شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (447)
صـــــ(1) إلى صــ(17)
شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [8]
تعليق الطلاق بحصول شيء كلي لا يقع إلا بحصوله كله ولا يقع ببعضه إلا إذا نوى ذلك البعض، وقد بين العلماء أدلة هذه الأحكام.
وكذلك إذا علق الطلاق على فعل شيء ففعله ناسيا أو جاهلا اختلف فيه الفقهاء رحمهم الله، وبينوا الفرق بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي في هذه المسألة ونظائرها.
تعليق الطلاق بحصول شيء كلي فلا يحصل إلا بعضه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وإن حلف لا يدخل دارا أو لا يخرج منها، فأدخل أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب، أو لا يلبس ثوبا من غزلها، فلبس ثوبا فيه منه، أو لا يشرب ماء هذا الإناء، فشرب بعضه لم يحنث] عقد المصنف رحمه الله هذا الفصل لبيان جملة من المسائل التي تتعلق بتعليق الطلاق نفيا وإثباتا على فعل شيء أو تركه، فمتى يصدق عليه أنه أخل يحكم بوقوع الطلاق، ومتى لا يصدق عليه ذلك فلا يحكم بوقوع الطلاق، وهذا يتوقف على جملة من الصفات يعلق الطلاق على وجودها، وهذه الصفات قد يريد بها الكل أو يريد بها البعض فينظر في هذا الاسم الذي ذكره، هل يصدق على كل الشيء أو بعض الشيء؟ وهل الذي فعله الكل أو البعض؟ ثم بعد ذلك يحكم بالوقوع وعدمه.
قال المصنف رحمه الله: (إن حلف لا يدخل دارا) فإذا قال: إن دخل بيت فلان فامرأته طالق، أو قال بالعكس: امرأته طالق إن خرج من بيته اليوم، أو نحو ذلك.
فإذا علق الطلاق على الدخول فلا بد من وجود الدخول على الصفة الكاملة؛ لأن الإنسان قد يدخل بكامل جسده وقد يدخل بعض جسده فقط، فهل امرأته تطلق بمجرد وقوع الدخول لبعض الجسد، أم أنها لا تطلق إلا إذا حصل الدخول الكامل للجسد؟ وهل الجزء ينزل منزلة الكل أو لا؟ نقول: إذا وقع الدخول للجسم كله فلا إشكال أن امرأته طالق؛ لكن لو أنه أدخل يده لاستخراج شيء من البيت فهل تطلق المرأة؟ وهكذا لو أنه أدخل رجله ثم تذكر ورجع ولم يدخل كل جسده، فهل نحكم بالطلاق؟
الجواب لا بد من دخول جسمه كاملا، والجزء لا يأخذ حكم الكل، والشريعة أحيانا تعطي الجزء حكم الكل، وهذا بالسريان، أو بالتجوز في اللفظ، وأحيانا لا تعطي الجزء حكم الكل، فتعطي الجزء حكم الكل كما إذا قال: يدك طالق، فالحكم كأنه قال: أنت طالق؛ لأن الطلاق لا يتعلق بالجزء وحده، ولا يمكن إسقاط الطلاق الذي أثبته، فهنا يأخذ الجزء حكم الكل، ومن ذلك إطلاق الشرع للمسجد الحرام على مكة كلها، وكذا تسمية الصلاة بالسجدة، وتسميتها بالركعة، وهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، لكن هناك مسائل لا تعطي فيها الشريعة الجزء حكم الكل وهي كمسألتنا، ومثل: مسألة الاعتكاف لو كان معتكفا في المسجد فأخرج يده فإنه لا يبطل اعتكافه؛ لأن الاعتكاف يبطل بخروج الإنسان من دون حاجة من المسجد، فلو أخرج يده أو رجله أو جزءا من جسده ولم يخرج بكل بدنه فإنه لا يبطل اعتكافه، فلابد من وجود الكل تاما على الوجه المعتبر حتى يحكم بوقوع ما رتب المكلف وقوع الشيء عليه، وفي السنة ما يدل على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفا في مسجده، فكان يناولها رأسه وهو معتكف فترجله) فهذا يدل على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل؛ لأنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد، كذلك ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عائشة وهو معتكف: (ناوليني الخمرة، قالت: يا رسول الله! إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك) لأنه قال: ناوليني، ومعنى ذلك: أنها ستدخل يدها، ففهمت عائشة أنها ممنوعة جزءا وكلا، فقالت: يا رسول الله! -وهي فقيهة رضي الله عنها- إني حائض، فقال: (إن حيضتك ليست في يدك) ، يعني: أنك إن أدخلت اليد لم يكن ذلك دخولا للجسم كله، وهكذا هذه المسألة التي ذكرها المصنف فلا يحنث بإدخال بعض جسده.
