عرض مشاركة واحدة
  #472  
قديم 06-07-2025, 05:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (11)
سُورَةُ طه
من صــ 204 الى صــ 213
الحلقة (472)





الفراء : السلام على من اتبع الهدى ولمن اتبع الهدى سواء. {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ} يعني الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في جهنم في الآخرة. {عَلَى مَنْ كَذَّبَ} أنبياء الله {وَتَوَلَّى} أعرض عن الإيمان. وقال ابن عباس : هذه أرجى آية للموحدين لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا.
قوله تعالى : {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} ذكر فرعون موسى دون هارون لرؤوس الآي. وقيل : خصصه بالذكر لأنه صاحب الرسالة والكلام والآية. وقيل إنهما جميعا بلغا الرسالة وإن كان ساكتا ؛ لأنه في وقت الكلام إنما يتكلم واحد ، فإذا انقطع وازره الآخر وأيده. فصار لنا في هذا البناء فائدة علم ؛ أن الاثنين إذا قلدا أمرا فقام به أحدهما ، والآخر شخصه هناك موجود مستغنى عنه في وقت دون وقت أنهما أديا الأمر الذي قلدا وقاما به واستوجبا الثواب ؛ لأن الله تعالى قال : {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} وقال : {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} وقال : {فَقُولا لَهُ} فأمرهما جميعا بالذهاب وبالقول ، ثم أعلمنا في وقت الخطاب بقوله : {فَمَنْ رَبُّكُمَا} أنه كان حاضرا مع موسى. {قَالَ} موسى : {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} أي أنه يعرف بصفاته ، وليس له اسم علم حتى يقال فلان بل هو خالق العالم ، والذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة ، ولو كان الخطاب معهما لقالا : قالا ربنا "وخلقه" أول مفعولي أعطى ، أي أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به ، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به ؛ على قول الضحاك على ما يأتي. {ثُمَّ هَدَى} قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي : أعطى كل شيء زوجه من جنسه ، ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه ، وعن ابن عباس ثم هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة. وقال الحسن وقتادة : أعطى كل شيء صلاحه ، وهداه لما يصلحه. وقال مجاهد : أعطى كل شيء صورة ؛ ويجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال الشاعر :
وله في كل شيء خلقه ... وكذاك الله ما شاء فعل
يعني بالخلقة الصورة ؛ وهو قول عطية ومقتل. وقال الضحاك أعطى كل شيء خلقه من المنفعة النوطة به المطابقة له. يعني اليد للبطش ، والرجل للمشي ، واللسان للنطق ، والعين للنظر ، والأذن للسمع. وقيل : أعطى كل شيء ما ألهمه من علم أو صناعة. وقال الفراء : خلق الرجل للمرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث ثم هدى الذكر للأنثى. فالتقدير على هذا أعطى كل شيء مثل خلقه.
قلت وهذا معنى قول ابن عباس. الآية بعمومها تتناول جميع الأقوال. وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} بفتح اللام ؛ وهي قراءة ابن إسحاق. ورواها نصير عن الكسائي وغيره ؛ أي أعطى بني آدم كل شيء خلقه مما يحتاجون إليه. فالقراءتان متفقتان في المعنى.
الآيتان : 51 - 52 {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى}
الأولى : قوله تعالى : {قَالَ فَمَا بَالُ} البال الحال ؛ أي وما حالها وما شأنها ، فأعلمه أن علمها عند الله تعالى ، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه ، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو ، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم إلا ما أخبرني به علام الغيوب ، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله في اللوح المحفوظ. وقيل : المعنى فما بال القرون الأولى لم يقروا بذلك. أي فما بالهم ذهبوا وقد عبد وا غير ربك. وقيل : إنما سأل عن أعمال القرون الأولى فأعلمه أنها محصاة عند الله تعالى ، ومحفوظة عنده في كتاب. أي هي مكتوبة فسيجازيهم غدا بها وعليها. وعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. وقيل : هو كتاب مع بعض الملائكة.
