عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 06-07-2025, 05:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,690
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (11)
سُورَةُ طه
من صــ 194 الى صــ 203
الحلقة (471)






وكان هارون أكثر لحما من موسى ، وأتم طولا ، وأبيض جسما ، وأفصح لسانا. ومات قبل موسى بثلاث سنين وكان في جبهة هارون شامة ، وعلى أرنبة أنف موسى شامة ، وعلى طرف لسانه شامة ، ولم تكن على أحد قبله ولا تكون على أحد بعده ، وقيل : إنها كانت سبب العقدة التي في لسانه. والله أعلم. {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} أي في النبوة وتبليغ الرسالة. قال المفسرون كان هارون يومئذ بمصر ، فأمر الله موسى أن يأتي هو هارون ، وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى ، فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحى إليه ؛ فقال له موسى : إن الله أمرني أن آتي فرعون فسألت ربي أن يجعلك معي رسولا. وقرأ العامة {أَخِي اشْدُدْ} بوصل الألف {وَأَشْرِكْهُ} بفتح الهمزة على الدعاء ، أي أشدد يا رب أزري وأشركه معي في أمري. وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحرث وأبو حيوة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق {أشْدُدْ} بقطع الألف {وَأُشْركْهُ} أي أنا يا رب {فِي أَمْرِي} . قال النحاس : جعلوا الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله : {اجْعَلْ لِي وَزِيراً} وهذه القراءة شاذة بعيدة ؛ لأن جواب مثل هذا إنما يتخرج بمعنى الشرط والمجازاة ؛ فيكون المعنى : إن تجعل لي وزيرا من أهلي أشدد به أزري ، وأشركه في أمري. وأمره النبوة والرسالة ، وليس هذا إليه صلى الله عليه وسلم فيخبر به ، إنما سأل الله عز وجل أن يشركه معه في النبوة. وفتح الياء من {أَخِي} ابن كثير وأبو عمر. {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً} قيل : معنى {نُسَبِّحَكَ} نصلي لك. ويحتمل أن يكون التسبيح باللسان. أي ننزهك عما لا يليق بجلالك. و {كَثِيراً} نعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نعتا لوقت. والإدغام حسن. وكذا {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} . {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} قال الخطابي : البصير المبصر ، والبصير العالم بخفيات الأمور ، فالمعنى ؛ أي عالما بنا ، ومدركا لنا في صغرنا فأحسنت إلينا ، فأحسن إلينا كذلك يا رب.
الآيات : 36 - 39 قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ،
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي
الآية : 40 {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}
الآية : 41 {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}
الآية : 42 {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي}
قوله تعالى : {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} لما سأله شرح الصدر ، وتيسير الأمر إلى ما ذكر ، أجاب سؤله ، وأتاه طلبته ومرغوبه. والسؤل الطلبة ؛ فعل بمعنى مفعول ، كقولك خبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول. وقوله تعالى : {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} أي قبل هذه ، وهي حفظه سبحانه له من شر الأعداء في الابتداء ؛ وذلك حين الذبح. والله أعلم. والمن الإحسان والإفضال. وقوله : {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} قيل : {أ َوْحَيْنَا} ألهمنا وقيل : أوحى إليها في النوم. وقال ابن عباس : أوحى إليها كما أوحى إلى النبيين. {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} قال مقاتل : مؤمن آل فرعون هو الذي صنع التابوت ونجره وكان اسمه حزقيل. وكان التابوت من جميز. {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} أي اطرحيه في البحر : نهر النيل. {فَاقْذِفِيهِ} قال الفراء : {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} أمر وفيه معنى المجازاة. أي اقذفيه يلقه اليم. وكذا قوله : {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت : 12] . {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} يعني فرعون ؛ فاتخذت تابوتا ، وجعلت فيه نطعا ووضعت فيه موسى ، وقيرت رأسه وخصاصه يعني شقوقه ثم ألقته في النيل ، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فساقه الله في ذلك النهر إلى دار فرعون. وروي أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا ، فوضعته فيه وقيرته وجصصته ، ثم ألقته في اليم. وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير ، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية ، إذا بالتابوت ، فأمر به فأخرج ، ففتح فإذا صبي أصبح