ثم عندنا استصحاب الأصل أنها امرأته، ولم يقع الدخول على الوجه التام الكامل، والأصل عدم الطلاق، فإذا قال: امرأته طالق إن دخل بيت محمد فأدخل جزءا من جسده لم يحكم بطلاق امرأته حتى يدخل جسمه كاملا ولو للحظة يسيرة، فإذا دخل جسمه كاملا ولو لطرفة عين فإنه تطلق عليه امرأته، وأما دخول بعض الجسم فلا يوجب ذلك ثبوت الطلاق.
العكس لو قال: امرأته طالق لو خرج اليوم من بيته، فأخرج يدا أو أخرج رجلا، أو أخرج رأسا، لم تطلق امرأته حتى يخرج بتمامه وكماله.
مسألة: لو قال: امرأته طالق إن خرج من البيت وكانت امرأته حاملا، وشاء الله أن تضع في الساعة السادسة، وفي الساعة السادسة إلا عشرة أخرج الزوج جزءا من بدنه من البيت، ثم خرج من البيت بعد الولادة، فحينئذ تعتد بعد الولادة لأن الطلاق وقع بعد الولادة، ولكن إن وقع خروج الجسم كاملا قبل ولادتها ولو بلحظة فإنها تطلق قبل الولادة وقت خروجه من البيت، وتخرج من عدتها بالولادة؛ لأن المطلقة الحامل تخرج من عدتها بالوضع، فحينئذ إن خرج الزوج بكل جسده قبل الولادة ولو بوقت يسير فإنه يحكم بكونها أجنبية؛ لأنها خرجت من عدتها بالوضع، أما لو أخرج بعض جسده ثم وضعت ولدها ثم خرج بجسمه كله بعد وضعها لولدها فتستأنف عدتها بالحيض؛ لأن الطلاق وقع بعد الولادة.
والحاصل: أن الجزء لا يأخذ حكم الكل في مسألتنا؛ لأنه علق الطلاق على صفة الدخول فلا بد من وقوعها من الجسم كاملا ولا يجزئ وقوع البعض، وكذلك الحال في الخروج.
(أو دخل طاق الباب) هو القوس الذي تكون فيه عضادتي الباب، فلو جاء رجل ودخل على فم الباب ووقف على نفس الطاق بحيث إن جسمه مسامت للطاق، هذا هو الحد، فإن جاوزه حصل الدخول الفعلي بحيث يخلف هذا الطاق وراء ظهره ويدخل، وإن خرج وخلف الطاق وراء ظهره خروجا فقد خرج، فالعبرة بهذا الحد الفاصل الذي يعتمد عليه الباب ويسمى: طاق الباب، فإن جاوزه حكم بالطلاق دخولا وخروجا، وإن لم يجاوزه لم يحكم بوقوع الطلاق.
(أولا يلبس ثوبا من غزلها فلبس فيه منه) علق الطلاق على لبس ثوب من غزل امرأته، أو غزل أخته، أو غزل أمه.
الخ.
