
06-07-2025, 07:43 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (11)
سُورَةُ طه
من صــ 244 الى صــ 253
الحلقة (476)
قوله تعالى : {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} أي القرآن فلم يؤمن به ، ولم يعمل بما فيه {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} أي إثما عظيما وحملا ثقيلا. {خَالِدِينَ فِيهِ} يريد مقيمين فيه ؛ أي في جزائه وجزاؤه جهنم. {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} يريد بئس الحمل حملوه يوم القيامة. وقرأ داود بن رفيع {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ} .
قوله تعالى : {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} قراءة العامة {يُنْفَخُ} بضم الياء على الفعل المجهول. وقرأ أبو عمرو وابن إسحاق بنون مسمى الفاعل. واستدل أبو عمرو بقوله تعالى : {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ} بنون.
وعن ابن هرمز {يُنْفَخُ} بفتح الياء أي ينفخ إسرافيل. أبو عياض : {فِي الصُّورِ} . الباقون {فِي الصُّورِ} وقد تقدم. وقرأ طلحة بن مصرف {وَيُحْشَرُ} بضم الياء المجرمون رفعا بخلاف المصحف. والباقون {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ} أي المشركين. {زُرْقاً} حال من المجرمين ، والزرق خلاف الكحل. والعرب تتشاءم بزرق العيون وتذمه ؛ أي تشوه خلقتهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم. وقال الكلبي والفراء : {زُرْقاً} أي عميا. وقال الأزهري : عطاشا قد ازرقت أعينهم من شدة العطش ؛ وقاله الزجاج ؛ قال : لأن سواد العين يتغير ويزرق من العطش. وقيل : إنه الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة ، يقال : ابيضت عيني لطول انتظاري لكذا. وقول خامس : إن المراد بالزرقة شخوص البصر من شدة الخوف ؛ قال الشاعر :
لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر ... كما كل ضبي من اللؤم أزرق
يقال : رجل أزرق العين ، والمرأة زرقاء بينة الزرق. والاسم الزرقة. وقد زرقت عينه بالكسر وازرقت عينه ازرقاقا ، وازرقت عينه ازريقاقا. وقال سعيد بن جبير : قيل لابن عباس في قوله : {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} وقال في موضع آخر : {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء : 97] فقال : إن ليوم القيامة حالات ؛ فحالة يكونون فيه زرقا ، وحالة عميا. {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} أصل الخفت في اللغة السكون ، ثم قيل لمن خفض صوته خفته.
يتسارون ؛ قاله مجاهد ؛ أي يقولون بعضهم لبعض في الموقف سرا. {إِنْ لَبِثْتُمْ} أي ما لبثتم يعني في الدنيا ، وقيل في القبور {إِلَّا عَشْراً} يريد عشر ليال. وقيل : أراد ما بين النفختين وهو أربعون سنة ؛ يرفع العذاب في تلك المدة عن الكفار - في قول ابن عباس - فيستقصرون تلك المدة. أو مدة مقامهم في الدنيا لشدة ما يرون من أهوال يوم القيامة ؛ ويخيل إلى أمثلهم أي أعدلهم قولا وأعقلهم وأعلمهم عند نفسه أنهم ما لبثوا إلا يوما واحدا يعني لبثهم في الدنيا ؛ عن قتادة ؛ فالتقدير : إلا مثل يوم. وقيل : إنهم من شدة هول المطلع نسوا ما كانوا فيه من نعيم الدنيا رأوه كيوم. وقيل : أراد بيوم لبثهم ما بين النفختين ، أو لبثهم في القبور على ما تقدم. "وعشرا" و"يوما" منصوبان بـ "لبثتم".
