شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب النكاح)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (429)
صـــــ(1) إلى صــ(16)
شرح زاد المستقنع - باب الخلع [2]
الخلع صورة من صور الفراق بين الزوجين، وهو عند الأكثر طلاق، ولهذا فإنه تترتب عليه أحكام يجتمع ويفترق فيها عن الطلاق، وهذه الأحكام يبحثها العلماء عند الكلام عن الخلع.
حكم الخلع إذا كان بلفظ صريح الطلاق أو كنايته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: فمن عادة العلماء رحمهم الله أنهم إذا بينوا مسائل الخلع يتعرضون لما يتعلق بلفظ الخلع.
وقد تقدم معنا أن الزوج إذا خالع زوجته لم يخل من حالتين: الحالة الأولى: أن يخالعها بلفظ الخلع دون أن ينص على الطلاق.
والحالة الثانية: أن يخالعها ويطلق؛ فأما في الحالة الأولى وهي أن يخالعها بلفظ الخلع دون أن يذكر طلاقا، فقد اختلف السلف رحمهم الله في هذه المسألة وتبعهم في ذلك الخلاف الأئمة الأربعة، فقال طائفة من أهل العلم، وهو مذهب الجمهور: إنه إذا خالعها وقع طلاقا، فلو قال لها: خالعتك أو فارقتك، وكان على سبيل الخلع دون أن ينص على لفظ الطلاق، فإنه يعتبر طلاقا، وذكرنا دليل هذا القول، ووجهه وسبب رجحانه، وقلنا: إن الذين قالوا بأنه لا يقع طلاقا استندوا على ما أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك عن طائفة من التابعين ك عكرمة وطاووس رحمة الله عليهما أنهم قالوا: إن الخلع ليس بطلاق، واحتجوا بآية البقرة، وذكرنا وجه دلالتها والجواب عن هذا الدليل.
أما بالنسبة لقوله: [والخلع بلفظ صريح الطلاق] فإن كان الخلع بلفظ الخلع، فقلنا: إنه يقع، ويكون طلاقا على الصحيح، إلا أن لفظ الخلع عند من يقول بأن الطلاق لا يقع بالخلع، ينقسم إلى صريح وغير صريح، فالصريح: خالعتك وفاديتك وفاسختك، قالوا: هذه الثلاث كلها تعتبر لفظا صريحا في الخلع.
أما لفظ الخلع فقالوا: لأنه عرف شرعي، وقد جرى العرف أن الرجل يخالع امرأته، فإذا قال لها: خالعتك بألف، فهو خلع، وبناء عليه لا يقع الطلاق عندهم، كما هو المذهب، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.
وكذلك إذا قال: فاسختك، أو فسخت نكاحك؛ فإنه مثل قوله: خالعتك، فلا طلاق، ويعتبر من صريح ألفاظ الخلع.
أما لفظ الفدية فإنه يعتبر من ألفاظ الخلع؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229] ، وهناك من العلماء من يقول: هناك فرق بين الخلع والفدية.
فالخلع يكون ببذل المرأة للمهر وأكثر، يقال: خالعت المرأة زوجها إذا بذلت المهر أو أكثر من المهر، والفدية قالوا: إذا بذلت بعض المهر، وبعض ما دفع الزوج لها، فيجعلون الفدية للبعض، ويجعلون الخلع للكل أو أكثر من المهر.
وقوله رحمه الله: (والخلع بلفظ صريح الطلاق) هذا النوع الثاني من الخلع عند الحنابلة، وهو أن يتلفظ بلفظ الطلاق، فقال رحمه الله: (والخلع بلفظ صريح الطلاق) ولفظ الطلاق فيه الصريح وفيه الكناية.
واللفظ الصريح: هو الذي لا يحتمل معنى غيره؛ فالرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق؛ فإن هذه الكلمة صريحة في الطلاق، ولا تحتمل معنى غيره إلا في أحوال نادرة، سنذكرها إن شاء الله عند بيان ألفاظ الطلاق؛ فإذا قال لامرأته: خالعيني، قالت: أدفع لك ألفا وتخالعني وتطلقني، فأخذ الألف فقال: أنت طالق؛ فحينئذ يكون خلعا؛ لأنه بعوض، وإن كان طلاقا، لكنه بعوض، فيكون من النوع الثاني من الخلع، وهو الخلع بعوض مع لفظ الطلاق.
