
31-05-2025, 10:56 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة :
|
|
بيان نسبة القول أو الفعل إلى الله تعالى
بيان نسبة القول أو الفعل إلى الله تعالى
محمد بن علي بن جميل المطري
تأليف
الدكتور/ محمــد بـن علي بـن جـمـيــل المـطــري
خلاصة البحث
موضوع البحث:
نسبة القول أو الفعل إلى الله تعالى وهو قول أو فعل الملائكة بأمره.
حدود البحث:
القرآن الكريم.
أهداف البحث:
بيان نسبة القول أو الفعل إلى الله وهو قول أو فعل الملائكة بأمره إذا دل على صحة ذلك قرينة.
منهج البحث:
المنهج المتبع في البحث هو المنهج الوصفي والتحليلي من خلال دراسة بعض الآيات التي فيها نسبة القول أو الفعل إلى الله سبحانه وهو قول أو فعل بعض ملائكته.
أبرز نتائج البحث وتوصياته:
- الأصل أن الله إذا نسب قولًا أو فعلًا إلى نفسه فهو له، وقد يكون ذلك القول أو الفعل المنسوب إلى الله هو قول أو فعل الملائكة بحسب السياق والقرائن.
- معرفة معاني الآيات القرآنية التي فيها نسبة القول أو الفعل إلى الله وهو قول أو فعل الملائكة بأمره.
- معرفة معاني الأحاديث التي فيها نسبة القول أو الفعل إلى الله وهو قول أو فعل الملائكة بأمره.
- إثبات صفات الله على طريقة السلف الصالح من غير غلو في الإثبات.
- عذر من زلَّ من علماء المسلمين بتأويل بعض الصفات الإلهية بدعوى أنها من باب نسبة الفعل إلى الله وهو فعل الملائكة بأمره.
- الرد على مَن يُكفِّر مَن تأول بعض الصفات الإلهية، وبيان أن خطأهم لا يلزم منه تكفيرهم.
- فضل القرآن وعظمته، وأنَّه يهدي المتدبر لآياته في مسائل العقيدة التي كثر فيها الخلاف بين الأمة.
ويوصي الباحث بالاعتناء في دراسة العقيدة بالقرآن الكريم تفسيرًا وتدبرًا، ودراسةً وتدريسًا، وخطابةً ووعظًا، والحرص على اتباع السلف الصالح بإحسان بلا طغيان.
الكلمـات المفتاحية:
القرآن – العقيدة – صفات الله – أفعال الله – القول – الفعل
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنَّ القرآن الكريم كتاب هداية، يهدي من تدبره للتي هي أقوم، وقد أمرنا الله بتدبر آياته لنتذكر بها ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، ومن أعظم ما بينه القرآن الكريم العقيدة الصحيحة، وأسماء الله وصفاته، والأصل أن الله سبحانه إذا نسب إلى نفسه قولًا أو فعلًا فهو له، وقد يكون ذلك القول أو الفعل المنسوب إلى الله سبحانه هو قول أو فعل الملائكة بأمر الله، ويعرف ذلك بحسب السياق والقرائن، وهذا بحث في بيان ذلك من القرآن الكريم، مع ذكر ما تيسر من كلام أهل العلم رحمهم الله.
أسباب اختيار الموضوع:
يعود اختيار هذا الموضوع للأسباب الآتية:
- أهمية العقيدة، لا سيما آيات وأحاديث الصفات التي أخطأ كثير من الناس في تأويلها أو في إثبات ما ليس منها.
- معرفة تفسير كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي فيها نسبة القول أو الفعل إلى الله تعالى وهو قول أو فعل الملائكة بأمره.
- إثبات صفات الله سبحانه على طريقة السلف الصالح من غير غلو في الإثبات، ولا غلو في تكفير من أوَّل بعض الصفات.
مشكلة البحث:
هذا الموضوع يتعلق بصفات الله سبحانه الذي كثر فيها الخلاف بين الأمة، وكثر فيها الخطأ والضلال، ولم أجد من أفرد هذا الموضوع بالبحث، وإن كان هناك كلام في هذا الموضوع لبعض علماء العقيدة والمفسرين، ولم أطلع على من أفرد هذه المسألة ببحث أو تأليف.
