حكم إجابة الدعوة العامة
قال رحمه الله: [فإن دعا الجفلى أو في اليوم الثالث أو دعاه ذمي كرهت الإجابة] .
الجفلى: الدعوة العامة، كأن يقول: أيها الناس! أنتم مدعوون إلى زواجي، أو يأتي -مثلا- في مجمع فيقول: حيا الله الجميع على عشائي أو غدائي، لكن في بعض الأحيان قد يحدث هذا في القرى التي يكونون قرابة وأبناء عم ونحو ذلك، فيفعلون هذا لأنه متعارف بينهم، فهي أشبه بالتعيين.
لكن حينما يأتي إلى أناس متعددين، فيهم من يعرفه وفيهم من لا يعرفه، ويدعو دعوة عامة، فكان بعض العلماء يكره الإجابة في مثل هذا؛ لأنك لم تعين، والشخص إذا لم يعين فكأنه يذهب من أجل الطعام، وكأنهم كرهوا الإجابة من هذا الوجه، كرهه بعض أئمة السلف، ونص عليه المصنف هنا.
دعوة الجفلى لا يكون فيها الانتقار، وهناك دعوة الانتقار التي هي التخصيص، إلا أن دعوة الجفلى من الناس الكرام المعروفين محمودة؛ لأنهم أهل كرم، ولذلك يقول: نحن في المشتاة ندعوا الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر يفتخرون بأن الرجل منهم إذا أراد أن يدعو الناس دعاهم كلهم، ولا يأتي ويقول: يا فلان تحضر، ويحدد الأشخاص الذين يحضرون؛ لأن الذي يخاف على طعامه ويخاف على حاله يحدد المدعوين؛ لأنه لا يريد أن يتحمل أكثر من هؤلاء الأشخاص، لكن إذا كان كريما، ولا يبالي بما أنفق ولا يبالي بما ذبح ولا يبالي بما أطعم، ويحب إطعام الناس ويحب إكرام الناس يفتح بيته ويدعو الناس، ويرى كل الناس معارفا له، فإذا جاءه من يعرفه ومن لا يعرفه هش في وجهه كأنه يعرفه، وهذا من الكرم والجود، وهو صنيع أهل الفضل، وكان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهدي الصالحين كذلك.
فالخلاصة هنا: إذا حددك فله حكم، وإذا عمم فلا يجب عليك؛ لأنه إذا عمم يصبح فرضا كفائيا، إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وقاعدة المسألة أن إجابة الدعوة في المعين لازمة، وهذا هو الأصل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا دعاك فأجبه) .
وإجابة الوليمة نص النبي صلى الله عليه وسلم على لزومها وأنها من حق المسلم على المسلم، وكما في حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإجابة الداعي، فهذا كله يدل على ثبوت الحق بالتعيين، وأما إذا عمم فالأمر كما ذكرنا.
وقوله: (أو في اليوم الثالث كره) أي: دعاه في اليوم الثالث (كره) لأنها دعوة رياء وسمعة.
حكم إجابة دعوة الذمي
وقوله: (أو دعاه ذمي) ، العلماء يكرهون إجابة دعوة الذمي، وقد بينا ضابط أهل الذمة من أهل الكتاب، وبينا معاملة المسلمين لهم وحقوقهم على المسلمين وحقوق المسلمين عليهم، بينا هذا كله في كتاب الجهاد، ولكن إذا دعا الذمي مسلما فبعض العلماء يقول: فيه تفصيل: إن كانت إجابتك للدعوة من أجل أن تدعوه للإسلام، وبشرط ألا يكون طعامه طعاما محرما كالميتة والخنزير والشراب المحرم كالخمر ونحوها؛ فإنه يجوز لك ذلك ويشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استضافه يهودي على خبز وإهالة سنخة، وكذلك أيضا استضافته اليهودية -عليها لعائن الله تترى- لما وضعت السم في الشاة، فما وضعته إلا بعد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم واستضافتها للنبي عليه الصلاة والسلام.
قالوا: هذا يدل على أنه إذا رجا أن يدعوهم أو يتألفهم للإسلام فلا بأس، كالعالم والقاضي والإمام ونحوهم، وأما إذا كان من عامة الناس المسلمين فتكره؛ لأنه يخشى أن يؤثر عليه.
