
23-06-2025, 08:47 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,889
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله
تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة النصر
المجلد السابع عشر
صـ 6276 الى صـ 6288
الحلقة (635)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الكوثر مكية، ويقال مدنية، وآيها ثلاث.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير من القرآن والحكمة والنبوة والدين الحقّ والهدى وما فيه سعادة الدارين. روى ابن جرير عن أبي بشر قال: سألت سعيد ابن جبير عن الكوثر، فقال: هو الخير الكثير الذي آتاه الله إياه. فقلت لسعيد: إنا كنا نسمع أنه نهر في الجنة. فقال: هو من الخير الذي أعطاه الله إياه فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال الإمام: أي فاجعل صلاتك لربك وحده، وانحر ذبيحتك مما هو نسك لك لله وحده، فإنه هو مربيك ومسبغ نعمه عليك دون سواه، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162- 163] ، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ قال ابن جرير:
أي مبغضك يا محمد، وعدوك، هو الأبتر. يعني الأقل الأذل المنقطع دابره الذي لا عقب له.
روى ابن إسحاق عن يزيد بن رومان قال: كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له. فإذا هلك انقطع ذكره) فأنزل الله هذه السورة. وعن عطاء قال: نزلت في أبي لهب. وذلك حين مات ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين فقال: بتر محمد الليلة. فأنزل الله، في ذلك، السورة. وقال شمر بن عطية: نزلت في عقبة بن أبي معيط. قال ابن كثير: والآية تعم جميع من اتصف بذلك، ممن ذكر وغيرهم.
وقال الإمام: كان المستهزئون من قريش كالعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط
وأبي لهب وأمثالهم، إذا رأوا أبناء النبيّ صلى الله عليه وسلم يموتون، ويقولون: بتر محمد، أي لم يبق له ذكر في أولاده من بعده، ويعدون ذلك عيبا يلمزونه به وينفرون به الناس من أتباعه وكانوا إذا رأوا ضعف المسلمين وفقرهم وقلتهم يستخفون بهم ويهونون أمرهم، ويعدّون ذلك مغمزا في الدين، ويأخذون القلة والضعف دليلا على أن الدين ليس بحق، ولو كان حقّا لنشأ مع الغنى والقوة، شأن السفهاء مع الحق في كل زمان أو مكان غلب فيه الجهل. وكان المنافقون إذا رأوا ما فيه المؤمنون من الشدة والبأساء يمنّون أنفسهم بغلبة إخوانهم القدماء من الجاحدين. وينتظرون السوء بالمسلمين لقلة عددهم وخلوّ أيديهم من المال. وكان الضعفاء من حديثي العهد بالإسلام من المؤمنين، تمرّ بنفوسهم خواطر السوء عند ما تشتد عليهم حلقات الضيق. فأراد الله سبحانه أن يمحص من نفوس هؤلاء، ويبكّت الآخرين، فأكد الخبر لنبيه، أن ما يخيله النظر القصير قليلا، هو الكثير البالغ الغاية في الكثرة، ليؤكد له الوعد بأنه هو الفائز وأن متبعه هو الظافر، وإن عدوه هو الخائب، الأبتر الذي يمحى ذكره ويعفى أثره.
تنبيه:
لما روي من سبب نزول هذه السورة مما رويناه، ذهب إمام اللغة ابن جنّي إلى تأويل الكوثر بالذرية الكثيرة. وهو معنى بديع فيه مناسبة لسبب النزول.
قال ابن جنّي في (شرح ديوان المتنبي) في قوله يمدح طاهر بن الحسين العلوّي:
وأبهر آيات التهامي أنه ... أبوك وأجدى ما لكم من مناقب
في جملة ما أملاه عليّ أبو الفضل العروضي: أن قريشا وأعداء النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: إن محمدا أبتر لا عقب له. فإذا مات استرحنا منه فأنزل الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي العدد الكثير، ولست بالأبتر الذي قالوه. ومراده بالعدد الكثير الذرية وهم أولاد فاطمة. قال العروضي: فإن قيل: الإنسان بالأبناء والآباء والأمهات.
قلنا: هذا خلاف حكم الله تعالى فإنه قد قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ، إلى قوله وَيَحْيى وَعِيسى [الأنعام: 84] ، فجعل عيسى من أولاد إبراهيم ومن ذريته.
ولا خلاف في أنه لم يكن لعيسى أب. انتهى.
وقد بسطنا أدلة انتساب الأسباط إلى أجدادهم في كتاب (شرف الأسباط) بما لا مزيد عليه. فراجعه.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الكافرون مكية، وآيها ست.
قال ابن كثير: ثبت في صحيح مسلم: عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة وب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في ركعتي الطواف.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر.
وروى الإمام أحمد «1» عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعا وعشرين مرة أو بضع عشرة مرة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
وروى الإمام أحمد «2» عن الحارث بن جبلة قال: قلت: يا رسول الله! علمني شيئا أقوله عند منامي. قال: إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ: قل يا أيها الكافرون، فإنها براءة من الشرك
وقد تقدم في الحديث أنها تعدل ربع القرآن. قال في (اللباب) : ووجه ذلك أن القرآن مشتمل على الأمر والنهي، وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يتعلق بعمل القلوب وإلى ما يتعلق بعمل الجوارح، فحصل من ذلك أربعة أقسام وهذه السورة مشتملة على النهي عن عبادة غير الله تعالى، وهي من الاعتقاد، وذلك من أفعال القلوب. فكانت هذه السورة ربع القرآن على هذا التقسيم. وسيأتي في تفسير الإخلاص سر آخر.