الناس ، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر القرآن يدل على أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه ، فرأى فرعون التابوت بالساحل فأمر بأخذه. ويحتمل أن يكون إلقاء اليم بموضع من الساحل ، فيه فوهة نهر فرعون ، ثم أداه النهر إلى حيث البركة. والله أعلم. وقيل : وجدته ابنة فرعون وكان بها برص ، فلما فتحت التابوت شفيت. وروي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه ، وعالجوا كسره فأعياهم ، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا فعالجته ففتحته ، فإذا صبي نوره بين عينيه ، وهو يمص إبهامه لبنا فأحبوه. وكانت لفرعون بنت برصاء ، وقال له الأطباء : لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه ؛ فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرئت. وقيل : لما نظرت إلى وجهه برئت. والله أعلم. وقيل : وجدته جوار لامرأة فرعون ، فلما نظر إليه فرعون فرأى صبيا من أصبح الناس وجها ، فأحبه فرعون. فذلك قوله تعالى : {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} قال ابن عباس : أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال ابن عطية : جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة : كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه. وقال عكرمة : المعنى جعلت في حسنا وملاحة فلا يراك أحد إلا أحبك. وقال الطبري : المعنى ألقيت عليك رحمتي. وقال ابن زيد : جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره ، وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك. {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} قال ابن عباس : يريد أن ذلك بعيني حيث جعلت في التابوت ، وحيث ألقي التابوت في البحر ، وحيث التقطك جواري امرأة فرعون ؛ فأردن أن يفتحن التابوت لينظرن ما فيه ، فقالت منهن واحدة : لا تفتحنه حتى تأتين به سيدتكن فهو أحظى لكن عندها ، وأجدر بألا تتهمكن بأنكن وجدتن فيه شيئا فأخذتموه لأنفسكن. وكانت امرأة فرعون لا تشرب من الماء إلا ما استقينه أولئك الجواري فذهبن بالتابوت إليها مغلقا ، فلما فتحته رأت صبيا لم ير مثله قط ؛ وألقي عليها محبته فأخذته فدخلت به على فرعون ، فقالت له : [القصص : 9] {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} قال لها فرعون : أما لك فنعم ، وأما لي فلا. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو أن فرعون قال"
نعم هو قرة عين لي ولك لآمن وصدق "فقالت : هبه لي ولا تقتله ؛ فوهبه لها. وقيل : {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي تربى وتغذى على مرأى مني ؛ قاله قتادة. قال النحاس : وذلك معروف في اللغة ؛ يقال : صنعت الفرس وأصنعت إذا أحسنت القيام عليه. والمعنى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} فعلت ذلك. وقيل : اللام متعلقة بما بعدها من قوله : {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} على التقديم والتأخير فـ {إِذْ} ظرف {لِتُصْنَعَ} . وقيل : الواو في {وَلِتُصْنَعَ} زائدة. وقرأ ابن القعقاع {وَلِتُصْنَعَ} بإسكان اللام على الأمر ، وظاهره للمخاطب والمأمور غائب. وقرأ أبو نهيك {وَلِتُصْنَعَ} بفتح التاء. والمعنى ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئي وعلى عين مني. ذكره المهدوي. قوله تعالى : {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} العامل في {إِذْ تَمْشِي} {لْقَيْتُ} أو {تُصْنَعَ} . ويجوز أن يكون بدلا من {إِذْ أَوْحَيْنَا} وأخته اسمها مريم {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} وذلك أنها خرجت متعرفة خبره ، وكان موسى لما وهبه فرعون من امرأته طلبت له المراضع ، كان لا يأخذ من أحد حتى أقبلت أخته ، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها فمصه وفرح به. فقالوا لها : تقيمين عندنا ؛ فقالت : إنه لا لبن لي ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون. قالوا : ومن هي ؟ . قالت : أمي. فقالوا : لها لبن ؟ قالت : لبن أخي هارون. وكان هارون أكبر من موسى بسنة. وقيل بثلاث. وقيل بأربع. وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين ، فولد هارون فيها ؛ قال ابن عباس : فجاءت الأم فقبل ثديها. فذلك قوله تعالى : {فرجعناك إلى أمك} وفي مصحف أبي {فَردَدْنَاكَ} {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} وروى عبد الحميد عن ابن عامر {كَيْ تَقِر عَيْنُهَا} بكسر القاف. قال الجوهري : وقررت به عينا وقررت به قرة وقرورا فيهما. رجل قرير العين ؛ وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت. وأقر الله عينه أي أعطاه حتى تقر فلا تطمح إلى من هو فوقه ، ويقال : حتى تبرد ولا تسخن. وللسرور دمعة باردة ، وللحزن دمعة حارة. وقد تقدم هذا المعنى في "مريم". {وَلا تَحْزَنَ} أي على فقدك. {وَقَتَلْتَ نَفْساً} قال ابن عباس : قتل قبطيا كافرا. قال كعب : وكان إذ ذاك ابن اثنتي"
عشرة سنة. في صحيح مسلم : وكان قتله خطأ ؛ على ما يأتي. {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} أي آمناك من الخوف والقتل والحبس. {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} أي اختبرناك اختبارا حتى صلحت للرسالة ، وقال قتادة : بلوناك بلاء. مجاهد : أخلصنا إخلاصا. وقال ابن عباس : اختبرناك بأشياء قبل الرسالة ، أولها حملته أمه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ، ثم إلقاؤه في اليم ، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم جره بلحية فرعون ، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة ، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون ، ثم قتله القبطي وخروجه خائفا يترقب ، ثم رعايته الغنم ليتدرب بها على رعاية الخلق. فيقال : إنه ند له من الغنم جدي فاتبعه أكثر النهار ، وأتعبه ، ثم أخذه فقبله وضمه إلى صدره ، وقال له أتعبتني وأتعبت نفسك ؛ ولم يغضب عليه. قال وهب بن منبه : ولهذا اتخذه الله كليما. وقد مضى في "النساء".
قوله تعالى : {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} يريد عشر سنين أتم الأجلين. وقال وهب : لبث عند شعيب ثماني وعشرين سنة ، منها عشرة مهر امرأته صفورا ابنة شعيب ، وثماني عشرة أقامها عنده حتى ولد له عنده. وقوله : {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} قال ابن عباس وقتادة وعبد الرحمن بن كيسان : يريد موافقا للنبوة والرسالة ؛ لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة. وقال مجاهد ومقاتل : {عَلَى قَدَرٍ} على وعد. وقال محمد بن كعب : ثم جئت على القدر الذي قدرت لك أنك تجيء فيه. والمعنى واحد. أي جئت الوقت الذي أردنا إرسالك فيه. وقال الشاعر :
نال الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر
قوله تعالى : {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} قال ابن عباس : أي اصطفيتك لوحي ورسالتي. وقيل : {اصْطَنَعْتُكَ} خلقتك ؛ مأخوذ من الصنعة. وقيل قويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمري ونهي.
الآيات : 42 - 44 {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}
قوله تعالى : {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي} قال ابن عباس يريد التسع الآيات التي أنزلت عليه. {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} قال ابن عباس : تضعفا أي في أمر الرسالة ؛ وقاله قتادة. وقيل : تفترا. قال الشاعر :
فما ونى محمد مذ أن غفر ... له الإله ما مضى وما غبر
والونى الضعف والفتور ، والكلال والإعياء. وقال امرؤ القيس :
مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن غبارا بالكديد المركل
ويقال : ونيت في الأمر أني ونى ونيا أي ضعفت فأنا وان وناقة وانية وأونيتها أنا أضعفتها وأتعبتها : وفلان لا يني كذا ، أي لا يزال ، وبه فسر أبان معنى الآية واستشهد بقول طرفة :
كأن القدور الراسيات أمامهم ... قباب بنوها لا تني أبدا تغلي
وعن ابن عباس أيضا : لا تبطئا. وفي قراءة ابن مسعود {وَلاَ تَهِنا فِي ذِكْرِي} وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي.