الثانية : هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى. فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه. وروينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له : أنكتب ما نسمع
منك ؟ قال : وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب ؛ فقال : {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي" . وأسند الخطيب أبو بكر عن أبي هريرة قال : "كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمع منه الحديث ويعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أسمع منك الحديث يعجبني ولا أحفظه ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم" استعن بيمينك "وأومأ إلى الخط وهذا نص. وعلى جواز كتب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين ؛ وقد أمر صلى الله عليه وسلم بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه - رجل من اليمن - لما سأله كتبها. أخرجه مسلم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" قيدوا العلم بالكتابة ". وقال معاوية بن قرة : من لم يكتب العلم لم يعد علمه علما. وقد ذهب قوم إلى المنع من الكتب ؛ فروى أبو نصرة قال قيل لأبي سعيد : أنكتب حديثكم هذا ؟ قال : لم تجعلونه قرآنا ؟ ولكن احفظوا كما حفظنا. وممن كان لا يكتب الشعبي ويونس بن عبيد وخالد الحذاء - قال خالد ما كتبت شيئا قط إلا حديثا واحدا ، فلما حفظته محوته - وابن عون والزهري. وقد كان بعضهم يكتب فإذا حفظ محاه ؛ منهم محمد بن سيرين وعاصم بن ضمرة. وقال هشام بن حسان : ما كتبت حديثا قط إلا حديث الأعماق فلما حفظته محوته."
قلت : وقد ذكرنا عن خالد الحذاء مثل هذا. وحديث الأعماق خرجه مسلم في آخر الكتاب : "لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق - أو - بدابق" الحديث ذكره في كتاب الفتن. وكان بعضهم يحفظ ثم يكتب ما يحفظ منهم الأعمش وعبد الله بن أدريس وهشيم وغيرهم. وهذا احتياط على الحفظ. والكتب أولى على الجملة ، وبه وردت الآي والأحاديث ؛ وهو مروي عن عمر وعلي وجابر وأنس رضي الله عنهم ، ومن يليهم من كبراء التابعين كالحسن
وعطاء وطاوس وعروة بن الزبير ، ومن بعدهم من أهل العلم ؛ قال الله تعالى {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف : 145] . وقال تعالى : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء : 105] . وقال تعالى : {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} [الأعراف : 156] الآية. وقال تعالى : {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر : 52 - 53] . {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} إلى غير هذا من الآي. وأيضا فإن العلم لا يضبط إلا بالكتاب ، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا ، وإنما كره الكتب من كره من الصدر الأول لقرب العهد ، وتقارب الإسناد لئلا يعتمده الكاتب فيهمله ، أو يرغب عن حفظه والعمل به ؛ فأما والوقت متباعد ، والإسناد غير متقارب ، والطرق مختلفة ، والنقلة متشابهون ، وآفة النسيان معترضة ، والوهم غير مأمون ؛ فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى ، والدليل على وجوبه أقوى ؛ فإن احتج محتج بحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تكتبوا عني ومن كتب غير القرآن فليمحه" خرجه مسلم ؛ فالجواب أن ذلك كان متقدما ؛ فهو منسوخ بأمره بالكتاب ، وإباحتها لأبي شاه وغيره. وأيضا كان ذلك لئلا يخلط بالقرآن ما ليس منه. وكذا ما روي عن أبي سعيد أيضا - حرصنا أن يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأبى - إن كان محفوظا فهو قبل الهجرة ، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن.
الثالثة : قال أبو بكر الخطيب : ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد ؛ ثم الحبر خاصة دون المداد لأن السواد أصبغ الألوان ، والحبر أبقاها على مر الدهور. وهو آلة ذوي العلم ، وعدة أهل المعرفة. ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال : رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه ؛ فقال لم تخفيه وتستره ؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لأن صورته في الأبصار سواد ، وفي البصائر بياض. وقال خالد بن زيد : الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخلوق في ثوب العروس. وأخذ هذا أبو عبد الله البلوى فقال :
مداد المحابر طيب الرجال ... وطيب النساء من الزعفران
فهذا يليق بأثواب ذا ... وهذا يليق بثوب الحصان
وذكر الماوردي أن عبد الله بن سليمان حكى ؛ رأى على بعض ثيابه أثر صفرة ؛ فأخذ من مداد الدواة وطلاه به ، ثم قال : المداد بنا أحسن من الزعفران ؛ وأنشد :
إنما الزعفران عطر العذارى ... ومداد الدوي عطر الرجال
الرابعة : قوله تعالى : {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} اختلف في معناه على أقوال خمسة : الأول : إنه ابتداء كلام ، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد كان الكلام تم في قوله : {فِي كِتَابٍ} . وكذا قال الزجاج ، وأن معنى {لا يَضِلُّ} لا يهلك من قوله : {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة : 10] . {وَلا يَنْسَى} شيئا ؛ نزهه عن الهلاك والنسيان. القول الثاني "لا يضل" لا يخطئ ؛ قاله ابن عباس ؛ أي لا يخطئ في التدبير ، فمن أنظره فلحكمة أنظره ، ومن عاجله فلحكمة عاجله. القول الثالث {لا يَضِلُّ} لا يغيب. قال ابن الأعرابي : أصل الضلال الغيبوبة ؛ يقال : ضل الناسي إذا غاب عنه حفظ الشيء. قال : ومعنى {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} أي لا يغيب عنه شيء ولا يغيب عن شيء. القول الرابع : قاله الزجاج أيضا وقال النحاس أشبهها بالمعنى - أخبر الله عز وجل أنه لا يحتاج إلى كتاب ؛ والمعنى لا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا معرفتها ، ولا ينسى ما علمه منها.