الآيات : 105 - 107 {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ، فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ، لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً}
الآية : ]108 [ {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً}
الآية : ] 109 [ {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً}
الآية : ] 110[ {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}
قوله تعالى : {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} أي عن حال الجبال يوم القيامة. {فَقُلْ} جاء هذا بفاء وكل سؤال في القرآن {قُلْ} بغير فاء إلا هذا ، لأن المعنى إن سألوك عن الجبال فقل ، فتضمن الكلام معنى الشرط وقد علم الله أنهم يسألونه عنها ، فأجابهم قبل السؤال ، وتلك أسئلة تقدمت سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال ؛ فلذلك كان بغير فاء ، وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد ؛ فتفهمه. {يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} يطيرها. {نَسْفاً} قال ابن الأعرابي وغيره : يقلعها قلعا من أصولها ثم يصيرها رملا يسيل سيلا ، ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا قال : ولا يكون العهن من الصوف إلا المصبوغ ، ثم كالهباء المنثور. {فَيَذَرُهَا} أي يذر مواضعها {قَاعاً صَفْصَفاً} القاع الأرض الملساء
بلا نبات ولا بناء ؛ قاله ابن الأعرابي. وقال الجوهري : والقاع المستوي من الأرض والجمع أقوع وأقواع وقيعان صارت الواو ياء لكسر ما قبلها. وقال الفراء : القاع مستنقع الماء والصفصف القرعاء. الكلبي : هو الذي لا نبات فيه. وقيل : المستوي من الأرض كأنه على صف واحد في استوائه ؛ قاله مجاهد. والمعنى واحد في القاع والصفصف ؛ فالقاع الموضع المنكشف ، والصفصف المستوي الأملس. وأنشد سيبويه :
وكم دون بينك من صفصف ... ودكداك رمل وأعقادها
و {قَاعاً} نصب على الحال والصفصف. و {لا تَرَى} في موضع الصفة. {فِيهَا عِوَجاً} قال ابن الأعرابي : العوج التعوج في الفجاج. والأمت النبك. وقال أبو عمرو : الأمت النباك وهي التلال الصغار واحدها نبك ؛ أي هي أرض مستوية انخفاض فيها ولا ارتفاع. تقول : امتلأ فما به أمت ، وملأت القربة ملئا لا أمت فيه ؛ أي لا استرخاء فيه. والأمت في اللغة المكان المرتفع. وقال ابن عباس : {عِوَجاً} ميلا. قال : والأمت الأثر مثل الشراك. عنه أيضا {عِوَجاً} {وَلاَ أَمْتاً} رابية. وعنه أيضا : العوج [الانخفاض] والأمت الارتفاع. وقال قتادة : {عِوَجاً} صدعا. {وَلاَ أَمْتاً} أي أكمة. وقال يمانك الأمت الشقوق في الأرض. وقيل : الأمت أن يغلظ مكان في الفضاء أو الجبل ويدق في مكان ؛ حكاه الصولي.
قلت : وهذه الآية تدخل في باب الرقي ؛ ترقى بها الثآليل وهي التي تسمى عندنا "بالبراريق" واحدها "بروقة" ؛ تطلع في الجسد وخاصة في اليد : تأخذ ثلاثة أعواد من تبن الشعير ، يكون في طرف كل عود عقدة ، تمر كل عقدة على الثآليل وتقرأ الآية مرة ، ثم تدفن الأعواد في مكان ندي ؛ تعفن وتعفن الثآليل فلا يبقى لها أثر ؛ جربت ذلك نفسي وفي غيري فوجدته نافعا إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ} يريد إسرافيل عليه السلام إذا نفخ في الصور {لا عِوَجَ لَهُ} أي لا معدل لهم عنه ؛ أي عن دعائه لا يزيغون ولا ينحرفون بل يسرعون إليه ولا يحيدون
عنه. وعلى هذا أكثر العلماء. وقيل : {لا عِوَجَ لَهُ} أي لدعائه. وقيل : يتبعون الداعي اتباعا لا عوج له ؛ فالمصدر مضمر ؛ والمعنى : يتبعون صوت الداعي للمحشر ؛ نظيره : {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } [ق : 41] الآية. وسيأتي. {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ} أي ذلت وسكنت ؛ عن ابن عباس قال : لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع ، فكل لسان ساكت هناك للهيبة. {لِلرَّحْمَنِ} أي من أجله. {فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} الهمس الصوت الخفي ؛ قاله مجاهد. عن ابن عباس : الحس الخفي. الحسن وابن جريج : هو صوت وقع الأقدام بعضها على بعض إلى المحشر ؛ ومنه قول الراجز :
وهن يمشين بنا هميسا
يعني صوت أخفاف الإبل في سيرها. ويقال للأسد الهموس ؛ لأنه يهمس في الظلمة ؛ أي يطأ وطأ خفيا. قال رؤية يصف نفسه بالشدة :
ليث يدق الأسد الهموسا ... والأقهبين الفيل والجاموسا
وهمس الطعام ؛ أي مضغه وفوه منضم ؛ قال الراجز :
لقد رأيت عجبا مذ أمسا ... عجائزا مثل السعالي خمسا
يأكلن ما أصنع همسا همسا
وقيل : الهمس تحريك الشفة واللسان. وقرأ أبي بن كعب {فَلاَ يَنْطِقُونَ إلاَّ هَمْساً} . والمعنى متقارب ؛ أي لا يسمع لهم نطق ولا كلام ولا صوت أقدام. وبناء "هـ م س" أصله الخفاء كيفما تصرف ؛ ومنه الحروف المهموسة ، وهي عشرة يجمعها قولك : "حثه شخص فسكت" وإنما سمي الحرف مهموسا لأنه ضعف الاعتماد من موضعه حتى جرى معه النفس.
قوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} {مَنْ} في موضع نصب على الاستثناء الخارج من الأول ؛ أي لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن. {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} أي رضي قوله في الشفاعة. وقيل : المعنى ، أي إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له ، وكان له قول يرضي. قال ابن عباس : هو قول لا إله إلا الله.
قوله تعالى : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي من أمر الساعة. {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمر الدنيا قاله قتادة. وقيل : يعلم ما يصيرون إليه من ثواب أو عقاب {وَمَا خَلْفَهُمْ} ما خلفوه وراءهم في الدنيا. ثم قيل : الآية عامة في جميع الخلق. وقيل : المراد الذين يتبعون الداعي. والحمد لله.
قوله تعالى : {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} الهاء في {بِهِ} لله تعالى ؛ أي أحد لا يحيط به علما ؛ إذ الإحاطة مشعرة بالحد ويتعالى الله عن التحديد. وقيل : تعود على العلم ؛ أي أحد لا يحيط علما بما يعلمه الله. وقال الطبري الضمير في {أَيْدِيهِمْ} و {خَلْفَهُمْ} و {يُحِيطُونَ} يعود على الملائكة ؛ أعلم الله من يعبد ها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها.
الآيتان : 111 - 112 {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً}
قوله تعالى : {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} أي ذلت وخضعت ؛ قاله ابن الأعرابي وغيره. ومنه قيل للأسير عان. قال أمية بن أبي الصلت :
مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وقال أيضا :
وعنا له وجهي وخلقي كله ... في الساجدين لوجهه مشكورا
قال الجوهري عنا يعنو خضع وذل وأعناه غيره ؛ ومنه قوله تعالى : {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . ويقال أيضا : عنا فهم فلان أسيرا ؛ أي قام فيهم على إساره واحتبس. وعناه غيره تعنية حبسه. والعاني الأسير. وقوم عناة ونسوة عوان. وعنت أمور نزلت. وقال ابن عباس : {عَنَتِ} ذلت. وقال مجاهد : خشعت. الماوردي : والفرق بين الذل والخشوع - وإن تقارب معناهما - أن الذل أن يكون ذليل النفس ، والخشوع أن يتذلل لذي طاعة. وقال الكلبي {عَنَتِ} أي علمت. عطية العوفي : استسلمت. وقال طلق
ابن حبيب : إنه وضع الجبهة والأنف على الأرض في السجود. النحاس : {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} في معناه قولان : أحدهما : أن هذا في الآخرة. وروى عكرمة عن ابن عباس {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} قال : الركوع والسجود ؛ ومعنى {عَنَتِ} اللغة القهر والغلبة ؛ ومنه فتحت البلاد عنوة أي غلبة ؛ قال الشاعر :
فما أخذوها عنوة عن مودة ... ولكن ضرب المشرفي استقالها
وقيل : هو من العناء بمعنى التعب ؛ وكنى عن الناس بالوجوه ؛ لأن أثار الذل إنما تتبين في الوجه. {لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} وفي القيوم ثلاث تأويلات ؛ أحدهما : أنه القائم بتدبير الخلق. الثاني : أنه القائم على كل نفس بما كسبت. الثالث : أنه الدائم الذي لا يزول ولا يبيد. وقد مضى في "البقرة" . {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} أي خسر من حمل شركا.
قوله تعالى : {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} لأن العمل لا يقبل من غير إيمان.