وهكذا إذا علمت أن له غرضا كمصلحة دنيوية، خاصة إذا كان موظفا تحتك أو نحو ذلك فلا تجب الدعوة؛ لأنها أشبه بالرشوة؛ لأنه يريد أن يتوصل بها إلى مصلحته، والحكم لا يختص بالذمي، بل حتى لو دعاك من هو دونك في المرتبة لمصلحة في العمل والوظيفة من أجل محاباته فإنه لا يجوز لك إجابته، وكالطالب يدعو شيخه إذا كان تلميذا عنده، كما هو موجود في المدارس أو نحوها فإنه لا يجيبه إلا إذا كانت دعوته عامة كدعوة الزواج فإنه يحضر زواجه، لكن إذا قال له: أريد أن تتغدى عندي أو تتعشى، بدعوة خاصة فإنه لا يجيب، وكالقاضي لا يجيب الناس إلى الدعوات الخاصة إلا ممن كان يدعوه قبل القضاء، أما بعد القضاء إذا دعاه فمن المعلوم أنه ما دعاه إلا لأجل أنه قاض.
وعلى هذا يفرق في دعوة الذمي بين أن يكون فيها مصلحة شرعية يقصد منها مقصود شرعي وبين غيرها.
قالوا: إذا دعاك الذمي ولم يكن هناك غلبة ظن أنك تؤثر عليه فإنك إذا أكلت طعامه ستكون منة له عليك، واحتقارهم مطلوب شرعا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه) ، فشعورهم بعزة الإسلام وعلو الإسلام مقصود شرعا، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
وقد قالوا في الحكمة والمثل: (من أكل طعام قوم ذل لهم) يعني: تنكسر عينه، ويصبح كأنه ملك بذلك المعروف، فإذا أكل المسلم طعام الذمي كأنه صارت منة للذمي على المسلم، وأصبح الفضل للذمي على المسلم، وهذا سبيل لا ينبغي أن يمكن الذمي منه.
حكم إجابة الصائم للدعوة
قال رحمه الله: [ومن صومه واجب دعا وانصرف] .
ومن كان صائما صوما واجبا فإنه يدعو لأهل الوليمة كما ثبتت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينصرف ولا يجب عليه أن يطعم.
فعندنا أمران: - إجابة الدعوة والحضور.
-
والأكل من الوليمة.
فإجابة الدعوة تتحقق بالحضور، والأكل من الوليمة، فإذا امتنع من الأكل لمكان الصيام فإن الحضور واجب عليه، إلا إذا وجد عذر يتعلق به أو وجد عذر شرعي كالمنكر ونحوه فهذا مما يستثنى.
قال رحمه الله: [والمتنفل يفطر إن أجبر ولا يجب الأكل] .
قيل له: كل، أو أحرج فإنه يفطر، وهو متطوع أمير نفسه، وأما إذا امتنع المتطوع ولم يجبر وبقي على صيامه فلا بأس فـ ابن عمر رضي الله عنهما أثر عنه أنه حضر ودعا وصلى ثم انصرف وقال: (إني صائم) .
متى يباح طعام الوليمة
قال رحمه الله: [وإباحته متوقفة على صريح إذن أو قرينة] .
عندنا لفظان: إجابته وإباحته، فقد تكون في بعض المسائل إجابته وفي بعضها إباحته.
فإجابة الدعوة متوقفة على صريح إذن بالحضور، فما يأتي الإنسان بدون إذن، ولا يحضر الدعوة بدون إذن.
وعندنا (إباحته) وهي في غالب النسخ، وهي الأظهر هنا، أي: إباحة طعام الوليمة، فيكون المصنف شرع في مسألة إباحة طعام الوليمة.
يباح طعام الوليمة بصريح إذن أو قرينة، صريح الإذن مثل أن يرسل لك البطاقة ويقول: أدعوك لتناول طعام العشاء أو لحضور العشاء، هذا كله صريح في الإذن، فقد أذن لك أن تحضر وتتعشى، فحينئذ لا إشكال.
أما القرينة الدالة عليه فمثل: مد الموائد وبسطها، فإذا مد المائدة وبسطها وأشار بيده، ولم يتكلم؛ فإن هذه قرينة دالة لإباحته؛ لوجود الطعام بيننا وتقريبه إلينا، أو جاء والجماعة جالسون فوضع السفرة عندهم ثم وضع الطعام، فهذا معناه أنني أتيت بهذا الطعام لكم وقد أذنت لكم أن تأكلوا منه.