قلت : وهذا القول راجع إلى معنى قول ابن الأعرابي. وقول خامس : إن {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} في موضع الصفة لـ "كتاب" أي الكتاب غير ضال عن الله عز وجل ؛ أي غير ذاهب عنه.
{وَلا يَنْسَى} أي غير ناس له فهما نعتان لـ {كِتَابٍ} . وعلى هذا يكون الكلام متصلا ، ولا يوقف على {كِتَابٍ} . تقول العرب. ضلني الشيء إذا لم أجده ، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم تجده فيه. وقرأ الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجحدري وابن كثير فيما روى شبل عنه {لاَ يُضِلُّ} بضم الياء على معنى لا يضيعه ربي ولا ينساه. قال ابن عرفة : الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد ؛ يقال : ضل عن الطريق ، وأضل الشيء إذا أضاعه. ومنه قرأ من قرأ {لاَ يُضِلُّ ربي} أي لا يضيع ؛ هذا مذهب العرب.
الآيات : 53 - 55 {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى ، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}
قوله تعالى : {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مِهَاداً} "الذي" في موضع نعت "لربي" أي لا يضل ربي الذي جعل ويجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر أي هو {الَّذِي} . ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني. وقرأ الكوفيون {مَهْداً} هنا وفي "الزخرف" بفتح الميم وإسكان الهاء. الباقون {مِهَاداً} واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لاتفاقهم على قراءة {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ : 6] . النحاس : والجمع أولى لأن {مَهْداً} مصدر وليس هذا موضع مصدر إلا على حذف ؛ أي ذات مهد. المهدوي : ومن قرأ {مَهْداً} جاز أن يكون مصدرا كالفرش أي مهد لكم الأرض مهدا ، وجاز أن يكون على تقدير حذف المضاف ؛ أي ذات مهد. ومن قرأ {مِهَاداً} جاز أن يكون مفردا كالفراش. وجاز أن يكون جمع {مهدٍ} استعمل استعمال الأسماء فكسر. ومعنى {مِهَاداً} أي فراشا وقرارا تستقرون عليها. {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي طرقا. نظيره {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً. لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح : 19 - 20] . وقال تعالى : {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف : 10] {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} وهذا آخر كلام موسى ، ثم قال الله تعالى : {فَأَخْرَجْنَا بِهِ } وقيل : كله من كلام موسى. والمعنى {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي بالحرث والمعالجة ؛ لأن الماء المنزل سبب خروج النبات. ومعنى {أَزْوَاجاً} ضروبا وأشباها ، أي أصنافا من النبات المختلفة الأزواج والألوان. وقال الأخفش التقدير أزواجا شتى من نبات. قال : وقد يكون النبات شتى ؛ فـ {شَتَّى} يجوز أن يكون نعتا لأزواج ، ويجوز أن يكون نعتا للنبات. و {شَتَّى}
مأخوذ من شت الشيء أي تفرق. يقال : أم شت أي متفرق. وشت الأمر شتا وشتاتا تفرق ؛ واستشت مثله. وكذلك التشتت. وشتته تشتيتا فرقه. وأشت بي قومي أي فرقوا أمري. والشتيت المتفرق. قال رؤبة يصف إبلا :
جاءت معا واطرقت شتيتا ... وهي تثير الساطع السختيتا
وثغر شتيت أي مفلج. وقوم شتى ، وأشياء شتى ، وتقول : جاؤوا أشتاتا ؛ أي متفرقين ؛ واحدهم شت ؛ قاله الجوهري.
