عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم اليوم, 10:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,564
الدولة : Egypt
افتراضي رد: وقفات مع سورة الكهف

التذكير بما جاء في مقدمة السورة عن مهام الرسل من بشارة ونذارة { وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ} [الكهف: 56]
ضرورة الاعتبار بها وبمصارع الهالكين قبل الهلاك، {وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا } [الكهف: 55]. {وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا } [الكهف: 59]
التأكيد على خطورة الكفر والإعراض، وما يترتب عليه من صرف الله للمكذب عن الإيمان رغم الحجج الباهرة: {وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا * وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ لَوۡ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَۚ بَل لَّهُم مَّوۡعِدٞ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوۡئِلٗا } [الكهف: 57-58].
التذكير بحلم الله وعفوه وتأخيره للعذاب عن المكذبين رغم استحقاقهم له: {وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ لَوۡ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَۚ بَل لَّهُم مَّوۡعِدٞ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوۡئِلٗا * وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا } [الكهف: 58-59]

قصة موسى والخضر

هذه القصة من القصص الفريدة في القرآن، فلا يكاد يوجد لها فيه نظير، وهي قصة تمثل العلم وطلبه في أبهى صوره، فقد ورد أن موسى عليه السلام سئل عن أعلم أهل الأرض، ولم يكن يعلم بأعلم منه، فأخبر بما يرى من ذلك فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأرشده إلى الخضر ليتعلم منه([17]).

وتقوم هذه القصة على عدة دعائم:

الأولى: الرحلة في طلب العلم، فقد خرج موسى عازما على طلب العلم غير آبه بالصعاب مستعدا لما يلقى من المشاق في سبيل ذلك: { وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا } [الكهف: 60].

وقد تحمل في هذه الرحلة أنواعا من المشاق جعلها العلماء أصلا للرحلة في طلب العلم، منها:

الاغتراب عن الأهل والوطن.
الصبر على التعب والجوع.
الأدب مع المعلم.
طاعة المعلم.

الثانية: التعامل مع الأمارات، { لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا } [الكهف: 60]. وهو أدب إلهي علمه الله لأنبيائه، فموسى أعطي علامتين: مكانية هي الوصول لمجمع البحرين، وزمانية هي حياة الحوت، وقد نضيف إليهما ثالثة وهي الشعور بالتعب؛ إذ لم يتعب قبل تجاوز المكان الذي أمر به، وإذا علم أن الأنبياء المسددين بالوحي يتعاملون مع الأمارات، ويتعبدون بها فينبغي أن يهون ذلك على المسلم المجتهد التعامل مع الأمارات في القضايا الشرعية، وأن يهون على المتعبد التعامل مع الأمارات في القبلة ودخول الوقت ونحو ذلك… وقد علمنا أن نوحا عليه السلام جعلت له علامة على الوقت المناسب للرحيل عن قومه { فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ } [المؤمنون: 27].

الثالثة: القبول بشرط التعليم، وهو عدم السؤال، فقد اشترط الخضر على موسى أن لا يسأله عن شيء من تصرفاته وأعماله، وقبل موسى الشرط، وأكد الصبر عليه { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا * وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرٗا * قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا * قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا } [الكهف: 67-70].

الرابعة: التقيد بالمعارف السابقة: فرغم أن موسى عليه السلام قبل بشرط الخضر، فإنه ظل على أصله في العمل بما علم، ويظهر ذلك في:

استنكاره لخرق السفينة: وكان موسى حين الاستنكار ناسيا للشرط، فاستغرب من مقابلة الإحسان بالإساءة، فقد خرق الخضر سفينة قوم مساكين حملوهم بغير نول، وهذا شيء يستغرب فعلا، فلما ذكره الخضر بالشرط تذكر وطلب العفو والتيسير { فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـًٔا إِمۡرٗا * قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا * قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرٗا } [الكهف: 71-73].
استنكاره لقتل النفس بغير حق: { فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـٔٗا نُّكۡرٗا } [الكهف: 74] ولم تكن هذه من موسى نسيانا، وإنما كان ذاكرا الشرط، لكن مستوى المنكر الذي رأى دفعه لعدم الصمت عنه، وعد القدرة على تحمله، فذكره الخضر بالشرط { قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا } [الكهف: 75]، فرد موسى عليه بقوله: {قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا } [الكهف: 76] ، وكأن موسى يقول للخضر: ما دام الأمر يصل هذا الحد فإن فعلت ما يستدعي سؤالا فمعناه أني لا أستطيع صحبتك؟
اقتراح طلب الأجرة على العمل للقوم اللئام: { فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا } [الكهف: 77]، وكان اقتراح موسى عمليا، فهؤلاء اللئام لم يقروا الضيفين، فكان من المناسب تأجيل خدمتهم حتى يعطوا مقابلها، ولكن الخضر جعل الاقتراح سبب نهاية الدورة التعليمية المجملة، وبداية تفسير ما أجمل في أولها فـ: { قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا * أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا * وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا * فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا * وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا } [الكهف: 78-82].

الخامسة: ما يظهر أنه منكر قد لا يكون كذلك: فكل ما قام به الخضر مفهوم عند موسى سهل قريب حين شرح رغم بعده قبل الشرح، والقضايا الثلاث التي وقعت للخضر كلها وقعت في حياة موسى من قبل؛

فموسى هو الذي ألقي في اليم طفلا صغيرا لمصلحة راجحة خففت مستوى المخاطرة به فحفظه الله من كل سوء.
وموسى هو الذي قتل نفسا لم يؤذن له بقتلها لسبب راجح هو دفع الظلم عن رجل من قومه.
وموسى هو الذي سقى من غير نول، وهو أحوج ما يكون للمقابل.

فمثل هذه الأمور لا تخفى عليه لكن الله حين يحجب الذهن عن فهم شيء لا يفهم.

السادسة: كان موسى موجها للخضر للتعليم منه، ومن المعلوم أن من زكاه الله تعالى لنتعلم منه معناه أنه زكي وأنه لن يفعل إلا خيرا، وهذا لم يمنع موسى من إنكار ما وصل علمه إلى ضرورة إنكاره، فكان في هذا تشريعا لمن أنكر ما هو منكر حسب علمه، وفيه بيان عذر من فعل ما ساغ له فعله، وإن كان ظاهره الإنكار عند من لم يدرك سببه ودافعه ووجه جوازه، وهذا من تعليم الله لنا أدب الخلاف وسعة الصدر للمخالف رغم التمسك بالأصول.

السابعة: ما قام به الخضر اعتذر عنه كله بقوله: {وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ} [الكهف: 82]، وما دام غير صادر منه، فلا إنكار عليه فيه، بل هو مأمور بما فعل، كما موسى مأمور بما فعل أخذ للعلم عن الخضر.

الثامنة: سعة علم الله الذي علم الخضر وعلم موسى بعض منه، وهو علم واسع لا يحيط به المخلوقون.

التاسعة: نسبية القدرات البشرية، فرغم موسى من أولي العزم من الرسل، وقد نوى الصبر على الخضر حتى يتعلم منه فلم يستطع، لتباين المعارف، والحمد لله على سقوط التكليف بما لا يطاق.

العاشرة: في هذه القصة لطيفة، فإنها والتي قبلها وردت بين قصص سئل عنها، فقد سأل الكفار عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فقصت عليهم قصصهم، وذكرت بينها قصة أصحاب الجنتين، قصة الخضر وموسى، وكأن القرآن ينبه إلى أن ما سئل عنه هناك ما هو أهم منه، فالعلم قبل القول والعمل، وقصة موسى والخضر تمثل جانب العلم في الحياة والسؤال عنه كان أولى، وقصة صاحب الجنتين تمثل جانب المال، والمال قوام الملك فالسؤال عن المال وامتحانه كان أولى من السؤال عن الملك الذي هو فرع عن المال.