وصريح لفظ الطلاق اختلف العلماء رحمهم الله فيه، وسيأتي إن شاء الله بيانه في مسألة الطلاق؛ لكن من باب الاختصار والإجمال، هناك من يقول: صريح الطلاق هو لفظ الطلاق، وما تصرف منه، غير المضارع وغير الأمر كما سيأتي إن شاء الله، فيجعلون لفظ الطلاق الصريح خاصا بمادة (طلق) أنت طالق، طلقتك، أنت مطلقة ونحو ذلك، هذا صريح الطلاق.
أما غير هذا اللفظ فقالوا: لا يقع طلاقا إلا إذا نوى، فيعتبرونه من غير الصريح، وقال طائفة من العلماء: صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ عندهم: الطلاق والسراح والفراق.
فإذا قال: طلقتك، فارقتك، سرحتك، فإنه صريح في الطلاق، وفائدة معرفة الصريح من غير الصريح: أن الرجل إذا خاطب امرأته بالصريح طلقت عليه إلا إن يقيم دليلا على أنه لا يريد الطلاق، فلو أن رجلا كان جالسا مع امرأته، فقال لها: سرحتك؛ فعند من يقول: إنه من صريح الطلاق يطلقها عليه، ولكن عند من يقول: إنها كناية وليست من الصريح؛ فإنه حينئذ يسأله عن قوله: (سرحتك) ماذا نوى به، وعلى هذا، فقوله: من صريح الطلاق، يعني: من الألفاظ الصريحة، وهي عند الحنابلة تختص بلفظ الطلاق، وما اشتق منه، وعند غيرهم الثلاثة الألفاظ التي وردت في القرآن: الطلاق والفراق والسراح بلفظ صريح الطلاق.
قوله: (أو كنايته وقصده طلاق بائن) الكناية: من كن الشيء إذا استتر، فاللفظ المحتمل للطلاق وغير الطلاق يعتبر من الكنايات، وسيأتي إن شاء الله الكلام على كنايات الطلاق، وقد كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل الكناية طلاقا، كما في قصة ابنة الجون من حديث أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه، فإنه لما نكحها عليه الصلاة والسلام ودخل بها في حائط الشوط وأراد أن يلم بها، فقال: (هبي نفسك لي، فامتنعت، فمد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك) ، فقال: (الحقي بأهلك) ، واعتد به طلاقا.
ومن هنا قال العلماء: الطلاق يقع بالصريح وبالكناية، فإذا قال الزوج لزوجته -بعد قولها له: خالعني وطلقني- فارقتك -إذا قلنا: إن الفراق من ألفاظ الكناية- فإنه يعتبر طلاقا بنيته، ومن كنايات الطلاق: أنت بتة، أنت بتلة، أنت برية، أنت الحرج، أنت حرة، الحقي بأهلك، اعتدي، استبرئي، ونحوها من ألفاظ الكنايات.
حكم الخلع إذا كان بألفاظ الخلع الصريحة ولم ينو الطلاق
قال رحمه الله: [وإن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء ولم ينوه طلاقا] هذه الثلاث هي صريح ألفاظ الخلع عند الحنابلة رحمهم الله كما نص على ذلك الإمام ابن قدامة وغيره.
وهذه الثلاثة الألفاظ إن وقع الخلع بها كان النوع الثاني من الخلع، وهو الذي يوجب الفراق وفسخ النكاح؛ لكنه لا يعتد به طلاقا ولا يحتسب من الطلاق، فلو كان طلقها قبل الخلع طلقتين، ثم خالعته بدون أن يتلفظ بالطلاق؛ فإنه لا يعد هذا الخلع طلاقا، وتبقى له منها طلقة، فلو أنه أراد أن ينكحها بعقد جديد قبل أن تنكح زوجا غيره، حل له ذلك؛ لأنه بقيت له طلقة.
أما على مذهب الجمهور، فإنه إذا خالعها وكان قد طلقها طلقتين؛ فإنها حينئذ تعتبر حراما عليه، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الخلع طلاقا، وقال لـ ثابت رضي الله عنه، لما خالعته امرأته جميلة بنت أبي بن سلول: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة) ، فألزمه بالطلاق وأمره به، فلو كان الخلع لا يقع طلاقا لم يلزم به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعله مطلقا بحيث يفوت عليه ثلث طلاقه، ومن هنا أخذ الجمهور أن الخلع طلاق.