أسئلة البحث:
- هل تصح نسبة القول أو الفعل إلى الله تعالى وهو قول أو فعل الملائكة بأمره؟
- هل توجد أمثلة من القرآن والسنة فيها نسبة القول أو الفعل إلى الله تعالى وهو قول أو فعل الملائكة بأمره؟
- ما الواجب في صفات الله سبحانه المذكورة في القرآن والسنة؟
- ما حكم الذين يعطلون الصفات الإلهية عن معانيها ويؤولونها أو يثبتون ما لا يصح إثباته منها؟
أهداف البحث:
- إثبات نسبة القول أو الفعل إلى الله تعالى وهو قول أو فعل الملائكة بأمره.
- سرد أمثلة من القرآن والسنة فيها نسبة القول أو الفعل إلى الله تعالى وهو قول أو فعل الملائكة بأمره؟
- بيان وجوب إثبات صفات الله سبحانه المذكورة في القرآن والسنة بلا تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل.
- بيان خطأ وضلال الذين يُعطِّلون الصفات الإلهية عن معانيها ويؤولونها أو يثبتون ما لا يصح إثباته منها.
أهمية البحث:
يمكن إجمال أهمية البحث في هذا الموضوع فيما يأتي:
- التأكيد على أن الأصل هو نسبة الأقوال والأفعال التي نسبها الله إلى نفسه أنها قوله وفعله حقيقة، وقد يكون ذلك القول أو الفعل المنسوب إلى الله سبحانه هو قول أو فعل الملائكة بحسب السياق والقرائن.
- بيان معاني كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي فيها نسبة القول أو الفعل إلى الله سبحانه وهو قول أو فعل بعض ملائكته بأمره.
- التوسط في إثبات الصفات الإلهية بلا غلو، والتوسط في الحكم على المخالف في تأويل بعض الصفات بلا بغي، مما يوسع دائرة العذر بالجهل والتأويل، ويدعو إلى التآلف بين المسلمين.
- الاهتمام في دراسة العقيدة بتفسير القرآن الكريم ومعرفة أساليب القرآن الكريم والتوسع في علوم اللغة العربية ومعرفة أساليبها، مما يبين المعنى الصحيح لنصوص آيات وأحاديث الصفات بلا غلو في الإثبات، ولا ضلال بالتوسع في دعوى المجاز وتفويض المعاني.
الجديد الذي يقدمه هذا البحث:
- هذا الموضوع دراسة نوعية جديدة في مجال التفسير والعقيدة، ويبين أهمية تدبر القرآن الكريم ومعرفة أساليبه وأساليب العرب في نسبة الأقوال والأفعال.
- في هذا البحث إثبات صحة نسبة الأقوال والأفعال إلى الله سبحانه وهي قول أو فعل الملائكة بأمره، إذا دل على ذلك دليل.
- بيان المنهج الصحيح في إثبات آيات وأحاديث الصفات بلا غلو في الإثبات، ولا غلو في النفي.
- عذر العلماء الذين أخطأوا في بعض آيات وأحاديث الصفات، والاستغفار لهم، والنصيحة لعامة المسلمين ببيان الحق لهم، والسعي لتأليف قلوبهم، وجمع كلمتهم على الحق، وعذر من أخطأ منهم متأولًا، وحثهم على التعاون على البر والتقوى.
المنهج المتبع في البحث:
المنهج المتبع في البحث هو المنهج الوصفي والتحليلي من خلال دراسة بعض الآيات التي فيها نسبة القول أو الفعل إلى الله سبحانه وهو قول أو فعل بعض ملائكته.
إجراءات البحث:
اتَّبع الباحث مجموعة من الخطوات الإجرائية، من أهمها:
- الرجوع إلى كتب التفسير المعتمدة.
- الالتزام بمنهج السلف الصالح وأصول التفسير وقواعده في دراسة الآيات القرآنية المتعلقة بموضوع البحث.
- توثيق النصوص المنقولة من مصادرها الأصلية.
أهم الدراسات السابقة:
لم يطلع الباحث على دراسة سابقة في موضوع البحث.
هيكل البحث:
يتكون البحث من مقدمة، وثلاثة مباحث، وخاتمة، وفهارس، كما يأتي:
- المقدمة.
- المبحث الأول: إثبات نسبة القول أو الفعل إلى الله تعالى وهو قول أو فعل الملائكة بأمره.
- المبحث الثاني: وجوب إثبات صفات الله بلا إفراط ولا تفريط.