واللبس هو: الدخول في الشيء، فلو حلف بالله أنه لا يلبس الثوب، فنام ووضع الثوب فوقه، لم يحنث؛ لأنه لم يدخل فيه؛ لأن اللبس حقيقته الدخول، ولو كان محرما فأخذ الثوب ووضعه على كتفيه لم تلزمه الفدية؛ لأنه لم يلبس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم) بحيث يقع الدخول الفعلي.
وفي هذه المسألة: إذا كان الثوب فيه شيء من غزل المرأة ولبسه فقد حصل الدخول، ولذا قال بعض العلماء: يحنث ولو كان فيه أقل ما يكون من غزل المرأة، واختار المصنف أنه لا بد وأن يكون منسوجا من غزلها نسجا كاملا، فلو كان النسج في بعض الثوب أو كان في هذا الثوب شيء من غزلها فإنه لا يحكم بالطلاق على ما اختاره رحمه الله، فيعلق هذا على التمام والكمال، فلا بد وأن يكون الثوب منسوجا كله من غزلها حتى يقع الطلاق وإلا لم يقع.
(أو لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه لم يحنث) الإناء ينقسم إلى قسمين: إناء كبير وإناء صغير، فالكبير الذي لا يمكن لمثله أن يشربه، فإذا كان الإناء صغيرا فعلى ما ذكر المصنف من أنه إذا قال الرجل: لا يشرب ماء هذا الإناء، فمعناه: إن شربه تاما كاملا وقع الطلاق، فلو شرب منه وبقي منه بقية ولو قليلة لا يقع الطلاق؛ لأنه علقه على شربه تاما كاملا، فالمسألة مبنية على ما تقدم من أنه لا يأخذ البعض حكم الكل.
أما لو كان الإناء كبيرا فإنه لا يقدر على شرب كل ما في الإناء لأنه أمر مستحيل، مثل أن يقول: لا يشرب ماء هذا النهر، فإنه لا يمكن شرب كل النهر وإنما المراد أن لا يشرب من النهر، فهذه قرينة تدل على أنه يريد الشرب من الإناء أو من النهر.
والطلاق تارة يعلق على الشرب، وتارة يعلق على المشروب، وتارة يعلق على الإناء نفسه، فقد يقصد بقوله: لا يشرب من هذا الإناء، المشروب الذي فيه، فلو شرب منه ولو بعضه فإنه يقع الطلاق عند بعض العلماء لأن (من) للتبعيض، إذا قصد المشروب الذي داخل الإناء؛ لأن الإناء لا يشرب وإنما يشرب الذي بداخله، فإذا قال: لا أشرب من هذا الإناء وقصد البعض فإنه لا يحنث إلا بالبعض، وإذا كان مراده: كل الإناء، فحينئذ يرد فيه التفصيل ما بين الكبر والصغر، وأما إن قصد الإناء نفسه أنه لا يشرب منه، مثل أن يختصم مع رجل وقال له: امرأتي طالق إن شربت من إنائك، فيبقى الطلاق معلقا على وقوع الشرب من الإناء سواء كان فيه ماء أو غير ماء؛ لأن العبرة بالإناء نفسه، بغض النظر عن الذي يكون فيه، فإذا شرب من الإناء حكم بالطلاق.
إذا: تارة يقصد بالامتناع عن الشرب من إناء مخصوص، وتارة يقصد نفس الشراب الذي في الإناء، فإن قال: والله ما أشرب من ماء هذا الإناء، ووضع في الإناء شراب برتقال أو لبنا لم يحنث، ولم يقع الطلاق؛ لأنه خصص فقال: من ماء هذا الإناء، وقصد الماء فلا ينصرف إلى غيره.
الخلاصة: أنه تارة يقصد الإناء نفسه، فحينئذ يقع الطلاق بأي مشروب في هذا الإناء سواء كان ماء أو غيره، وتارة يقصد الماء الموجود في الإناء فيفصل بين أن يقصد تمام الإناء أو بعض الإناء، كما لو وجدت قرينة تدل على أنه يريد البعض، وتارة يقصد الأمرين سواء كان في الإناء مشروب من الماء المسمى، أو كان غيره، فحينئذ يقع بأي واحد من الأمرين، سواء كان فيه شراب أو غيره وسواء استتمه أو لم يستتمه، فيحكم بوقوع الطلاق.