وكأن القرآن أراد أن يعاتب السائلين فيقول:

إن السؤال عن الروح سؤال عما لا يدرك، ومثل له بعلم الخضر فهو علم لم ينتفع به موسى قبل أن يبين له ويشرح، وكذلك الروح لن تعرف حقيقتها قبل أن يبينها الله للناس ويشرحها لهم في الوقت الذي يشاء إطلاعهم على علمه فيه سواء كان في الدنيا أو في الآخرة.
وإن السؤال عن أصحاب الكهف وهم شباب مؤمنون معذورون بالضعف والعجز وهم أفراد قلة كان أولى منه السؤال عن الدعوات الناجحة والصراعات الكبيرة الدائمة بين الحق والباطل التي العبرة منها أكبر وأعظم.
وإن السؤال عن ذي القرنين وهو ملك وجد الأسباب لملكه كان الأولى منه الانتباه لفتنة المال المستمرة في الحياة، والتي لا تنقطع ولا تنقضي وتبقى مشاهدة دوما.

وفي هذه القصة من العبر من غير ما سبق:

خطورة الادعاء حتى على العلماء الكبار.
أن العلم البشري نسبي {وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ } [يوسف: 76]
أن من الخلاف ما هو شكلي ةليس حوهريا رغم التباين الظاهر.
أن العلم يحتاج جهدا وحركة وبذلا وكدا وتعبا([18])
أن من العلم ما هو تدريبي عملي، لا يكتفى فيه بالنظري.
أن من التعليم ما لا بد فيه من جهد بدني إضافي، فقد تكرر الانطلاق من موسى والخضر قبل كل دورة تعليم، وكانت الخاتمة بالجوع وسوء معاملة أهل القرية لهم.
أن النفع قد يأتي فيما ظاهره الضر، والعبرة بالنية والقصد لا بالظاهر، فخرق السفينة صلاح لحال أهله المساكين، ومنع لها من الملك الغاصب للسفن الصالحة، وإن كان ظاهره الفساد، وقتل الصبي صلاح لحال والديه، وراحة لهما من كفره اللاحق وطغيانه المخوف وإن كان ظاهره الفساد ويستلزم معرفة هذا الرضا عن أقدار الله مهما كانت { وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ } [البقرة: 216].
أن الأدب مع الله لازم لكل إنسان على كل حال مهما بلغ، فهذا موسى يعاتب على عدم رد العلم إلى الله، وهذا الخضر يحدث عما لم يفعله عن أمره، وفي تفاصيله يرده إلى الله، وما كان منه من نقص ينسبه إلى نفسه ﵟفَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا } [الكهف: 79]،، وما كان من كمال رده إلى ربه:{ فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا 81 } [الكهف: 81]، { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ} [الكهف: 82].
أن صلاح الآباء ينفع الأولاد بإذن الله؛ فقد حفظ الله لليتمين كنزهما بفضله الذي منه صلاح والدهما، بل ينفع الصلاح الآباء والأبناء والحواشي { جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۖ } [الرعد: 23]، { رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ } [غافر: 8]، مع أن النفع الدنيوي لا يستلزم النفع الأخروي، فقد ينتفع الطالح في الدنيا ببركة الصالح ذكرا أو مالا أو جاها، ثم توبق الطالح ذنوبه في الآخرة، وما بنو إسرائيل منا ببعيد؛ فلهم في الدنيا ذكر حسن بسبب صلاح آبائهم، وللكافرين منهم يوم القيامة العذاب الشديد. وعلى كل فللعلاقة بالصالحين منافع لا تنتهي ويكفيهم أنهم “هم القوم لا يشقى بهم جليسهم”([19]).
أن من شأن طالب العلم الحرص على التزكية ومعاملة المحسيئين بالإحسان، والصبر على أذاهم، فلم يسجل القرآن تعليقا سلبيا للخضر المعلم في هذه القصة على من لم يضيفوهما.