- المبحث الثالث: التحذير من الغلو في تكفير المخالفين في باب الصفات
- الخاتمة
- فهرس المصادر والمراجع.
- فهرس الموضوعات.
المبحث الأول: إثبات نسبة القول أو الفعل إلى الله تعالى وهو قول أو فعل الملائكة بأمره
الأصل أن أي قول أو فعل نسبه الله في كتابه إلى نفسه أو نسبه رسوله إلى الله، فهو قول الله أو فعله سبحانه، وقد دلت كثير من نصوص القرآن والسنة على إثبات القول لله سبحانه، وأنه يتكلم متى شاء، كلامًا يليق بجلاله وعظمته، وأنه فعال لما يريد، فالغالب أن الله سبحانه إذا نسب قولًا أو فعلًا إلى نفسه فهو له، وقد يَنسِب الله تعالى القول إلى نفسه وهو قول الملائكة بأمره، وقد يُسنِد الله سبحانه الفعل إلى نفسه وهو فعل الملائكة بأمره، ويُعرف ذلك بحسب السياق والقرائن، وهذه أمثلة من القرآن الكريم تبين ذلك:
1- قال الله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين}[البقرة:252]، فالذي كان يتلو آيات الله على النبي محمد عليه الصلاة والسلام هو جبريل عليه السلام بأمر الله، قال ابن القيم: "ما يُسنده سبحانه إلى نفسه بصيغة ضمير الجمع قد يريد به ملائكته كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه}[القيامة:18]، وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ}[الكهف:13]، ونظائره، فتأمله"([1])، وقال الشنقيطي: "أسند جل وعلا تلاوتها إلى نفسه؛ لأنها كلامه الذي أنزله على رسوله بواسطة الملَك، وأَمر الملَك أن يتلوه عليه مبلغًا عنه جل وعلا، ونظير ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه}[القيامة:18] أي: قرأه عليك الملَك المرسَل به من قِبَلِنا مبلِّغًا عنا، وسمعتَه منه فاتبع قراءته، واقرأه كما سمعته يقرؤه، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}[طه:114]"([2]).
2- {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}[ق:16]، قال ابن تيمية: "جاء بصيغة الجمع مثل قوله: {نَتْلُوا عَلَيْكَ}[القصص:3]، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ}[يوسف:3]، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } [القيامة: 17، 18]، فالقرآن هنا حين يسمعه من جبريل، ... ومذهب سلف الأمة وأئمتها وخلفها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع القرآن من جبريل، وجبريل سمعه من الله عز وجل، وأما قوله: {نتلوا} و {نقص} {فإذا قرأناه}، فهذه الصيغة في كلام العرب للواحد العظيم الذي له أعوان يطيعونه، فإذا فعل أعوانه فعلًا بأمره قال: نحن فعلنا، كما يقول الملِك: نحن فتحنا هذا البلد، وهزمنا هذا الجيش، ونحو ذلك؛ لأنه إنما يفعل بأعوانه، والله تعالى رب الملائكة، وهم لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهو مع هذا خالقهم وخالق أفعالهم وقدرتهم، وهو غني عنهم؛ وليس هو كالملك الذي يفعل أعوانه بقدرة وحركة يستغنون بها عنه، فكان قوله لما فعله بملائكته: نحن فعلنا؛ أحق وأولى من قول بعض الملوك"([3])، وقال ابن كثير: "قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}[ق:16] يعني: ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع، تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه، فإنه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}، كما قال في المحتضر: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُون}[الواقعة:85] يعني ملائكته"([4])، وقال ابن عثيمين: "{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}[ق:16] فإن قال قائل: كيف يُضيف الله القُرب المسند إليه والمراد به الملائكة، ألهذا نظير؟ قلنا: نعم، له نظير، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه}[القيامة:18] {قرأناه} المراد بذلك جبريل، ونسب الله فعل جبريل إلى نفسه؛ لأنه رسوله، كذلك الملائكة نسب الله قربهم إليه لأنهم رسله، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون}[الزخرف:80]"([5])، وقال ابن عثيمين أيضًا: "الله تعالى يضيف الشيء إلى نفسه إذا قامت به ملائكته؛ لأن الملائكة رسله عليهم السلام، وليس هذا من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولكنه من باب تفسير الشيء بما يقتضيه السياق"([6]).