من علق الطلاق على فعل شيء ففعله ناسيا
قال المصنف رحمه الله: [وإن فعل المحلوف عليه ناسيا أو جاهلا حنث في طلاق وعتاق فقط] النسيان: ذهاب الشيء عن بال الإنسان فلا يتذكره، والناسي إذا ذكر يتذكر غالبا، وهذا من النقص الذي جعله الله عز وجل في بني آدم، ويعتبر النسيان من الأعذار الموجبة للتخفيف، فرحم الله العباد بإسقاط المؤاخذة عنهم حال النسيان، والنصوص في هذا واضحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:286] وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عن الله عز وجل أنه لما دعا المؤمنون بهذا الدعاء قال الله: (قد فعلت) أي: لا أؤاخذكم إن نسيتم أو أخطأتم، وقال عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والإجماع منعقد على أن النسيان عذر، لكن في الشريعة تفصيل في هذا العذر: ففي بعض الأحيان يوجب سقوط المؤاخذة عن الإنسان من حيث الإثم ومن حيث التبعية، فلا يؤاخذ بضمان، وذلك في حق الله عز وجل خاصة، مثال ذلك: لو تطيب الحاج ناسيا، ثم تذكر فغسل الطيب فلا شيء عليه في أصح قولي العلماء رحمهم الله ولا يأثم؛ لأنه لم يقصد وضع الطيب، وإنما الآثم هو الذي يمنعه ربه فيعتدي حدود الله وهو مستشعر هذا الاعتداء، أما هذا فهو ناس وليس عنده إرادة العصيان لله عز وجل في هذا الشيء، فلا يحكم بإثمه من هذا الوجه، فأسقط الله عنه المؤاخذة، وهذا يسمى: سقوط المؤاخذة، وأما الضمان فإنه يسقط عنه، ولا تجب عليه الفدية عند الشافعية والحنابلة، أما عند الحنفية والمالكية فتجب عليه الفدية، يقولون: يسقط عنه الإثم ولا يسقط عنه ضمان حق الله عز وجل، والصحيح: قول الشافعية والحنابلة، فمن تطيب ناسيا أو غطى رأسه ناسيا أو لبس مخيطا ناسيا ثم أزال ذلك لما تذكر فإنه يسقط عنه الإثم وتسقط عنه المؤاخذة.
وبعض مسائل العبادات والمعاملات يجب فيها ضمان الحق على الناسي إذا وقع في خلل، فيسقط عنه الإثم لمكان النسيان، ولكن يجب عليه ضمان الحق، خاصة في حقوق الناس، مثال ذلك: رجل استدان من آخر ألف ريال ثم نسي هذه الألف نسيانا كليا، وتخاصما عند القاضي فقال: هل لفلان عليك شيء؟ قال: لا، ليس عندي شيء، قال: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، قال: أتحلف اليمين؟ فحلف اليمين، فهو حلف بالله أنه ليس عنده شيء؛ لأنه لم يتذكر، ويجوز للإنسان أن يحلف على غالب ظنه ويقينه، فهو لم يتذكر أن لفلان عنده شيء، أو ظن أنه قد قاضاه، ثم بعد سنة أو سنوات تذكر أن لفلان عنده ألف ريال، فهذا النسيان يسقط عنه الإثم في حلفه، ويسقط عنه الإثم في القضاء، ولكن يجب عليه ضمان الألف الريال، مع أن القاضي قد حكم أن ذمته بريئة، فلا يسقط هذا الحق، ويجب عليه أن يضمن الحق لصاحبه، فيرد الألف ريال للشخص الذي استدانها منه، فهذا في حق المخلوق، وكذلك يجب عليه ضمان الحق في حق الخالق كما لو صلى ركعة من صلاة الصبح وظن أنه قد صلى الصبح تامة، ثم تذكر بعد طلوع الشمس أنه لم يصل الصبح، فهو معذور، ولكن لما تذكر يجب عليه ضمان حق الله عز وجل فيتوضأ ويصلي ولو خرج الوقت كما في الحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) .