قوله تعالى : {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} أمر إباحة. {وَارْعَوْا} من رعت الماشية الكلأ ، ورعاها صاحبها رعاية ؛ أي أسامها وسحرها ؛ لازم ومتعد. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} أي العقول. الواحدة نهية. قال لهم ذلك ؛ لأنهم الذين ينتهى إلى رأيهم. وقيل : لأنهم ينهون النفس عن القبائح. وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابا لقوله {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} . وبين أنه إنما يستدل على الصانع اليوم بأفعاله.
قوله تعالى : {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} يعني آدم عليه السلام لأنه خلق من الأرض ؛ قاله أبو إسحاق الزجاج وغيره. وقيل : كل نطفة مخلوقة من التراب ؛ على هذا يدل ظاهر القرآن. وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من مولود وقد ذر عليه من تراب حفرته" أخرجه أبو نعيم الحافظ في باب ابن سيرين ، وقال : هذا حديث غريب من حديث عون لم نكتبه إلا من حديث أبي عاصم النبيل ، وهو أحد الثقات الأعلام من البصرة. وقد مضى. عن ابن مسعود. وقال عطاء الخراساني : إذا وقعت النطفة الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة ومن التراب ؛ فذلك قوله تعالى : {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} . وفي حديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن العبد المؤمن إذا خرجت روحه صعدت به الملائكة فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة"
إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا فيستفتحون لها فيستفتحون فيفتح فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل "اكتبوا لعبد ي كتابا في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى" فتعاد روحه في جسده "وذكر الحديث. وقد ذكرناه بتمامه في كتاب "التذكرة" وري من حديث علي رضي الله عنه ؛ ذكره الثعلبي. ومعنى { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي بعد الموت {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} أي للبعث والحساب. {تَارَةً أُخْرَى} يرجع هذا إلى قوله : {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} لا إلى {نُعِيدُكُمْ} . وهو كقولك اشتريت ناقة ودارا وناقة أخرى ؛ فالمعنى : من الأرض أخرجناكم ونخرجكم بعد الموت من الأرض تارة أخرى."
الآيات : 56 - 58 {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ، قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً}
الآية : ]59 [ {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً}
الآية : ] 60 [ {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى}
الآية : ] 61 [ {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} أي المعجزات الدالة على نبوة موسى وقيل حجج الله الدالة على توحيده {فَكَذَّبَ وَأَبَى} أي لم يؤمن وهذا يدل على أنه كفر عنادا لأنه رأى الآيات عيانا لا خبرا نظيره {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل : 14] .
قوله تعالى : {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} لما رأى الآيات التي أتاه بها موسى قال : إنها سحر ؛ والمعنى : جئت لتوهم الناس أنك جئت بآية توجب اتباعك والإيمان بك ، حتى تغلب على أرضنا وعلينا. {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} أي لنعارضنك
بمثل ما جئت به ليتبين للناس أن ما أتيت به ليس من عند الله. {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} هو مصدر ؛ أي وعدا. وقيل : الموعد اسم لمكان الوعد ؛ كما قال تعالى : {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر : 43] فالموعد ها هنا مكان. وقيل : الموعد اسم لزمان الوعد ؛ كقوله تعالى : {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ } [هود : 81] فالمعنى : اجعل لنا يوما معلوما ، أو مكانا معروفا. قال القشيري : والأظهر أنه مصدر ولهذا قال : {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ} أي لا نخلف ذلك الوعد ، والإخلاف أن يعد شيئا ولا ينجزه. وقال الجوهري والميعاد المواعدة