التقم الحوت الأول. ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط ؛ كما قال : {فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف : 10] وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ. وذكر الماوردي : أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة ، وظلمة الشدة ، وظلمة الوحدة. وروي : أن الله تعالى أوحى إلى الحوت : "لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك" وروي : أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبد ي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال : لما التقم الحوت يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي فقال في دعائه : "واتخذت لك مسجدا حيث لم يتخذه أحد" . وقال أبو المعالي : قوله صلى الله عليه وسلم "لا تفضلوني على يونس بن متى" المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه ، وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.22 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.54%)]