3- {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}[الحجر:74]، ذكر شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره عدة روايات عن التابعين أن جبريل رفع قرى قوم لوط إلى السماء ثم أسقطها، فصار عاليها سافلها، فالذي رفع قرى قوم لوط هم الملائكة بأمر الله سبحانه([7]).
4- {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوط}[هود:74] قال ابن جرير الطبري: "معنى ذلك: وجاءته البشرى يجادلُ رسلَنا، ولكنه لما عُرِف المراد من الكلام حُذِف الرسل، وكان جداله إياهم"([8])، وقال القرطبي: "أي: يجادلُ رسلَنا، وأضافه إلى نفسه؛ لأنهم نزلوا بأمره"([9]).
5- {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوب}[هود:71] الذين بشَّروا سارة بإسحاق هم الملائكة، وبشروا أيضًا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيم * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيم * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيم}[الذاريات: 28 - 30]، وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيم}[الصافات:101] قال القرطبي: "كانت البشرى على ألسنة الملائكة"([10]).
6- {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيم}[الصافات:104] قال ابن عاشور: "مناداة الله إبراهيم بطريق الوحي بإرسال الملَك، أُسنِدت المناداةُ إلى الله تعالى؛ لأنه الآمر بها"([11]).
7- {يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا}[مريم:7]، ظاهر هذه الآية أن الذي نادى زكريا هو الله سبحانه، وبينت آية سورة آل عمران أن الذي ناداه الملائكة بأمر الله، قال سبحانه: {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِين}[آل عمران:39]، فالقول قد يُنسب إلى الله سبحانه والذي قاله هو ملكٌ من الملائكة([12])، وصح هذا لكونه مبلِّغًا قول الله تعالى.
8- {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ}[مريم:79] قال السمعاني: "أي: يأمر الملائكةَ حتى يكتبوا"([13])، كما قال تعالى: {قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُون}[يونس:21]، وقال سبحانه: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون}[الزخرف:80]، وقال عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين* كِرَامًا كَاتِبِين* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون}[الانفطار:10 - 12]. قال ابن تيمية: "وأما الكتابة فرسله يكتبون، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}[يس:12] فأخبر بالكتابة بقوله: {نحن}؛ لأن جنده يكتبون بأمره"([14]).
9- {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُون}[سبأ:42] القائل ذلك ملائكة العذاب، كما قال تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيم * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيم * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم}[الدخان:47 - 49]، قال الواحدي: "فيقول له الملَك: ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم، يوبِّخُه ويُصَغِّره"([15]).
10- {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}[الزمر:42] نسب الله سبحانه فعل التوفي إلى نفسه مع أن الذين يباشرون ذلك ملائكة الموت كما قال سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون}[السجدة:11]، وقال سبحانه: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ}[النحل:32]، قال الشنقيطي: "لا معارضة بين الآيات المذكورة، فإسناده التوفي لنفسه؛ لأنه لا يموت أحد إلا بمشيئته تعالى، وأسنده لملَك الموت؛ لأنه هو المأمور بقبض الأرواح، وأسنده إلى الملائكة؛ لأن لملَك الموت أعوانًا من الملائكة"([16])، وفي هذه الآية أن الله سبحانه قد يُسند الفعل إلى نفسه بغير صيغة ضمير الجمع ويريد به ملائكته، فإنه لم يقل: نحن نتوفى الأنفس، وغالب الأمثلة التي فيها نسبة القول أو الفعل إلى الله وهو قول أو فعل الملائكة بأمره تأتي بصيغة ضمير الجمع، وقد تأتي نادرًا بصيغة المفرد، كقول الله سبحانه: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم: 53، 54]، والمؤتفكة هي قرى قوم لوط، والمعنى: أسقطها الله بعد أن رفعها إلى السماء، وغشَّاها ما غشى من مطر الحجارة والعذاب، وتقدم في كلام ابن جرير الطبري أن الذي باشر إسقاطها جبريل عليه الصلاة والسلام ومن معه من الملائكة، وأنهم جعلوا عاليها سافلها، فأسند الله سبحانه الفعل في هذه الآية إلى نفسه بغير صيغة الجمع فقال: {أهوى}، ولم يقل: أهوينا، والذي باشر الفعل الملائكة بأمر الله تعالى، وجاء في حديث صحيح إسناد الفعل إلى الله بغير صيغة الجمع، والمراد غيره، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟»([17]).