فهذه قاعدة: (إذا ألزمت الشريعة الناس بالضمان فهذا من باب الحكم الوضعي، وإذا أسقطت عنهم المؤاخذة فهذا من باب الحكم التكليفي) ، والحكم الشرعي: إما حكم تكليفي وإما حكم وضعي، فمن حيث إسقاط المؤاخذة من جهة التكليف لا يحكم بإثم، ولذلك قال بعض العلماء: الناسي ليس بمكلف أثناء النسيان، فيسقط عنه الحكم من جهة الجانب التكليفي، لكن من جهة الجانب الوضعي لا يسقط عنه؛ لأن الشريعة أوجبت على الإنسان ضمان الحق بكل وجه، فيضمن الحقوق لأهلها، وكونه ناسيا ثم يتذكر فإنه يعذر أثناء النسيان لكن بعد النسيان يجب عليه الضمان، فالنسيان والخطأ إذا ألزمت الشريعة فيهما بضمان فهذا من باب الحكم الوضعي.
مثال: لو أن رجلا رأى طيرا وأطلق سلاحه ليصيده فأصاب شخصا فقتله، فهذا خطأ مثل النسيان وكلاهما عذر، لكن يجب عليه أن يضمن دية هذا الشخص وأن يكفر كفارة قتل الخطأ، مع أنه خطأ، لأن الشريعة آخذته من باب الحكم الوضعي وليس من باب الحكم التكليفي، فالشريعة أوجبت الضمان لوجود القتل، بغض النظر عن كونه قاصدا أو غير قاصد.
مسألة: إن قال: إن دخلت الدار فامرأتي طالق، أو نسائي طوالق، ثم نسي هذا التعليق بالطلاق ودخل وهو ناس، فهل يؤاخذ أو لا يؤاخذ؟ قال طائفة من العلماء: لا شيء عليه ولا يقع عليه الطلاق، وقال طائفة من العلماء: يؤاخذ في الطلاق وفي العتاق، قالوا: إن الطلاق أمره على الخطر حتى أن جده جد وهزله جد، والشريعة جعلت هذا اللفظ موجبا للمؤاخذة، فنحن نؤاخذه ولو كان ناسيا، وهذا الذي اختاره المصنف رحمه الله في الطلاق وفي العتاق كذلك، كما لو علق عتق عبده على دخول داره ثم نسي ودخل الدار ناسيا فإنه يحكم بعتق عبده؛ لأن النسيان لا يوجب سقوط العتق والطلاق؛ لأنه من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي.
تعليق الطلاق على فعل شيء لم يفعل إلا بعضه مع النية
قال المصنف رحمه الله: [وإن فعل بعضه لم يحنث إلا أن ينويه] وإن فعل البعض لم يحنث إلا أن ينوي ذلك البعض، إذا قال مثلا: لا أشرب من هذا الإناء، وقصد أي شيء يصدق عليه أنه شرب، فلو احتسى حسوات أو حسوة من الإناء بما يصدق عليه أنه شارب حكم بوقوع الطلاق، لأنه نوى ذلك البعض.
مثال آخر: قال: امرأتي طالق إن دخلت دار محمد، ونوى أن لا يدخل يده، وأن لا يدخل رجله، وأن لا يدخل أي جزء منه، فيلزمه الطلاق بدخول البعض.