]43 [ {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}
] 44 [ {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {اذْهَبَا} قال في أول الآية : {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي} وقال هناك {اذْهَبَا} فقيل أمر الله تعالى موسى وهارون في هذه الآية بالنفوذ إلى دعوة فرعون ، وخاطب أولا موسى وحده تشريفا له ؛ ثم كرر للتأكيد. وقيل بين بهذا أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل : الأول أمر بالذهاب إلى كل الناس ، والثاني بالذهاب إلى فرعون.
الثانية : قوله تعالى : {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة ، وضمنت له العصمة ، ألا تراه قال : {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} وقال : {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه : 46] فكيف بنا فنحن أولى بذلك. وحينئذ يحصل الآمر والناهي على مرغوبه ، ويظفر بمطلوبه ؛ وهذا واضح.
الثالثة : واختلف الناس في معنى قوله {لَيِّناً} فقالت فرقة منهم الكلبي وعكرمة : معناه كنياه ؛ وقاله ابن عباس ومجاهد والسدي. ثم قيل : وكنيته أبو العباس. وقيل : أبو الوليد. وقيل : أبو مرة ؛ فعلى هذا القول تكنية الكافر جائزة إذا كان وجيها ذا شرف وطمع بإسلامه. وقد يجوز ذلك وإن لم يطمع بإسلامه ، لأن الطمع ليس بحقيقة توجب عملا. وقد قال صلى الله عليه وسلم : "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه" ولم يقل وإن طمعتم في إسلامه ، ومن الإكرام دعاؤه بالكنية. وقد قال صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية : "أنزل أبا وهب" فكناه. وقال لسعد : "ألم تسمع ما يقول أبو حباب" يعني عبد الله بن أبي. وروي في الإسرائيليات أن موسى عليه السلام قام على باب فرعون سنة ، لا يجد رسولا يبلغ كلاما حتى خرج. فجرى له ما قضى الله من ذلك ، وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في سيرتهم مع الظالمين ، وربك أعلم بالمهتدين. وقيل قال له موسى تؤمن بما جئت به ، وتعبد رب العالمين ؛ على أن لك شبابا لا يهرم إلى الموت ، وملكا لا ينزع منك إلى الموت ، وينسأ في أجلك أربعمائة سنة ، فإذا مت دخلت الجنة. فهذا القول اللين. وقال ابن مسعود : القول اللين قوله تعالى {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات : 18 - 19] . وقد قيل أن القول اللين قول موسى : يا فرعون إنا رسولا ربك رب العالمين. فسماه بهذا الاسم لأنه أحب إليه مما سواه مما قيل له ، كما يسمى عندنا الملك ونحوه.
قلت : القول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه ؛ يقال : لان الشيء يلين لينا ؛ وشيء لين ولين مخفف منه ؛ والجمع أليناء. فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولا لينا ، فمن دونه أحرى بأن يقتدى بذلك في خطابه ، وأمره بالمعروف في كلامه. وقد قال تعالى {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة : 83] . على ما تقدم في "البقرة" بيانه والحمد لله.
قوله تعالى : {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} معناه : على رجائكما وطمعكما ؛ فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر ؛ قال كبراء النحويين : سيبويه وغيره. وقد تقدم. قال الزجاج : "لعل" لفظة طمع وترج فخاطبهم بما يعقلون. وقيل "لعل" ها هنا بمعنى
الاستفهام ، والمعنى فانظر هل يتذكر. وقيل : هل يتذكر. وقيل : هو إخبار من الله تعالى عن قول هارون لموسى لعله يتذكر أو يخشى ؛ قاله الحسن. وقيل : إن لعل وعسى في جميع القرآن لما قد وقع. وقد تذكر فرعون حين أدركه الغرق وخشي فقال : {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس : 90] ولكن لم ينفعه ذلك ؛ قاله أبو بكر الوراق وغيره وقال يحيي بن معاذ في هذه الآية : هذا رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله ؟ !. وقد قيل : إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه ، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالإيمان ، فشاور هامان فقال : لا تفعل ؛ بعد أن كنت مالكا تصير مملوكا ، وبعد أن كنت ربا تصير مربوبا. وقال له : أنا أردك شابا فخضب لحيته بالسواد فهو أول من خضب.