واختلف العلماء، فقال بعض العلماء: وضع الطعام لا يدل على الإذن ما لم يأذن صاحبه، وقال بعضهم: الدعوة إذن وإباحة بالأكل.
فائدة المسألة: ما يقع الآن في بعض الأحيان، حيث تمد السفر ثم يوضع الطعام عليها، ولا يتكامل الطعام ولا ينتهي، فيأتي بعض الناس ويأكل قبل تمام السفر، فإن قلنا: الدعوة إذن بالطعام، حل له ذلك، وإن قلنا: لابد من إذن أو قرينة فلا الإذن موجود ولا القرينة؛ لأن القرينة ما تكون ظاهرة إلا بعد اكتمال السفر وتمامها، فإذا تمت السفر واكتملت سنأكل، ولذلك يقبح أن يأكل قبل الآخرين، خاصة العلماء وطلاب العلم وأهل الفضل، فإن وجد هذا في طالب علم أو إنسان له مكانة أو إمام مسجد يأتي بمجرد ما توضع السفرة ويمد يده إليها ويأكل، فهذا من خوارم المروءة.
ما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فينتظر حتى يؤذن لهم، ولذلك قالوا: يستحب لطالب العلم دائما أن يأخذ بالكمالات، فعندنا قول يقول: مجرد الدعوة إذن، وعندنا قول يقول: الإذن يكون بعد وضع الطعام، وقوله تعالى: {إلى طعام غير ناظرين إناه} [الأحزاب:53] قيل: إن هذا يعني أن مجرد الدعوة يكفي، وقال بعض العلماء: لا، بل لابد أن يأذن صاحبه، فتأخذ بالأكمل وهو أن يأذن لك صاحب الطعام، فيصبح هذا إكراما لعلمك، وإكراما لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي في صدرك، فلا تنظر للشيء بنفسك، وإنما تنظر بحق العلم عليك، وما فعلت ذلك إلا كنت بخير المنازل، فإنه من المجرب أن طالب العلم إذا كان دائما يأخذ بالكمالات يرفع الله قدره، ويقذف الله في قلوب الناس حبه وإكرامه وإجلاله كما صان العلم وصان كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أحسن بحق العلم عليه؛ فإن الله عز وجل يقذف في نفوس الناس الشعور بحقه ومكانته، والعكس بالعكس.
ولذلك تجد بعض الناس إذا جالس الناس له هيبة ومحبة وكرامة، وقد تجده من عامة الناس، لكن تجد عنده من الصفات الحميدة، ومن كمالات المروءة ما جعل الله له به هذا الحال الحسن عند الناس، والعكس: فقد تجد الرجل ولو كان في منزلة عالية، ما أن يصبح متهتكا ويرتكب خوارم المروءة إلا وجدت الناس لا تشعر له بإجلال ولا تشعر له بهيبة، نسأل الله السلامة والعافية.
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فلا يزال المسلم بخير ما استحيا وأخذ بكمالات الأمور، فالذي يظهر أنه ينتظر إلى الإذن أو القرينة الدالة على الإذن.
ولذلك جرت العادة في بعض الأحيان أنه إذا وضع الطعام للضيوف أنهم ينتظرون إذن صاحب الطعام، وهذا لا شك أنه أفضل وأكمل؛ لأن صاحب الطعام في بعض الأحيان يحب أن يتكامل طعامه حتى يراه الضيف ويشعر بمكانته عنده، ويحب أن ترى سفرته وهي على أتم وجوهها وأكملها، فلا شك أن هذا أفضل وأكمل.
حضور الوليمة التي فيها منكر لتغييره
قال رحمه الله: [وإن علم أن ثم منكرا يقدر على تغييره حضر وغيره وإلا أبى] لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والله أوجب عليه التغيير، والتغيير متوقف على حضوره، فيجب عليه الحضور وينكر ما أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم برده وإنكاره.
وإلا أبى عن الإجابة؛ لأن حضوره إقرار بذلك، وقال بعض العلماء: يحضر ويهنئ ذا الرحم -كأن يكون ابن عمه أو قريبه- يحضر ويهنئه ويأخذ بخاطره، ثم ينصحه في المنكر، فإن استجاب فالحمد لله وإن لم يستجب ينصرف، فعندنا حضور، وعندنا جلوس، فالحضور واجب عليه على الأصل، أما مسألة الجلوس والمكث فوجود هذا العارض يمنع من الجلوس، فيصبح المنع بخصوص الجلوس، ولا يسقطون عنه الحضور، بل يقولون: يحضر؛ لأن إجابة الدعوة تشمل الأمرين، وإذا سقط أحدهما وهو الجلوس في مكان المنكر فلا يسقط الآخر، ولا شك أن الثاني فيه احتياط، وقد يكون في زماننا أبلغ في التأثير على الناس، لكن إذا كان الشخص تأول القول الآخر بأنه لا يحضر بالكلية فله وجهه.