من حلف على فعل شيء يتجزأ فلا يبرأ إلا بفعله كاملا
قال المصنف رحمه الله: [وإن حلف ليفعلنه لم يبرأ إلا بفعله كله] يعني: إن حلف أن يقوم بشيء فإنه لا يحكم بوقوع الطلاق إلا إذا كان الشيء تاما كاملا، ولا يقع على البعض، فإذا قال: امرأته طالق إن بنى الجدار، أو بنى بيتا، فعلق الطلاق على وجود البناء، فلو بنى بعض الجدار أو بعض البيت ولم يتمه لم يحكم بطلاق امرأته إلا بعد تمام البناء.
فلو ابتدأ بناء البيت في شهر وانتهى بعد ثلاثة أشهر وتوفي، فإنه أثناء البناء في الأشهر الأولى هي لا تزال في عصمته، ثم بعد تمام البناء حصل الطلاق وتوفي، فإذا وقع موته قبل تمام البناء فقد مات وهي في عصمته؛ لأنه علق ذلك على وجود البناء، والبناء لم يتم عند موته فهي في عصمته، لكن إن قلنا: يقع الطلاق على أقل شيء يتحقق به البناء، فبمجرد ما يقع ذلك البعض تخرج من عصمته وتكون امرأته مطلقة، ثم يفصل في ميراثها سواء كانت رجعية أو بائنة.
الأسئلة
حكم من علق الطلاق على فعله لشيء ثم وكل غيره أن يفعله
السؤال لو قال: إن فعلت كذا فزوجتي طالق فوكل غيره أن يفعل ذلك الفعل، فهل تطلق؟ وهل الأصيل والوكيل بمنزلة واحدة أم لا؟
الجواب باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذا الأمر فيه تفصيل، هناك كلمات ينزل فيها الوكيل منزلة الأصيل، مثل أن يقول: والله لا أبني دارا، أو يقول: إن بنيت الدار فامرأتي طالق، ومعلوم أنه لا يبني بنفسه، وإنما يأمر غيره بالبناء، فإذا أمر غيره بالبناء وفعل البناء غيره، فإنه حينئذ يحكم بوقوع الطلاق؛ لأن هذا معلوم بداهة.
وأما إذا كان مراده بالفعل أن يفعله بنفسه فلا يقع الطلاق إلا إذا فعله بنفسه، والمعول في ذلك على الصيغة التي يذكرها، ولكن الأصل أن الوكيل ينزل منزلة الأصيل والله تعالى أعلم.
حكم قياس طلاق الناسي على المكره
السؤال هل يمكن القول بأن الأصح عدم وقوع طلاق الناسي قياسا على عدم وقوع طلاق المكره، بجامع أن كلا منهما غير مختار لذلك بقلبه، وغير متعمد له؟
الجواب الأصل يقتضي أن المكره يقع طلاقه، لكن جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق في إغلاق) وجاء القياس القوي: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106] فاختلف الوضع، وثبتت الرخصة للمكره، وإلا فالأصل يقتضي وقوعه، والهازل لا يقصد الطلاق، ولم يدر بخلده أنه يطلق زوجته، ومع ذلك طلق عليه الشرع زوجته، ولم يعتبر ذلك رخصة له، وجعل هزله جدا، وهذا يدل على خطر الطلاق، فكل باب نعمل فيه الأصول التي وردت وهدي الكتاب والسنة فيه، فلما كان أمر الطلاق - كما يقول العلماء- على الخطر استنباطا من نصوص الكتاب والسنة فإنه حينئذ إذا طلق ناسيا كما اختار المصنف رحمه الله وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، أنه يمضي عليه طلاقه، والله تعالى أعلم.
من علق الطلاق على الخروج من البيت فهل تستثنى الضرورة
السؤال إن علق الطلاق بخروجها من البيت فهل يستثنى من ذلك لو طلبت الضرورة كمرض أو نحوه؟
الجواب الحكم عام، سواء خرجت لضرورة أو بدون ضرورة؛ لأن العبرة بالخروج، إلا إذا كان مراده أن تخرجي -مثلا- لحفلة معينة، أو تخرجي إلى مناسبة معينة، فما كان مقيدا يقيد بتقييده، والله تعالى أعلم.