11- {يَوْمَ نَنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}[طه:102] على قراءة الإمام أبي عمرو البصري بالنون([18])، فنسب الله سبحانه النفخ إلى نفسه، والذي ينفخ في الصور الملَك بأمره، ولا يصح أن نصف الله سبحانه بصفة النفخ، ولا أن ننسب إليه فعل النفخ في الصور بنفسه، بل الذي ينفخ في الصور ملك من ملائكته، وهذه الآية نسب الله فيها النفخ إلى نفسه؛ لأن الملَك الموكل بالنفخ في الصور ينفخ في الصور بأمر الله وإذنه، قال الواحدي: "النفخ يكون من الملك الموكَّل بالصور بأمر الله، ووجه قراءة أبي عمرو: أنه على معنى إضافة الأمر بالنفخ إلى الله تعالى"([19])، وقال السمين الحلبي: "قرأ أبو عمرو: {ننفخ} مبنيًا للفاعل بنون العظمة، أسند الفعل إلى الآمر به تعظيمًا للمأمور، وهو الملَك إسرافيل"([20])، وقال الألوسي: "قرأ أبو عمرو وابن محيصن وحميد: {ننفخ} بنون العظمة على إسناد الفعل إلى الآمر به، وهو الله سبحانه، تعظيمًا للنفخ؛ لأن ما يصدر من العظيم عظيم أو للنافخ بجعل فعله بمنزلة فعله تعالى، وهو إنما يقال لمن له مزيد اختصاص وقرب مرتبة"([21]).
وبهذا يتبين بوضوح أن القول أو الفعل قد يُنسَب أحيانًا إلى الله سبحانه والذي قاله أو فعله ملَكٌ من ملائكته، وصح هذا لكونه مبلِّغًا قول الله وأمره، والله أعلم.
المبحث الثاني: وجوب إثبات صفات الله بلا إفراط ولا تفريط
يجب أن نثبت لله سبحانه ما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة من الصفات الذاتية والفعلية من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل، ونُمِرُّها كما جاءت في النصوص بلا تكلف ولا تنطع، بلا غلو في الإثبات، ولا غلو في النفي، ومن غير تفويض للمعنى المفهوم من معاني الصفات العظيمة، مع الإيمان بأن الله ليس كمثله شيء، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقال سبحانه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، وهذه طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم بإحسان، ومن مذهبهم تفويض كيفية الصفات، وليس تفويض معاني الصفات، وتفويض معاني الصفات مذهب باطل، ويلزم منه محذورات كثيرة، وإشكالات عديدة، منها أن يكون الله سبحانه أخبرنا عن نفسه بما لا نفهم معناه، وقد أخطأ من نسب تفويض معاني الصفات إلى السلف الصالح.
وإن أفضل كتاب في العقيدة هو كتاب الله سبحانه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو يهدي من تدبره للتي هي أقوم في كل شيء، ومن أعظم الأشياء التي يهدي إليها القرآن مسائل العقيدة، فليحرص طالب العلم على تعلم تفسير القرآن الكريم كاملًا بلا تقصير، فالقرآن يفسر بعضه بعضًا، وهداياته لا حصر لها، وقد ألَّف أهل العلم رحمهم الله قديمًا وحديثًا كتبًا نافعة في العقائد، اعتمدوا فيها على كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه السلف الصالح، وضبطوا مسائل الأسماء والصفات، ومن أنفع الكتب المصنفة في باب الصفات: كتاب التدمرية لابن تيمية رحمه الله، والعقيدة الحموية له أيضًا، وكتاب القواعد المثلى في أسماء الله وصفاته العلى لابن عثيمين رحمه الله.
وقد وقع لبعض العلماء غفر الله لنا ولهم أخطاء في إثبات بعض الصفات كالإمام الجليل عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله، قال الحافظ الذهبي مخبرًا عن كتاب الدارمي في النقض على بشر المريسي: "في كتابه بحوث عجيبة مع المريسي، يبالغ فيها في الإثبات، والسكوت عنها أشبه بمنهج السلف في القديم والحديث"([22]).
وقال الألباني: "لا شك في حفظ الدارمي وإمامته في السنة، ولكن يبدو من كتابه الرد على المريسي أنه مغال في الإثبات، فقد ذكر فيه القعود والحركة والثقل ونحوه، وذلك مما لم يرد به حديث صحيح، وصفاته تعالى توقيفية، فلا تُثبت له صفة بطريق اللزوم مثلًا، كأن يقال: يلزم من ثبوت مجيئه تعالى ونزوله ثبوت الحركة، فإن هذا إن صح بالنسبة للمخلوق، فالله ليس كمثله شيء، فتأمل"([23]).