ولم يعقب القرآن على هذه القصة خلافا لسابقاتها، ولم يفصل بينها وبين لاحقتها بتعقيب؛ لأن الحكمة فيها مما يعرف بالاستنباط والتوفيق، ولا تدركه العقول المجردة، ولا البصائر المظلمة التي لا تستنير بالوحي ولا تنتفع به، فالعبرة من القصة يكفي فيها ما جاء في القصة، ومن لم يعتبر بها، ولم يمتلئ قلبه من الإيمان بمنزلها، واليقين بسعة علمه، وعظمة ملكه، لن تنفعه المواعظ ولا الأقوال مهما كانت.
قصة ذي القرنين

ذو القرنين صالح شبيه بسليمان عليه السلام في صلاحه، كما أن ذا الجنتين شبيه بقارون في فساده، فقد آتاه الله المكل والمال، وأعطاه أسباب الحركة في أرجاء الأرض، فاتجه فيها غربا وشرقا حتى بلغ منتهى ما يمكن أن يصل إليه، وفي كل ذلك نجد له موقفا يؤكد مجموعة من القيم الإيمانية، والسياسية المتفرعة عنها.
الرحلة الأولى

ففي رحلته الأولى وجد قوما سئل عن طريقة التعامل معهم فقال: { أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا * وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا يُسۡرٗا } [الكهف: 87-88]، وهذا المنهج هو الطبيعي لمن كلف التعامل مع البشر من منطق التمكين والإمامة، فهو يعاقب الظالم الذي ثبت ظلمه وطغيانه، وعناده وجبروته، وعقابه له مقدمة لعقاب الله له الأشد والأنكى، ويعامل المؤمن الصالح المحسن بالظاهر ويكل سريرته إلى الله تعال.
الرحلة الثانية

وفي هذه الرحلة وجد قوما لا ستر لهم دون الشمس، والظاهر القريب أنهم لا لباس لهم يقيهم الشمس، وإن احتمل ذلك ما اكتشف حديثا من ثقب في الأوزون في تلك الجهة.
الرحلة الثالثة

وكانت هذه الرحلة لمنطقة أشار إليها القرآن ولم يتحدد مكانها، كما لم نعرف مكان سابقتيها على وجه الدقة، وقد وجد في هذه الرحلة قوما جهلة لا يعرفون البشر، ما يصعب التواصل معهم إذ{ لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا } [الكهف: 93]، ومن الطبيعي حين يظهر الجهل أن يظهر الاستبداد والظلم إلى جنبه؛ لذلك شكا هؤلاء إلى ذي القرنين الظلم الواقع عليهم من يأجوج ومأجوج، وعرضوا عليه المال على أن يحميهم من هؤلاء الظلمة بسد؛ فكان رد ذي القرنين رد الملك العادل الواعي بمسؤولياته العفيف عما في أيدي رعاياه { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ } [الكهف: 95]، وهو تقريبا نفس رد سليمان على الهدايا { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٖ فَمَآ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَيۡرٞ مِّمَّآ ءَاتَىٰكُمۚ بَلۡ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمۡ تَفۡرَحُونَ } [النمل: 36].

طلب ذو القرنين الأدوات الكافية لصناعة السد، من زبر الحديد، حتى بلغ المجموع منها سد الفجوة المقصودة، أوقد النار فيه حتى ذاب، فأفرغ عليه من القطر، فلم يستطع الظلمة نقبه لصلابته، ولا تسوره لطوله، وأخبر المظلومين أن هذا السد من رحمة الله، وأن له أجلا ينتهي إليه لا محالة { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا * ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا * فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبٗا * قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا } [الكهف: 95-98].