لكن ذهب ابن عباس ويحكى عن عبد الله بن الزبير، وجملة من التابعين - طاووس وعكرمة - والحنابلة رحمهم الله أنه ليس بطلاق.
ولذلك فإن الخلع والفسخ والفدية، هذه الثلاثة الألفاظ تعتبر في المذهب من صريح ألفاظ الخلع كما اختاره الإمام ابن قدامة وغيره.
قال المصنف رحمه الله: [كان فسخا لا ينقص عدد الطلاق] فقوله: (كان فسخا) هذا الحكم.
قوله: (لا ينقص عدد الطلاق) هذا الأثر.
فمن فوائد الخلاف في مسألة الفسخ ومسألة الطلاق: أن من قال: إن الخلع يعتبر طلاقا فإنه يحتسبه طلقة، فإن كانت الأخيرة حرمت عليه، وإن كانت الأولى اعتد بها، فتحسب في الطلاق في المستقبل إذا نكحها؛ وأما إذا قلنا: إنه مجرد فراق، فحينئذ لا يحتسب طلاقا، ولكن يفرق بينهما.
وفي الترمذي ورد عنه عليه الصلاة والسلام في حديث الربيع أنه -عليه الصلاة والسلام- جعل عدة المختلعة حيضة، وهذا حديث مضطرب ومتكلم في إسناده، وسيأتي -إن شاء الله- الإشارة إليه، وهذا الحديث يحتج به على أن الخلع فراق، والصحيح: أن الخلع طلاق كما ذكرنا؛ لأن آية البقرة والحديث لا يقويان على معارضة الصحيح الصريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بالطلاق في الخلع.
وهنا مسألة: إذا قلنا: إن الخلع طلاق، فلو كانت المرأة حائضا؛ هل يجوز له أن يخالعها وهي حائض؟ اختار بعض العلماء كالإمام ابن قدامة رحمة الله عليه وغيره من العلماء أن الخلع يجوز حال الحيض، فيجوز حتى على القول بأنه طلاق؛ والسبب في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال ل ثابت: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة) لم يستفسر، أهي حائض أو غير حائض.
قالوا: (وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) .
أي: طلقها تطليقة سواء كانت حائضا أو غير حائض.
وعلى هذا -حتى عند الحنابلة رحمة الله عليهم الذين يقولون: إن الخلع يكون طلاقا إذا تلفظ بالطلاق- قالوا: يجوز أن يتلفظ بالطلاق وهي حائض في حال الخلع؛ لأن الطلاق وقع تبعا ولم يقع قصدا، وفرق بين التابع وبين القصد، وقد بينا دليل هذه القاعدة من السنة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين.
فقالوا: يجوز أن يخالعها بلفظ الطلاق، ولو كانت حائضا، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل من المرأة المختلعة، وقالوا: إن الخلع وقع الطلاق فيه تبعا ولم يقع أصلا.
الطلاق أثناء عدة المرأة من الخلع
قال رحمه الله: [ولا يقع بمعتدة من خلع طلاق ولو واجهها به] المرأة إذا خالعها زوجها، واعتدت من هذا الخلع -لأنه فراق على مذهب الحنابلة- فهل يلحقها بها الطلاق أو لا؟ ذكرنا أن الخلع فسخ، وإذا كان فسخا للنكاح؛ فإنه لا يلتحق الطلاق به، فلو كان طلقها طلقتين قبل الخلع، ثم خالعها، وأثناء عدتها في الخلع طلقها فإنه لا يعتد بهذه الطلقة، ولا تحرم عليه، وتبقى الطلقة الثالثة كما هي؛ لأن هذا الطلاق وقع في غير موقعه؛ لأن المرأة مفسوخ نكاحها ومفرق بينه وبينها، وحينئذ لا يتبعها طلاقه، وعلى هذا فلا يحتسب الطلاق ولا يعتد به.
حكم اشتراط الرجعة في الخلع
قال المصنف رحمه الله: [ولا يصح شرط الرجعة فيه] فإذا قال: أخالعك بشرط أن لي الرجعة، فأرجعك متى شئت أو إن شئت، يعني: في مدة العدة، فهذا لا يصح، والسبب في هذا: أن الخلع شرع لدفع الضرر عن المرأة، فإذا أجزنا للرجل أن يراجع المرأة، فمعنى ذلك أنه سيخالعها ثم يقول: راجعتك؛ فيفوت المقصود.
ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله إلا من شذ على أن الرجل لا يمتلك ارتجاع امرأته في الخلع، وأن المقصود من الخلع خروج المرأة من الأذية والإضرار، وأنه إذا أضر بها وسألته أن يخالعها؛ فإنه في هذه الحالة قصد الشرع أن يدفع ضرره عنها، فإذا كان من حقه أن يراجع فإنه يفوت مقصود الشرع بهذه المراجعة، فلا يمتلك الرجل رجعة امرأته إذا طلقها أو فارقها بخلع.
حكم المخالعة بغير عوض أو بمحرم
قال رحمه الله: [وإن خالعها بغير عوض أو بمحرم لم يصح] قوله: (بغير عوض) كأن يقول: خالعتك، ولا يأخذ منها شيئا من مهرها أو فدية لذلك الخلع فإنه لا يصح؛ لأن الخلع مبني على المعاوضة، وقالوا: إنه خارج عن الأصل، فيتقيد جوازه بصورة الأصل؛ لأن الأصل بقاء العقد واستدامته، ولا يرفع إلا بالطلاق، وإذا كان هذا الأصل فقد جاء بالخلع على صورة معينة وهي: وجود الفدية والعوض؛ فإن خالعها بدون عوض فقد خرج عن المشروع، وأصبح الخلع غير صحيح من هذا الوجه، فلا بد من وجود العوض.
قوله: (أو بمحرم) قلنا: إن العلماء من عادتهم في المتون أنهم يذكرون الشبيه والنظير بعد نظيره وشبيهه؛ فإن خالعها بغير عوض لا يقع الخلع، كذلك إن خالعها بشيء محرم؛ فإن الشيء المحرم وجوده وعدمه في حكم الشرع سواء، فلو خالعها بخمر أو ميتة أو خنزير أو أصنام؛ فإنه لا يصح الخلع إلا بعوض مباح.
والحنابلة عندهم أن الخلع يكون بلفظ الخلع، ويكون بلفظ الطلاق، فلو قالت له: خالعني بدون عوض، وقبل ذلك وطلقها وقع طلاقا ولم يقع خلعا؛ لأنه طلق ومضى عليه طلاقه، وقد رضي فراق امرأته بدون عوض، فانتقل الحكم من الخلع إلى الطلاق وأخذ حكم الطلاق.
قال رحمه الله: [ويقع الطلاق رجعيا إن كان بلفظ الطلاق أو نيته] أي: إن كان الخلع بلفظ الطلاق، أو خالعها وهو ينوي طلاقها؛ كما لو قال لها: خالعتك، ناويا الطلاق، فحينئذ ينتقل لفظ (خالعتك) إلى كناية الطلاق؛ لأن الطلاق له صريح وله كناية، ولفظ الخلع يعتبر من كناية الطلاق؛ لأنه يدل على حل العصمة ورفع قيد النكاح؛ لأن أصل قيد النكاح وعقدة النكاح وعصمة النكاح توجب أن يكون الرجل لباسا للمرأة والمرأة لباسا للرجل، فإذا قال: خالعتك، كأنه يقول: فسخت نكاحك، وكأنه يقول: خلعت لباس الزوجية، فحينئذ يكون فيه وجه لدخوله في كناية الطلاق، فهو إذا قال لها: خالعتك، ناويا الطلاق ولم يأخذ العوض؛ لم يصح خلعا، لأن الخلع لا يصح إلا بعوض، لكن يقع طلاقا؛ لأنه كناية يقع بها الطلاق بالنية.
ما يصح به الخلع
قال المصنف رحمه الله: [وما صح مهرا صح الخلع به] بعد أن بين رحمه الله ألفاظ الخلع وأحكامها، شرع فيما يكون به الخلع وهو المخالع به من مال أو فدية، وفدية الخلع تعتبر متصلة بماهية الخلع، فلا بد من بيان أحكامها، فأنت إذا قلت: لا يصح الخلع إلا بعوض؛ يرد
السؤال ما هو العوض الذي يجوز، والعوض الذي لا يجوز، والعوض الذي يعتد به في الخلع والعوض الذي لا يعتد به؟ وقد تقدم في المسائل الماضية أنه إذا خالعها بدون عوض لم يصح، وإذا خالعها بعوض فإن هذا العوض فيه تفصيل، فالقاعدة فيه عندهم أن كل ما صح مهرا صح أن يكون عوضا في الخلع؛ لأن الخلع في الأصل يكون عوضا عن المهر، وعما دفعه الرجل إليها.