ولا يعني هذا التهوين من شأن كتاب الدارمي في النقض على المريسي، فهو من أحسن الكتب في الرد على شبه الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وكل كتاب لا يسلم من الخطأ والنقص والاختلاف إلا كتاب الله العظيم، وكلٌ يُؤخذ من قوله ويُرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
وممن وقع له غلو في إثبات بعض الصفات: القاضي أبو يعلى ابن الفراء رحمه الله في كتابه إبطال التأويلات، وله مع سعة علمه وفضله بعض العجائب والزلات الشنيعة غفر الله لنا وله، وقد وقعت له تلك الأخطاء بسبب أخذه بظاهر بعض النصوص التي لا تصح أو لا يصح الاستدلال بها على الصفات لعدم صحة دلالتها، ومن ذلك: أنه أثبت لله سبحانه الأضراس واللهاة([24])، والذراعين والصدر([25])، والساعد([26])، والفخذ([27])، وأشنع من هذا قوله بعد أن ذكر حديثًا موضوعًا لا يصح: "هذا الخبر يفيد أشياء منها: جواز إطلاق الاستلقاء عليه، لا على وجه الاستراحة، بل على صفة لا تُعقل معناها، وأن له رجلين يضع إحداهما على الأخرى على صفة لا نعقلها، إذ ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته"([28]).
فينبغي الاحتياط الشديد في إثبات الصفات لله سبحانه، وعدم التساهل في إثبات الصفات المحتملة الثبوت والدلالة، التي لا يُعرف عن الصحابة والتابعين وأتباعهم أنهم كانوا يثبتونها، ويكفينا ما كفى السلف الصالح رحمهم الله من قراءة آيات وأحاديث الصفات، والإيمان بها، ومعرفة معانيها الظاهرة كما يليق بعظمة الله سبحانه، والسكوت عن الكلام عن ما يُشكل منها، وترك التكلف بالتكييف أو التمثيل أو التأويل أو التعطيل لها، ونقول كما قال الله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
عن أشهب بن عبد العزيز قال: سمعت مالك بن أنس يقول: "إياكم والبدع. قيل: يا أبا عبد الله وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان"([29]).
وكما وقع بعض الناس في الغلو في إثبات بعض الصفات، وقع بعضهم في الغلو في نفي الصفات، فنفى المعتزلة عن الله سبحانه جميع الصفات الإلهية، فأثبتوا الأسماء الحسنى دون الصفات، فقالوا: الله سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعليم بلا علم، ورحيم بلا رحمة، وهكذا، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وقد استغرب منهم العلامة اللغوي الكبير أبو منصور الأزهري الهروي المتوفى سنة 370 للهجرة فقال: "السميع من صفات الله وأسمائه، وهو الذي وسع سمعه كل شيء؛ قال الله تبارك وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]، وقال في موضع آخر: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} [الزخرف: 80]، قلت: والعجب من قوم فسَّروا السميع بمعنى المسمِع، فرارًا من وصف الله بأن له سمعًا، وقد ذكر الله الفعل في غير موضع من كتابه، فهو سميع: ذو سمع بلا تكييف ولا تشبيه بالسميع من خلقه، ولا سمعه كسمع خلقه، ونحن نصفه بما وصف به نفسه، بلا تحديد ولا تكييف"([30]).
ونفى المعتزلة والأشاعرة علو الله على خلقه بذاته، وأنكروا استواءه على عرشه بمعنى العلو والارتفاع كما يليق بجلاله، وأنكروا أن الله في السماء كما أخبرنا بذلك في قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16]، وزاد الأشاعرة بدعة عجيبة ما سبقهم إليها أحد من العالمين، وهي قولهم: إن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت([31]).
قال الحافظ الخطيب البغدادي: "أما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف رضوان الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله سبحانه، وحققها من المثبتين قوم فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودين الله بين الغالي فيه، والمقصِّر عنه ... وتنقسم الأحاديث المروية في الصفات ثلاثة أقسام:
أ- منها أخبار ثابتة أجمع أئمة النقل على صحتها، لاستفاضتها وعدالة ناقليها، فيجب قبولها، والإيمان بها، مع حفظ القلب أن يسبق إليه اعتقاد ما يقتضي تشبيهًا لله بخلقه، ووصفه بما لا يليق به من الجوارح والأدوات، والتغير والحركات.