وفي قصة ذي القرنين من العبر ما يمكن أن نشير إلى أبرزه في النقاط التالية:

الملك يحتاج إحاطة من الملك ومتابعة لأحوال الرعية وما يستلزمه ذلك من أسفار ونحوها.
الملك العادل لا بد له من ميزان يفرق فيه بين الحق والباطل والمحسن والمسيء…
الملك يحتاج موارد كثيرة، وكلما جمعت من حلها ووضعت في محلها خدمت الملك، وإلا هدتمته.
الملك الصالح يحتاج عفة فما في أيدي رعيته.
الجهل يسبب الاستضعاف فالظلم فالهرج والمرج، ونتائج ذلك من ضعف النفس، والقابلية للاستعباد جلية لكل ذي بصيرة في التاريخ والعبر. وبالمقابل العلم يحمي من كثير من تلك الشرور، وأول العلم العلم بالله وبدينه وشرعه ثم العلم بما ينفع بعد ذلك.
الأصل في الدولة أن تخدم الناس في شتى جوانب الحياة بدون مقابل ما دامت قادرة على ذلك؟
ينبغي أن يفترض للأعمال والمنشئات تاريخ يعاد ترميمها عنده، لأن لكل شيء من هذه الدنيا أمدا، والأعمال مهما كان نجاها لها أجل، طال أو قصر ومهما طال، فالدنيا مآلها النهاية.

التعقيب على القصة

ربط القرآن نهاية القصة بنهاية الدنيا وخروج يأجوج ومأجوج؛ وما يقع بعد ذلك من فوضى واختلال نظام الحياة، وما يلي ذلك من هلاك، ثم بعث، ثم جزاء، ودخل من ذلك لعقاب المكذبين المعرضين عن الحق المكذبين الرسل، الذين تخاطبهم السورة أول من تخاطب، ناعيا عليهم خسارة حالهم كما خسر صاحب الجنتين، والظالمون من أصحاب ذي القرنين، وفي مقابلهم الصالحون الناجون من المؤمنين، وهذا تأكيد لما ذكر أول السورة وأوسطها من قضية الامتحان والابتلاء.
خاتمة السورة

ختمت السورة بنهاية الدنيا وما فيها من جزاء المحسن على إحسانه، ومعاقبة المسيء على إساءته، وأكدت أن معاني هذا القرآن لا تنفد ولا تنتهي ولا تستقصى، وفي ذلك إشارة للمعتبرين إلى التدبر فيه والتفهم في معانيه. وختمت بما بدأت به من أن الله أنزل على عبده الكتاب ليبشر وينذر، فمن أراد أن يكون من البشرين فليخلص وليتق الشرك خفيه وجليه قليله وكثيره { قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا } [الكهف: 110].
خاتمة

هذه السورة من عظائم سور القرآن الكريم وكلها عظيمة، سن النبي ﷺ قراءتها كل أسبوع، وأمر بقراءة فواتحها على الدجال، وفي ذلك إشارة إلى أن القرآن يومئذ لما يرفع، ولما في فواتحها من إجمال للصراع بين الحق والباطل، وتثبيت للمؤمنين في الفتن بشرح معناها ومآلها، وقد تميزت هذه السروة بقصص تمثل في مجملها الصراع في هذه الحاية الدنيا، فأولى قصصها تمثل صراع أصحاب الدعوات مع الباطل، وفي ثانيها صراع المال وفتنته، وفي ثانيتها صراع العلم والجهل، وما قد يعرض للعلماء من المنغصات كالغرور ونحوه، وفي الثالثة صراع الدولة والملك وما قد يعرض فيه من فتن وإشكالات، وكل ذلك مجمل في مقدمة السورة بقول الله تعالى: { إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا * وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا } [الكهف: 7-8].

وقوله في خاتمتها: { أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا * ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَرُسُلِي هُزُوًا * إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا * خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا } [الكهف: 105-108]

وقد تضمنت هذه السورة العظيمة من حسن المبدأ والمختم وحسن العرض وترابط القصص، واتجاهها في سياق واحد، واستثمار شتى الأساليب لتأكيد المعاني التي جاءت السورة لتأكيدها ما يبهر العقول والألباب.

تنزيل pdf

([1]) واضح أن هذه المفاصلة جاءت بعد حوارات طويلة ولقاءات متعددة، لأنهم أثبتوا ألا برهان للكفار على ما يدعون، { هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۭ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا } [الكهف: 15].وواضح أيضا أنهم عرفوا نية قومهم تجاه المؤمنين، إما بتعبير صريح من القوم، وإما باستقراء صادق للأحداث {إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ فِي مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا 20 } [الكهف: 20]..