إذا علم بالمنكر بعد حضوره الدعوة
قال رحمه الله: [وإن حضر ثم علم به أزاله] .
(وإن حضر) على أنه ليس هناك منكر، ثم أخبر أن هناك منكرا، وأزاله أتم جلوسه، فإن لم يستجب له انصرف، هذا بالنسبة إذا حضر وليس بذهنه أن هناك منكرا.
والمنكر لابد أن يكون منكرا؛ لأن في بعض الأحيان قد ينكر الإنسان شيئا أقرته الشريعة، فتجد بعض طلاب العلم إذا سمع ضرب الدفوف ينصرف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدفوف) ، والشرع مقصوده أن يضرب بالدف ويسمع حتى يعلم الناس أن هناك زواجا، فمن حضر يعلم أنه زواج، ومن لم يحضر يعلم أن فلانا تزوج فلانة، فإذا أردت أن تخفي هذا الدف خالفت مقصود الشرع، فالبعض ربما يجعل ما هو سنة منكرا بسبب الجهل، فلابد من سؤال العلماء والتبين والاستبيان، فإن بان أن هذا منكرا لا يجوز، وأن الله ورسوله لم يأذن به، وأنه مما حرم؛ فحينئذ يعامله معاملة المنكر من وجوب تغييره، فيغير باليد، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
فإذا لم يقبل منه ذلك انصرف، فيكون أدى للمتزوج حقه، وقام بحق الله عز وجل من الخروج من مكان المنكر، ويشمل هذا شرب المحرمات، فشرب المحرمات على نوعين: الأول: نوع يحضره أهل الزواج للشخص ليشربه، فيكون المجلس عاما، مثل القاعات الواسعة، فتدخل الآلات المحرمة التي يشرب الحرام بواسطتها، على مرأى ومسمع من الناس، ومعنى ذلك أنه أخبر صاحب القاعة أن يحضر هذا الشيء لمعازمه وضيوفه، وأنه مقر لذلك.
فإذا حضرت فمن حقك أن تقوم؛ لأنه لا يمكن أن تقول لمن يشربها: ما يجوز هذا، وتذهب إلى كل من يشربها فتنصحه، بل تذهب إلى أهل الزواج وتقول لهم: اتقوا الله عز وجل فهذا لا يجوز، والله يبارك لكم في زواجكم ويباركم لك في هذا الزواج إذا اتقيتموه، وإذا اتقيتم الله عز وجل وضع لكم الخير في هذا الزواج، أما أن تسايروا الناس فيما حرم الله فهذا لا خير لكم فيه، وقد يمحق الله بركة الزواج بحصول هذه المحرمات فيه، فتذكرهم بالله.
ومن التذكير بالله أن ترغبهم فيما عند الله من حصول البركة بزواجهم وحصول الرضا عنهم إن أطاعوه، وترهبهم مما عند الله من العقوبة، بأسلوب مؤثر ومقنع ومقبول وحسن، مدعم بالدليل من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بينت لهم الحجة واستبان لهم السبيل واستبانت لهم المحجة بعد ذلك إن رضوا وأجابوا فالحمد لله، وإن أبوا وأصروا فإنك تنصرف إحياء لحق الله عز وجل.
الثاني: إذا كان المنكر يفعله الشخص المدعو في نفسه، فإن هذا تنكره على الشخص نفسه، فإذا كان يشرب المحرم من نفسه، وأهل الزواج لم يعطوه المحرم ليشرب، وإنما هو من نفسه أخرج المحرم وشربه، فإنا لا نحمل أهل الزواج، وإنما نقول لأهل الزواج: أنكروا على هذا؛ لأنه لا يجوز لهذا أن تأتوا بها في مجامع الناس من أجل أن يشرب قالوا: والله! هذا ضيف! فلك الحق أن تخرج؛ لأنهم أقروه على منكره.