ب- القسم الثاني: أخبار ساقطة، بأسانيد واهية، وألفاظ شنيعة، أجمع أهل العلم بالنقل على بطولها، فهذه لا يجوز الاشتغال بها، ولا التعريج عليها.
ج- القسم الثالث: أخبار اختلف أهل العلم في أحوال نقلتها، فقبلها البعض دون الكل، فهذه يجب الاجتهاد والنظر فيها لتلحق بأهل القبول، أو تجعل في حيز الفساد والبطول"([32]).
وإن بعض العلماء المتأخرين والمعاصرين يعدون لله سبحانه صفات لم يكن مشهورًا عن السلف الصالح جعلها من الصفات العُليا، فمن ذلك:
صفة الملل والسآمة، عدها من صفات الله: القاضي أبو يعلى ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ وابن باز، وتوقف ابن عثيمين في إثباتها([33]).
ومن ذلك: صفة الظل لله، أثبت هذه الصفة العلامة ابن باز رحمه الله([34])، ولم أجد له سلفًا من العلماء المتقدمين، وقد خالفه في ذلك بعض المعاصرين كابن عثيمين، قال ابن عثيمين: "قوله: (لا ظل إلا ظله) يعني: إلا الظل الذي يخلقه، وليس كما توهم بعض الناس أنه ظل ذات الرب عز وجل، فإن هذا باطل؛ لأنه يستلزم أن تكون الشمس حينئذ فوق الله عز وجل"([35]).
ومن ذلك: صفة الشم، فجوز إثباتها من الصفات بعض المعاصرين كابن باز، وذهب ابن عثيمين وعبد الرحمن البراك إلى التوقف في إثبات أو نفي هذه الصفة لله، لعدم ورود ذلك عن الصحابة، وذهب عبد العزيز الطريفي إلى عدم إثباتها من الصفات([36]).
وتوجد صفات أخرى في ثبوت دليلها أو دلالتها على وصف الله بها نظر واحتمال قوي: كالجَنب، والحَقْو، والحُجْزة، والأنامل، والتردد، ولا يُعرف عن الصحابة والتابعين وأتباعهم أنهم كانوا يثبتونها لله سبحانه، وقد أثبتها بعض العلماء الأجلاء من غير تشبيه لورودها في بعض النصوص، ولا ننكر على من أثبتها مع تنزيه الله سبحانه عن النقص، والإيمان بأنه ليس كمثله شيء، وعلى من أثبت لله صفةً مختلفًا فيها أن لا يوالي ويعادي عليها، ولا يضلل من لم يثبتها أو توقف في إثباتها.
واعلم أن العلم النافع هو الظاهر المشهور عند العلماء، ولا ينبغي الأخذ بالقول الشاذ والغريب، قال الزجاجي: "ليس لنا أن نطلق على الله عز وجل من الصفات إلا ما أطلقه جماعة المسلمين، وجاء في الكتاب، وإن كان في اللغة محتملًا"([37])، قلت: وكذلك إن جاء في السنة الصحيحة الثابتة.
قال ابن رشد الجد مبينًا مذهب الإمام مالك: "لا ينبغي لأحد أن يصف الله عز وجل إلا بما وصف به نفسه في القرآن أو وصفه به رسوله في متواتر الآثار، واجتمعت الأمة على جواز وصفه به"([38])، وفي تخصيصه المتواتر نظر، فيكفي صحة الحديث ولو كان من الآحاد، ولكن لا بد أن يكون صريح الدلالة أو ظاهر الدلالة، وكذلك في اشتراطه إجماع الأمة نظر، فيكفي أن يكون القول مشهورًا عند العلماء، قال الإمام مالك بن أنس: "شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس"([39])، وقال ابن المبارك: "العلم الذي يجيئك من هاهنا وهاهنا: يعني المشهور"([40])، وعن الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: "ليس من العلم ما لا يُعرف، إنما العلم ما عُرِف، وتواطأت عليه الألسن"([41])، وقال عبد الرحمن بن مهدي: " لا يكون إمامًا من أخذ بالشاذ من العلم"([42]).
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|