([2]) جاء في صحيح البخاري عن عروة بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: «لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: إني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر، وهو الخبط، أربعة أشهر. قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أخرج من عندك فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق، قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله ‌بن ‌أبي ‌بكر، وهو غلام شاب، ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة ‌كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما، حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي، هاديا خريتا، والخريت الماهر بالهداية، قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة، والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل.» (البخاري، الجامع الصحيح، كتاب مناقب الأنصار، ‌‌باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة برقم: 3905).

([3]) أمر الله تعالى بأخذ الحيطة والحذر من الأعداء، {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعٗا } [النساء: 71] {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا } [النساء: 102]، ونهى عن الخوف منهم: {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوۡلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ } [آل عمران: 175] .

([4]) البخاري، الجامع الصحيح، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى {ويحذركم الله نفسه} وقوله جل ذكره {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك}برقم: 7405.

([5]) عن أبي هريرة. قال: قال سليمان بن داود: لأطيفن الليلة على سبعين امرأة. تلد كل امرأة منهن غلاما. يقاتل في سبيل الله. فقيل له: قل إن شاء الله. فلم يقل. فأطاف بهن. فلم تلد منهن، إلا امرأة واحدة، نصف إنسان. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو قال: إن شاء الله، لم يحنث. وكان ‌دركا ‌لحاجته»، (مسلم، كتاب الأيمان، باب الاستثناء، برقم: 1654).

([6]) مقابل العبادة الحقيقية العبادة المجازية، وهي العادات التي تتحول بالنية إلى عبادة، فتلك لا وقت لها، ويستوي فيها النوم واليقظة عند المؤمن الحي القلب، فـ: "المباحات يؤجر عليها بالنية إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة أو المندوبة أو تكميلا لشيء منهما"، (ابن حجر، فتح الباري، 12/275، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وتصحيح تجاربه: محب الدين الخطيب، ط: 1، المكتبة السلفية – مصر، 1380-1390هـ) ولذلك كان بعض الصحابة يقول: "وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي"، (البخاري، كتاب استتابة المرتدين، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، برقم: 6923) وقد قال صلى الله عليه وسلم: "وفي بضع أحدكم صدقة" (مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، برقم: 1006)، ولا شك أن هذا من باب الفضل الواسع الذي لا حصر له، والله أمن وأكرم، وكلما صدق العبد الله صدقه الله تعالى.

([7]) البيهقي، السنن الكبرى، 3/27، ت: محمد عبد القادر عطا، ط: 3، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2003.

([8]) فيه حديث ابن مسعود، وسعبد ابن أبي وقاص في النهي عن الاستخصاء، ورد التبتل على عثمان بن مظعون رضي الله عنه، (البخاري، الجامع الصحيح، ‌‌باب ما يكره من التبتل والخصاء، برقم: 5075، ورقم: 5073) وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص إلى ضرورة ترتيب الأوليات فقال: "يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، ‌صم ‌وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا"، (البخري، الجامع الصحيح، كتاب الصوم، ‌‌باب حق الجسم في الصوم، برقك/ 1975)كما نبه على ذلك أبا الدرداء رضي الله عنه، فعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال: «آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، قال: فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي ‌حق ‌حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان»" (البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الأدب، ‌‌باب صنع الطعام والتكلف للضيف، برقم: 6139).

([9]) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله له خير، برقم: 2999.

([10]) البخاري، كتاب الطب، باب العين حق، برقم: 5740.

([11]) لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو سبق شيء القدر لسبقته العين"، (مالك، الموطأ، 2/939، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، ط: 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1985).

([12]) ظهر ذلك في قول الكافر: ﵟمَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدٗا 35ﵞ [الكهف: 35] .

([13]) ظهر ذلك في قول المؤمن: ﵟوَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚﵞ [الكهف: 39] .