(1) أخرجه في المسند 2/ 58. والحديث رقم 5215.
(2) أخرجه عن فروة بن نوفل الأشجعي عن أبيه، 5/ 456.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ أي المشركون الجاحدون للحق، الذي وضحت حجته واتضحت محجته لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أي من الآلهة والأوثان الآن وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي الآن وَلا أَنا عابِدٌ أي فيما أستقبل ما عَبَدْتُّمْ أي فيما مضى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ أي فيما تستقبلون أبدا ما أَعْبُدُ أي فيما أستقبل ما عَبَدْتُّمْ أي الآن وفيما أستقبل- هكذا فسره الإمام ابن جرير رحمه الله. ثم قال: وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذين طمعوا فيه وحدثوا به أنفسهم. وإن ذلك الغير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات. وآيس نبيّ الله صلى الله عليه وسلم مع الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبدا فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا. إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعض قبل ذلك كافرا. ثم
روى رحمه الله عن ابن إسحاق عن سعيد ابن مينا قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف، رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! هلم، فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله. فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذ منه بحظك. فأنزل الله قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ
السورة
وفي رواية: وأنزل الله في ذلك هذه السورة، وقوله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64- 66] ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
انتهى.
وقيل: الجملتان الأخيرتان لنفي العبادة حالا كما أن الأوليين لنفسها استقبالا قال أبو السعود: وإنما لم يقل (ما عبدت) ليوافق (ما عبدتم) لأنهم كانوا موسومين قبل البعثة بعبادة الأصنام وهو عليه السلام لم يكن حينئذ موسوما بعبادة الله تعالى.
وإيثار (ما) في ما أَعْبُدُ على (من) لأن المراد هو الوصف كأنه قيل: ما أَعْبُدُ من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته. وقيل: إن ما مصدرية. أي لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي. وقيل: الأوليان بمعنى (الذي) والأخريان مصدريتان. وقيل: قوله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ تأكيد لقوله تعالى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وقوله تعالى: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ثانيا تأكيدا لمثله المذكور أولا. انتهى.
ونقل ابن كثير عن الإمام ابن تيمية أن المراد بقوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفي الفعل، لأنها جملة فعلية وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ نفي قبوله لذلك بالكلية، لأن النفي بالجملة الاسمية آكد، فكأنه نفى الفعل وكونه قابلا لذلك. ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا وهو قول حسن.
واختار الإمام كون (ما) في الأوليين موصولة وفيما بعدهما مصدرية، قال:
فمفاد الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود. ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة. فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة، لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزه عن الند والشفيع، المتعالي عن الظهور في شخص معين، الباسط فضله لكل من أخلص له، الآخذ قهره بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه. والذي تعبدونه على خلاف ذلك. وعبادتي مخلصة لله وحده، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى، فلا تسمى على الحقيقة عبادة. فأين هي من عبادتي؟ وقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ تقرير لقوله تعالى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وقوله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ كما أن قوله تعالى: وَلِيَ دِينِ تقرير لقوله تعالى:
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ والمعنى أن دينكم، الذي هو الإشراك، مقصور على الحصول لكم، لا يتجاوزه إلى الحصول لي أيضا، كما تطمعون فيه. فإن ذلك من المحالات. وأن ديني الذي هو التوحيد، مقصور على الحصول لي، لا يتجاوزه إلى الحصول لكم، فلا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه.
تنبيه:
قال ابن كثير استدل الإمام الشافعيّ وغيره بهذه الآية الكريمة لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
على أن الكفر كله ملة واحدة فورّث اليهود من النصارى وبالعكس، إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به. لأن الأديان، ما عدا الإسلام، كلها كالشيء الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود، وبالعكس.
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يتوارث أهل ملّتين شتّى)
. بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة النصر مدنية، وآيها ثلاث.
وهي آخر سورة نزلت في رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وروى البيهقي عن ابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال، لما نزلت هذه السورة: إنه قد نعيت إليّ نفسي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ أي لدينه الحق على الباطل وَالْفَتْحُ أي فتح مكة الذي فتح الله به بينه وبين قومه صلوات الله عليه، فجعل له الغلبة عليهم وضعف أمرهم في التمسك بعقائدهم الباطلة وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً أي ورأيت الناس من صنوف العرب وقبائلها عند ذلك يدخلون في دين الله، وهو دينك الذي جئتهم به لزوال ذلك الغطاء الذي كان يحول بينهم وبينه، وهو غطاء قوة الباطل فيقبلون عليه أفواجا طوائف وجماعات لا آحادا، كما كان في بدء الأمر أيام الشدة.