الآية : 45 {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}
قوله تعالى : {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} قال الضحاك : {يَفْرُطَ} يعجل. قال : و {يَطْغَى} يعتدي. النحاس : التقدير نخاف أن يفرط علينا منه أمر ، قال الفراء : فرط منه أمر أي بدر ؛ قال : وأفرط أسرف. قال : وفرط وقراءة الجمهور {يَفْرُطُ} بفتح الياء وضم الراء ، ومعناه يعجل ويبادر بعقوبتنا. يقال : فرط أمر أي بدر ؛ ومنه الفارط في الماء الذي يتقدم القوم إلى الماء. أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه ؛ قاله المبرد. وقرأت فرقة منهم ابن محيصن {يَفْرَطُ} بفتح الياء والراء ؛ قال المهدوي : ولعلها لغة. وعنه أيضا بضم الياء وفتح الراء ومعناها أن يحمله حامل التسرع إلينا. وقرأت طائفة {يُفْرِط} بضم الياء وكسر الراء ؛ وبها قرأ ابن عباس ومجاهد عكرمة وابن محيصن أيضا. ومعناه يشطط في أذيننا ؛ قال الراجز :
قد أفرط العلج علينا وعجل
الآية : 46 {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}
فيه مسألتان : -
الأولى : قال العلماء : لما لحقهما ما يلحق البشر من الخوف على أنفسهما عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية ترد على من قال : إنه لا يخاف ؛ والخوف من الأعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم. ولقد أحسن البصري رحمه الله حين قال للمخبر عن عامر بن عبد الله - أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء ، فحال الأسد بينهم وبين الماء ، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته ، فقيل له : فقد خاطرت بنفسك. فقال : لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي من أن يعلم الله أني أخاف شيئا سواه - قد خاف من كان خيرا من عامر ؛ موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له : {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص : 20 - 21] وقال : {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص : 18] وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم : {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى. قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى } [طه : 67 - 68] .
قلت ومنه حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم ، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحدا ؛ ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم ، مرة إلى الحبشة ، ومرة إلى المدينة ؛ تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة ؛ وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم. وقد قالت أسماء بنت عميس لعمر لما قال لها سبقناكم بالهجرة ، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم كذبت يا عمر ، كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم ، وكنا في دار - أو أرض - البعداء البغضاء في الحبشة ؛ وذلك في الله ورسوله ؛ وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذي ونخاف. الحديث بطوله خرجه مسلم. قال العلماء : فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم
[عليه] كاذب ؛ وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها. قالوا : ولا ضار أضر من سبع عاد في فلاة من الأرض على من لا آلة معه يدفعه بها عن نفسه ، من سيف أو رمح أو نبل أو قوس وما أشبه ذلك.
الثانية : قوله تعالى : {إِنَّنِي مَعَكُمَا} يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. وهذا كما تقول : الأمير مع فلان إذا أردت أنه يحميه. وقول : {أَسْمَعُ وَأَرَى} عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية ، تبارك الله رب العالمين.
الآيتان : 47 - 48 {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ، إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}
الآيتان : 49 - 50 {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}
قوله تعالى : {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} في الكلام حذف ، والمعنى : فأتياه فقالا له ذلك. {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ} أي خل عنهم. {وَلا تُعَذِّبْهُمْ} أي بالسخرة والتعب في العمل ، وكانت بنو إسرائيل عند فرعون في عذاب شديد ؛ يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن مالا يطيقونه. {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} قال ابن عباس : يريد العصا واليد. وقيل : إن فرعون قال له : وما هي ؟ فأدخل يده في جيب قميصه ، ثم أخرجها بيضاء لها شعاع مثل شعاع الشمس ، غلب نورها على نور الشمس فعجب منها ولم يره العصا إلا يوم الزينة. {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} قال الزجاج : أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل وعذابه. قال : وليس بتحية ، والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.17 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.54 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.42%)]