([14]) البخاري، كتاب الصلح، باب الصلح في الدية، برقم: 2703.

([15]) لا بد من هذا القيد؛ لأن المال إذا جمع من حله ووضع في محله كان صالحا مقربا من الله، كما وقع لداود وسليمان عليه السلام، وإذا كان الولد ابتغي لبقاء الدين والدعوة في الناس، وليعبد الله في الأرض وربي على ذلك الوجه، كان خيرا وعملا صالحا ينفع صاحبه.

([16]) ورد في الباقيات الصالحات أنها سبحان الله والحمد لله ولاإله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، (مالك، الموطأ، 1/210، م س) وهو التفسير المشهور، ولعله من باب المثال، وإلا فإن كثيرا من السلف فسرها بغير ذلك كالصلوات الخمس (سنن سعيد بن منصور، 6/181، ت: فريق من العلماء، ط: 1، الألوكة، دار الألوكة للنشر، الرياض - المملكة العربية السعودية، 2012، والمروزي، تعظيم قدر الصلاة، 1/157، ت: عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي،: ط: 1، مكتبة الدار - المدينة المنورة، 1406هـ)، والعبادة والدين والملة (أحمد المسند، 18/241، ت: التركي، ط: الرسالة، 2001)، والبنات، (القرطبي، 10/115، أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، ط: 2، دار الكتب المصرية – القاهرة،1964)، وفي أكثر ذلك أحاديث مرفوعة، منها القوي ومنها غيره، والأصل الأخذ بعموم الآية حتى يرد دليل قاطع على تخصيصها؛ فاليقين أن الكلمات الخمس من الباقيات الصالحات؛ لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدم نفيه لسواها من الدخول في الباقيات الصالحات، وكل عمل صالح يدخل فيها، وينظر في الموضوع (الطبري، جامع البيان، 15/271-281، ت: التركي، ط: 1، الرسالة، 2001)، ولولا الحديث المرفوع، واسصحاب عموم اللفظ لحصرنا المعنى في البنات؛ إذ هو المفهوم من البنين المقابل له.

([17]) جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قام موسى النبي خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم. فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: أن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال: يا رب، وكيف به؟ فقيل له: احمل حوتا في مكتل، فإذا فقدته فهو ثم، فانطلق وانطلق بفتاه يوشع بن نون، وحملا حوتا في مكتل، حتى كانا عند الصخرة وضعا رءوسهما وناما، فانسل الحوت من المكتل {فاتخذ سبيله في البحر سربا} وكان لموسى وفتاه عجبا، فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبح قال موسى لفتاه: {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} ولم يجد موسى مسا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به، فقال له فتاه: {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت}، قال موسى: {ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا} فلما انتهيا إلى الصخرة، إذا رجل مسجى بثوب، أو قال تسجى بثوبه، فسلم موسى فقال الخضر: وأنى ‌بأرضك ‌السلام؟ فقال: أنا موسى. فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: {هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا} قال: {إنك لن تستطيع معي صبرا} يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه. {قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا} فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة، فمرت بهما سفينة، فكلموهم أن يحملوهما، فعرف الخضر، فحملوهما بغير نول، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر، فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه، فقال موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ {قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت} فكانت الأولى من موسى نسيانا فانطلقا، فإذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده، فقال موسى: {أقتلت نفسا زكية بغير نفس * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} - قال ابن عيينة: وهذا أوكد - {فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه} قال الخضر بيده فأقامه، فقال له موسى: {لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك} قال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى، لوددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما»" (البخاري، الجامع الصحيح، كتاب العلم، ‌‌باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فيكل العلم إلى الله، برقم: 122).

([18]) ويؤكد ذلك من غير ما سبقت الإشارة إليه تعدد الانطلاق مع كل وقفة من الوقفات الثلاث في السفينة، والغلام والقرية.

([19]) مسلم،‌‌ ‌‌كتاب الذكر، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، باب فضل مجالس الذكر، برقم: 2689.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.79 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.16 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.34%)]