و {مِنْ} في قوله {مِنَ الصَّالِحَاتِ} للتبعيض ؛ أي شيئا من الصالحات. وقيل للجنس. {فَلا يَخَافُ} قرأ ابن كثير ومجاهد وابن محيص {يَخَف} بالجزم جوابا لقوله : {وَمَنْ يَعْمَلْ} . الباقون {يَخَافُ} رفعا على الخبر ؛ أي فهو لا يخاف ؛ أو فإنه لا يخاف. {ظُلْماً} أي نقصا لثواب طاعته ، ولا زيادة عليه في سيئاته. {وَلا هَضْماً} بالانتقاص من حقه. والهضم النقص والكسر ؛ يقال : هضمت ذلك من حقي أي حططته وتركته. وهذ يهضم الطعام أي ينقص ثقله. وامرأة هضيم الكشح ضامرة البطن. الماوردي : والفرق بين الظلم والهضم أن الظلم المنع من الحق كله ، والهضم المنع من بعضه ، والهضم ظلم وإن افترقا من وجه ؛ قال المتوكل الليثي :
إن الأذلة واللئام لمعشر ... مولاهم المتهضم المظلوم
قال الجوهري ورجل هضيم ومهتضم أي مظلوم. وتهضمه أي ظلمه واهتضمه إذا ظلمه وكسر عليه حقه.
الآيتان : 113 - 114 {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}
قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ} أي كما بينا لك في هذه السورة من البيان فكذلك جعلناه {قُرْآناً عَرَبِيّاً} أي بلغة العرب. {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} أي بينا ما فيه من التخويف والتهديد والثواب والعقاب. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي يخافون الله فيجتنبون معاصيه ، ويحذرون عقابه. {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} أي موعظة. وقال قتادة : حذرا وورعا. وقيل : شرفا ؛ فالذكر ها هنا بمعنى الشرف ؛ كقول : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف 44] . وقيل : أي ليتذكروا العذاب الذي توعدوا به. وقرأ الحسن "أو نحدث" بالنون ؛ وروي عنه رفع الثاء وجزمها.
قوله تعالى : {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} لما عرف العباد عظيم نعمه ، وإنزال القرآن نزه نفسه عن الأولاد والأنداد فقال : {فَتَعَالَى اللَّهُ} أي جل الله الملك الحق ؛ أي ذو الحق. {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} علم نبيه كيف يتلقى القرآن. قال ابن عباس كان عليه السلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصا على الحفظ ، وشفقة على القرآن مخافة النسيان ، فنهاه الله عن ذلك وأنزل {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} وهذا كقوله : {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة : 16] على ما يأتي. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : لا تتله قبل أن تتبينه. وقيل : {وَلا تَعْجَلْ} أي لا تسل إنزاله {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ} أي يأتيك {وَحْيُهُ} . وقيل : المعنى لا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله. قال الحسن : نزلت في رجل لطم وجه امرأته ؛ فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لها القصاص فنزل {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء 34] ولهذا قال : {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} أي فهما ؛ لأنه عليه السلام حكم بالقصاص وأبى الله ذلك. وقرأ ابن مسعود وغيره {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَقْضِي} بالنون وكسر الضاد {وَحْيُهُ} بالنصب.
الآية : 115 {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} قرأ الأعمش باختلاف عنه {فَنَسِي} بإسكان الياء وله معنيان أحدهما : ترك ؛ أي ترك الأمر والعهد ؛ وهذا قول مجاهد وأكثر المفسرين ومنه {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} . [التوبة 67] . و [وثانيهما] قال ابن عباس "نسي" هنا من السهو والنسيان ، وإنما أخذ الإنسان منه لأنه عهد إليه فنسي. قال ابن زيد : نسى ما عهد الله إليه في ذلك ، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس. وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم عليه السلام في ذلك الوقت مأخوذا بالنسيان ، وأن كان النسيان عنا اليوم مرفوعا. ومعنى {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل أن يأكل من الشجرة ؛ لأنه نهى عنها. والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي طاعة بني آدم الشيطان أمر قديم ؛ أي إن نقض هؤلاء العهد فان آدم أيضا عهدنا إليه فنسي ؛ حكاه القشيري وكذلك الطبري. أي وإن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي ، ويخالفوا رسلي ، ويطيعوا إبليس فقدما فعل ذلك أبوهم آدم. قال ابن عطية : وهذا التأويل ضعيف ، وذلك كون آدم مثالا للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء وآدم إنما عصى بتأويل ، ففي هذا غضاضة عليه صلى الله عليه وسلم ؛ وإنما الظاهر في الآية إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله ، وإما أن يجعل تعلقه أنه لما عهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم ألا يعجل بالقرآن ، مثل له بنبي قبله عهد إليه فنسي فعوقب ؛ ليكون أشد في التحذير ، وأبلغ في العهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ والعهد ها هنا معنى الوصية ؛ "ونسي" معناه ترك ؛ ونسيان الذهول لا يمكن هنا ؛ لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب. والعزم المضي على المعتقد في أي شيء كان ؛ وآدم عليه السلام قد كان يعتقد ألا يأكل من الشجرة لكن لما وسوس إليه إبليس لم يعزم على معتقده. والشيء الذي عهد إلى آدم هو ألا يأكل من الشجرة ، وأعلم مع ذلك أن إبليس عدو له. واختلف في معنى قوله : {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} فقال ابن عباس وقتادة : لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة ، ومواظبة على التزام الأمر. قال
النحاس : وكذلك هو في اللغة ؛ يقال : لفلان عزم أي صبر وثبات على التحفظ من المعاصي حتى يسلم منها ، ومنه {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف : 35] . وعن ابن عباس أيضا وعطية العوفي : حفظا لما أمر به ؛ أي لم يتحفظ مما نهيته حتى نسي وذهب عن علم ذلك بترك الاستدلال ؛ وذلك أن إبليس قال له : أي إن أكلتها خلدت في الجنة يعني عين تلك الشجرة ، فلم يطعه فدعاه إلى نظير تلك الشجرة مما دخل في عموم النهي وكان يجب أن يستدل عليه فلم يفعل ، وظن أنها لم تدخل في النهي فأكلها تأويلا ، ولا يكون ناسيا للشيء من يعلم أنه معصية. وقال ابن زيد : {عَزْماً} محافظة على أمر الله. وقال الضحاك : عزيمة أمر. ابن كيسان : إصرارا ولا إضمارا للعود إلى الذنب. قال القشيري : والأول أقرب إلى تأويل الكلام ؛ ولهذا قال قومك آدم لم يكن من أولي العزم من الرسل ؛ لأن الله تعالى قال : {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} . وقال المعظم : كان الرسل أولو العزم ، وفي الخبر : "ما من نبي إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ما خلا يحيى بن زكريا" فلو خرج آدم بسبب خطيئته من جملة أولي العزم لخرج جميع الأنبياء سوى يحيى. وقد قال أبو أمامة : أن أحلام بني آدم جمعت منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة ، ووضعت في كفة ميزان ، ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم ؛ وقد قال الله تبارك وتعالى : {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}
الآيات : 116 - 119 {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ، فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}
قوله تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} تقدم. {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا} نهي ؛ ومجازه
لا تقبلا منه فيكون ذلك سببا لخروجكما {مِنَ الْجَنَّةِ} {فَتَشْقَى} يعني أنت وزوجك لأنهما في استواء العلة واحد ؛ وليقل : فتشقيا لأن المعنى معروف ، وآدم عليه السلام هو المخاطب ، وهو المقصود. وأيضا لما كان الكاد عليها والكاسب لها كان بالشقاء أخص. وقيل : الإخراج واقع عليهما والشقاوة على آدم وحده ، وهو شقاوة البدن ؛ ألا ترى أنه عقبه بقوله : {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} أي في الجنة {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} فأعلمه أن له في الجنة هذا كله : الكسوة والطعام والشراب والمسكن ؛ وأنك إن ضيعت الوصية ، وأطعت العدو أخرجكما من الجنة فشقيت تعبا ونصبا ، أي جعت وعريت وظمئت وأصابتك الشمس ؛ لأنك ترد إلى الأرض إذا أخرجت من الجنة. وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيان : يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج ؛ فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج ، فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية. وأعلمنا في هذه الآية أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة : الطعام والشراب والكسوة والمسكن ؛ فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها ؛ فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور ، فأما هذه الأربعة فلا بد لها منها ؛ لأن بها إقامة المهجة. قال الحسن المراد بقوله : {فَتَشْقَى} شقاء الدنيا ، لا يرى ابن آدم إلا ناصبا. وقال الفراء هو أن يأكل من كد يديه. وقال سعيد بن جبير : أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ، ويمسح العرق عن جبينه ، فهو شقاؤه الذي قال الله تبارك وتعالى. وقيل : لما أهبط من الجنة كان من أول شقائه أن جبريل أنزل عليه حبات من الجنة ؛ فقال يا آدم ازرع هذا ، فحرث وزرع ، ثم حصد ثم درس ثم نقى ثم طحن ثم عجن ثم خبز ، ثم جلس ليأكل بعد التعب ؛ فتدحرج رغيفه من يده حتى صار أسفل الجبل ، وجرى وراءه آدم حتى تعب وقد عرق جبينه ، قال : يا آدم فكذلك رزقك بالتعب والشقاء ، ورزق ولدك من بعدك ما كنت في الدنيا.
قوله تعالى : {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}
فيه مسألتان : -
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|