إذ حصل ذلك كله وهو لا ريب حاصل فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي فنزه ربك عن أن يهمل الحق ويدعه للباطل يأكله. وعن أن يخلف وعده في تأييده. وليكن هذا التنزيه بواسطة حمده والثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين ليمتحن قلوب المؤمنين، فلن يضيع أجر العاملين ولا يصلح عمل المفسدين. والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين، فلا يذهب عليه رياء المرائين وَاسْتَغْفِرْهُ أي اسأله أن يغفر لك ولأصحابك ما كان من القلق والضجر والحزن، لتأخر زمن النصر والفتح. والاستغفار إنما يكون بالتوبة الخالصة. والتوبة من القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله، وتغليب هذه الثقة على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد، وهو وإن كان مما يشق على نفوس البشر، ولكن الله علم أن نفس
نبيّه صلى الله عليه وسلم قد تبلغ ذلك الكمال. فلذلك أمره به، وكذلك تقاربه قلوب الكمّل من أصحابه وأتباعه عليه السلام. والله يتقبل منهم إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً أي إنه سبحانه لا يزال يوصف بأنه كثير القبول للتوبة، لأنه ربّ يربي النفوس بالمحن. فإذا وجدت الضعف أنهضها إلى طلب القوة، وشددها بحسن الوعد. ولا يزال بها حتى تبلغ الكمال. وهي في كل منزلة تتوب عن التي قبلها. وهو سبحانه يقبل توبتها فهو التواب الرحيم. وكأن الله يقول: إذا حصل الفتح، وتحقق النصر، وأقبل الناس على الدين الحق، فقد ارتفع الخوف وزال موجب الحزن، فلم يبق إلا تسبيح الله وشكره، والنزوع إليه عما كان من خواطر النفس. فلن تعود الشدة تأخذ نفوس المخلصين ما داموا على تلك الكثرة في ذلك الإخلاص. ومن هذا أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الأمر قد تم ولم يبق له إلا أن يسير إلى ربه، فقال فيما روي عنه: إنه قد نعيت إليه نفسه. هذا ملخص ما أورده الإمام في تفسيره.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: المراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولا واحدا. فإن أحياء العرب كانت تتلوّم بإسلامها فتح مكة. يقولون إن ظهر على قومه، فهو نبيّ. فلما فتح الله عليه مكة، دخلوا في دين الله أفواجا، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا. ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ولله الحمد والمنة.
وقد روى البخاريّ في صحيحه عن عمرو بن سلمة: كنا بماء ممرّ الناس. وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه (أو أوحى الله بكذا) فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يغرى في صدري. وكانت العرب تلوّم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه. فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيّ صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم ... الحديث.
الثاني- قال الرازي: إذا حملنا الفتح على فتح مكة، فللناس في وقت نزول هذه السورة قولان:
أحدهما- أن فتح مكة كان سنة ثمان. ونزلت هذه السورة سنة عشر. وروي أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوما. ولذلك سميت سورة التوديع.
ثانيهما- أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وهو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصره على أهل مكة، وأن يفتحها عليه. ونظيره: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 85] ، وقوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يقتضي الاستقبال، إذ لا يقال فيما وقع إِذا جاءَ و (إذا وقع) وإذا صح هذا القول صارت
هذه الآية من جملة المعجزات. من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقا له.
والإخبار عن الغيب معجزة. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : ولأبي يعلى، من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق، في حجة الوداع. فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع.
ثم قال: وسئلت عن قول الكشاف: إن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق، فكيف صدرت ب (إذا) الدالة على الاستقبال؟ فأجبت بضعف ما نقله.
وعلى تقدير صحته، فالشرط لم يتكمل بالفتح. لأن مجيء الناس أفواجا لم يكن كمل، فبقية الشرط مستقبل.
وقد أورد الطيبي السؤال، وأجاب بجوابين:
أحدهما- أن (إذا) قد ترد بمعنى (إذ) كما في قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً.. [الجمعة: 11] الآية.
ثانيهما- أن كلام الله قديم. وفي كل من الجوابين نظر لا يخفى. انتهى. كلامه.
الثالث- قال الشهاب: المراد ب (الناس) العرب. ف (أل) عهدية. أو المراد الاستغراق العرفيّ. والمراد عبدة الأصنام منهم. لأن نصارى تغلب لم يسلموا في حياته صلى الله عليه وسلم وأعطوا الجزية.
الرابع-
روى البخاري «1» عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت عليه: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلا- يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي.
وفيه عنها أيضا «2» : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده:
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن.
قال الحافظ ابن حجر: معنى (يتأول القرآن) يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار، في أشرف الأوقات والأحوال.
وقال ابن القيّم في (الهدى) كأنه أخذه من قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْهُ لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور. فيقول إذا سلم من الصلاة: أستغفر الله ثلاثا. وإذا خرج من الخلاء قال: غفرانك. وورد الأمر بالاستغفار عند انقضاء المناسك: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ... [البقرة: 199] الآية.
(1) أخرجه في: التفسير، سورة النصر، 1- حدثنا الحسن بن الربيع، حديث رقم 481.
(2) أخرجه في: التفسير، سورة النصر، 2- حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حديث رقم 481.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|