وللعلماء في هذا الخلع وجهان: الوجه الأول: أن المخالع به لا بد وأن يكون مرتبطا بما دفعه إليها، فلا يجوز أن يخالعها بشيء غير الذي دفعه إليها، وهو الأكثر والأزيد على حقه الذي دفعه في النكاح، وسيأتي -إن شاء الله- ذكر هذه المسألة.
الوجه الثاني: يجوز الخلع بكل ما يصح أن يكون عوضا ومهرا في النكاح، وعليه درج المصنف رحمه الله، فلو أنه قال: خالعتك بذهب وذكر ذلك الذهب، كمائة غرام، أو خالعتك بهذا العقد من الذهب أو بهذا العقد من الفضة، فقالت: قبلت.
صح ولزمه.
حكم مخالعة الرجل لزوجته بأكثر من المهر
قال رحمه الله: [ويكره بأكثر مما أعطاها] أي: ويكره أن يخالع الرجل امرأته بأكثر مما أعطاها.
وقد اختلف علماء السلف رحمهم الله فيمن خالع امرأته بأكثر، وصورة المسألة: أن يدفع للمرأة صداقا عشرة آلاف، فيسألها عند الخلع أن تدفع له خمسة عشر ألفا، أو يخالعها بعشرين ألفا، وكان قد دفع أقل منها، فهل يجوز ذلك أو لا يجوز؟ فذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى أنه لا يجوز أن يخالع بأكثر مما دفع إليها، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله، واحتجوا بما ثبت في حديث جميلة رضي الله عنها أنها اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها لا تحب ثابتا، وأنها أبغضته حينما رأت فيه دمامة الخلقة، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجها من عصمته، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟ قالت: نعم وزيادة، قال: أما الزيادة فلا) ، ولهذا الحديث شواهد منها المرسل الصحيح، وكذلك أيضا جاء ما يعضده عند ابن ماجة رحمه الله في السنن، وفيه عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن يزداد أي: نهاه أن يأخذ الزيادة على الفدية.
قالوا: فهذا يدل على أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ أكثر مما أعطى في مهر المرأة؛ ولأن الخلع عوض عن حق الزوج الذي دفعه، فتكون الفدية بقدر ذلك لا زيادة عليه.
وقال طائفة من العلماء رحمهم الله: تجوز الزيادة ويجوز أن يخالع بأكثر، واحتجوا بأن الأصل جواز المعاوضة، وقد قال الله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229] ، قالوا: فهذا يدل على أنها إذا افتدت بالقليل أو بالكثير فالأمر في ذلك سواء، ولا حرج عليها أن تفتدي بأكثر مما أعطاها.
والذين قالوا بالجواز -كما ذكرنا- مع قولهم بالجواز نصوا على الكراهة.
ولذلك قال بعض أئمة السلف رحمهم الله: (هذا صنيع اللئام وليس بصنيع الكرام) ، أي: اللئيم هو الذي يأخذ أكثر مما أعطى في مهر المرأة؛ لأنه نسي المعروف ونسي الفضل بينه وبين المرأة فيأخذ أكثر مما أعطاها، وليس بصنيع أهل الفضل ولا أهل الكرم، فليس هذا من شيمة الفضلاء.
والذي يظهر -والله أعلم- النهي عن الزيادة؛ لأن قوله: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229] ، هو من جهة جواز الخلع وإن كان مطلقا لكن قيدته السنة بقوله عليه الصلاة والسلام: (أما الزيادة فلا) .
وبناء على ذلك فالذي تطمئن إليه النفس عدم جواز الزيادة على المدفوع، وأنه يتقيد الجواز بالقدر الذي دفعه ولا يزيد عليه، لأن في ذلك ظلما للمرأة وتضييقا عليها؛ فإنه لو فتح هذا الباب لتشارط الرجل ولربما سأل أكثر، مما يعجز المرأة وحينئذ يفوت مقصود الشرع من دفع الضرر عن المرأة، إذ لو أبحنا أن يأخذ الزيادة لقال لها: لا أخالعك إلا على مائة ألف أو مائتين، ويكون قد دفع القليل، وتكون المرأة ضيقة الحال، ويعلم أنها لا تستطيع ذلك، وحينئذ يفوت مقصود الشرع من جعل الخلع على قدر المدفوع في مهر المرأة.