فإن جاءوه ونصحوه ومنعوه أن يشربه، ولم يمتنع من شربه في وجه الناس؛ فحينئذ جلست وإلا انصرفت، هذا بالنسبة للمنكر الخاص، وفي بعض الأحيان يكون المنكر الخاص في معزل، مثلا: يكون من يشرب الحرام يأتي به في جيبه ويشربه في غرفة لست أنت فيها، فيسع الجلوس في هذه الحالة، كما لو اغتاب أو قال النميمة في مجلس غير مجلسه، فالأمر في هذا أوسع.
قال رحمه الله: [فإن دام لعجزه عنه انصرف] .
فإن دام وبقي المنكر وهو عاجز عن إنكاره انصرف.
قال رحمه الله: [وإن علم به ولم يره ولم يسمعه خير] .
مثلا: قيل له: في الغرفة الفلانية كذا أو جيء بكذا، فقال بعض العلماء: إنه يخير: فإن شاء جلس، وإن شاء انصرف، لكن يجب عليه إنكاره -إن وسعه ذلك- بيده أو بلسانه إذا لم يستطع باليد على الترتيب المعروف في إنكار المنكر.
حكم النثار والتقاطه
قال رحمه الله: [وكره النثار والتقاطه] .
كانوا في الأعراس ينثرون الحلوى وينثرون الدراهم، فيرمونها والناس تلتقطها، وكان هذا موجودا إلى عهد قريب، والحمد لله أن هذه الأمور اندثرت وذهبت، ونسأل الله ألا يعيدها، فهي من الأمور التي لا خير فيها؛ لأنهم كانوا ينثرون الطعام وينثرون الحلوى فيتساقط الناس عليها، ويتسابقون في أخذها، فتحدث الشحناء والبغضاء والتنافس على أمور الدنيا، وتجعل بعضهم يحقد على بعض.
وكانوا ينثرون الدراهم والأموال على المدعوين الذين حضروا من باب المكافأة لهم على الحضور، فيكره هذا النثار؛ ويجوز له أن يعطي، وقيل: إنه يكره؛ لما فيه من الآثار السيئة، ويكره للإنسان أن يأخذه؛ لأنه من خوارم المروءة، فالتقاط النثار من خوارم المروءة.
وفي حكم هذا الصدقات عندما ترمى على الناس، فكره بعض أهل العلم هذا الأسلوب، ومثل أن يكون عنده ماء يريد أن يتصدق به على الناس فيرميه على الناس، أو تكون عنده أطعمة يرميها على الناس وتسقط على الأرض، ولربما تلفت إذا سقطت، ولربما ضربت الناس في رءوسهم وفي أجسادهم، وقد ترمى رميا فيه أذية، ورميها يغري الناس بضرب بعضهم لبعض، وأذية بعضهم لبعض، فإذا جئت تنظر إلى الحسنات التي يأخذها فقد تكون السيئات وسب الناس بعضهم لبعض وشتم الناس بعضهم لبعض أعظم، كل هذا من المفاسد التي هي أعظم من المصلحة التي ترجى من وراء اليسير الذي يريد أن يسقيه الناس أو يعطيهم.
ولذلك كره العلماء مثل هذا الأسلوب، وهو في حكم النثار، إنما المنبغي أن يرتب الناس، ويعطى الأسبق فالأسبق، بطريقة تحفظ ماء وجوه الناس، وتحفظ كرامتهم، وأيضا تدفع الضرر عنهم، ولا تكون سببا في حصول الضرر عليهم، ولا تكون سببا في امتهان نعمة الله عز وجل والإضرار بها.
قال رحمه الله: [ومن أخذه أو وقع في حجره فله] .
ومن أخذ النثار فإنه له؛ لأنه يملك بالقبض، والهبة والعطية إذا قبضها أخذها وملكها، وهذا بإجماع العلماء كما حكاه الوزير بن هبيرة رحمه الله في كتابه الإفصاح، فالهبة تملك بالقبض.
قال أبو بكر رضي الله عنه: (يا عائشة! أي بنتاه! إني كنت قد نحلتك من مالي بالغابة، ولو أنك قبضتيه لكان ملكا لك، أما وإنك لم تقبضيه فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء) ، فهذا يدل على أنه إذا لم يقبض الموهوب لا يملك.
مشروعية إعلان النكاح
قال رحمه الله: [ويسن إعلان النكاح والدف فيه للنساء] .
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف) ، فيضرب النساء بالدفوف؛ لأن في ذلك إحياء للسنة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، وفيه فرق بين السفاح والنكاح؛ لأن السفاح يسر، والنكاح يشهر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.