والوقت والموضع وكذلك الموعد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج {لا نُخْلِفُهُ} بالجزم جوابا لقوله {اجْعَلْ} ومن رفع فهو نعت لـ {مَوْعِد} والتقدير. موعدا غير مخلف. {مَكَاناً سُوَىً} قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة {سُوًى} بضم السين. الباقون بكسرها ؛ وهما لغتان مثل عدا وعدا وطوى وطوى. واختار أبو عبيد وأبو حاتم كسر السين لأنها اللغة العالية الفصيحة. وقال النحاس والكسر أعرف وأشهر. وكلهم نونوا الواو ، وقد روي عن الحسن ، واختلف عنه ضم السين بغير تنوين. واختلف في معناه فقيل : سوى هذا المكان ؛ قال الكلبي. وقيل مكانا مستويا يتبين للناس ما بينا فيه ؛ قال ابن زيد. ابن عباس : نصفا. مجاهد : منصفا ؛ وعنه أيضا وقتادة عدلا بيننا بينك. قال النحاس : وأهل التفسير على أن معنى {سُوى} نصف وعدل وهو قول حسن ؛ قال سيبويه يقال : سوى وسوى أي عدل ؛ يعني مكانا عدل ؛ بين المكانين فيه النصفة ؛ وأصله من قولك : جلس في سواء الدار بالمد أي في وسطها ؛ ووسط كل شيء أعدله ؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة : 143] أي عدلا ، وقال زهير :
أرونا خطة لا ضيم فيها ... يسوي بيننا فيها السواء
وقال أبو عبيدة والقتبي : وسطا بين الفريقين ؛ وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي :
وإن أبانا كان حل ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
والفزر : سعد بن زيد مناة بن تميم. وقال الأخفش : "سوى" إذا كان بمعنى غير أو بمعنى العدل يكون فيه ثلاث لغات : إن ضممت السين أو كسرت قصرت فيهما جميعا. وإن فتحت مددت ، تقول : مكان سوى وسوى وسواء ؛ أي عدل ووسط فيما بين الفريقين. قال موسى بن جابر :
وجدنا أبانا كان حل ببلدة
البيت. وقيل : {مَكَاناً سُوَىً} أي قصدا ؛ وأنشد صاحب هذا القول :
لو تمنت حبيبتي ما عدتني ... أو تمنيت ما عدوت سواها
وتقول : مررت برجل سواك وسواك وسوائك أي غيرك. وهما في هذا الأمر سواء وإن شئت سواءان. وهم سواء للجمع وهم أسواء ؛ وهم سواسية مثل ثمانية على غير قياس. وانتصب {مَكَاناً} على المفعول الثاني لـ {جعل} . ولا يحسن انتصابه بالموعد على أنه مفعول أو ظرف له ؛ لأن الموعد قد وصف ، والأسماء التي تعمل عمل الأفعال إذا وصفت أو صغرت لم يسغ أن تعمل لخروجها عن شبه الفعل ، ولم يحسن حمله على أنه ظرف وقع موقع المفعول الثاني ؛ لأن الموعد إذا وقع بعده ظرف لم تجره العرب مجرى المصادر مع الظروف ، لكنهم يتسعون فيه كقوله تعالى : {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} [هود : 81] قوله تعالى : {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} واختلف في يوم الزينة ، فقيل هو يوم عيد كان لهم يتزينون ويجتمعون فيه ؛ قاله قتادة والسدي وغيرهما. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : كان يوم عاشوراء. وقال سعيد بن المسيب : يوم سوق كان لهم يتزينون فيها ؛ وقاله قتادة أيضا. وقال الضحاك : يوم السبت. وقيل : يوم النيروز ؛ ذكره الثعلبي. وقيل : يوم يكسر فيه الخليج ؛ وذلك أنهم كانوا يخرجون فيه يتفرجون ويتنزهون ؛ وعند ذلك تأمن الديار المصرية من قبل النيل. وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي والسلمي وهبيرة عن حفص {يَوْمُ الزِّينَةِ} بالنصب. ورويت عن أبي عمرو ؛ أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا. الباقون بالرفع على أنه خبر الابتداء. {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} أي وجمع الناس ؛ فـ {أَنْ} في موضع رفع على قراءة {يَوْمُ} بالرفع. وعطف {وَأَنْ يُحْشَرَ} يقوي قراءة الرفع ؛ لأن {أَنْ} لا تكون ظرفا ، وإن كان المصدر الصريح يكون ظرفا كمقدم الحاج ؛ لأن من قال أتيك مقدم الحاج لم يقل آتيك أن يقدم الحاج. النحاس : وأولى هذا أن يكون في موضع خفض عطفا على الزينة. والضحا مؤنثة تصغرها العرب بغير هاء لئلا يشبه تصغيرها ضحوة ؛ قاله النحاس. وقال الجوهري :



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.65 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.02 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.41%)]