إن علماء الحديث قد وضعوا للإسناد قواعدَ وأصولًا علمية دقيقة للوصول إلى الأحاديث الصحيحة وترك غيرها من الضعيفة والموضوعة، وقسم هذا الإسناد إلى أقسام من حيث القبول أو الرد. فمن الأشياء التي وضعوها على سبيل المثال لا الحصر للراوي، ما يلي:
1- صفة من تقبل روايته ومن ترد: وقد اشترطوا للراوي العدالة والضبط، يقول ابن الصلاح: "أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلًا ضابطًا لما يروي. وتفصيله: أن يكون مسلمًا بالغًا عاقلًا سالمًا من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظًا غير مغفل، حافظًا إن حدَّث من حفظه، ضابطًا لكتابه إن حدَّث من كتابه. وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالمًا بما يحيل المعاني".
فقد اشترطوا في العدالة: الإسلام: لقوله تعالى: ﴿ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ [البقرة: 282]، والمسلم من أهل الرضا، وغيره ليس من أهل الرضا، وبذلك لا يقبل حديث من راوٍ كافر. وكذلك: البلوغ والعقل: لأنهما شرطان لتحمل التكاليف الشرعية وليتم ضبط الكلام وصدقه، فلا تقبل رواية الصبي والمجنون. والتقوى: وفيها اجتناب الكبائر وترك الإصرار على الصغائر. والدليل على اشتراط التقوى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]. فلا يقبل خبر الفاسق الذي يرتكب المعاصي ولا سيما الكبيرة منها. ويدخل في ذلك المبتدع فلا تقبل روايته.
فقد روي عن أُبَيِّ بن كعب حديث مرفوع في فضل القرآن سورة سورة، من أوَّله إلى آخره. فقد روى السيوطي عن المؤمل بن إسماعيل قال: حدثني شيخ به، فقلت للشيخ: من حدثك به؟ فقال: حدثني رجل بالمدائن وهو حيٌّ، فصرت إليه فقلت: من حدثك؟ فقال حدثني شيخ بعبادان فصرت إليه. فأخذ بيدي، فأدخلني بيتًا، فإذا فيه قوم من المتصوفة، ومعهم شيخ، فقال: هذا الشيخ حدثني، فقلت: يا شيخ، من حدثك: فقال: لم يحدثني أحد، ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث[27].
وأما شرط الضبط فيعرف بالمقاييس التي حدَّدَها العلماء كما يقول ابن الصلاح: "أن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان، فإن وجدنا رواياته نادرة عرفنا حينئذٍ كونه ضابطًا، وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ولم نحتج بحديثه".
فإذا تحقق شرط العدالة والضبط في الراوي فيجب أخذ روايته والعمل بحديثه، ويطلق عليه عندئذٍ (ثقة).
2- الجرح والتعديل: والجرح: هو الطعن في راوي الحديث بما يسلب أو يخل بعدالته أو ضبطه. والتعديل: عكسه، وهو تزكية الراوي والحكم عليه بأنه عدل أو ضابط[28].
وهناك شروط وآداب للجارح والمعدل، وشروط لقبول الجرح والتعديل أو رده، ومراتب الجرح والتعديل، وألفاظ الجرح والتعديل التي يعتمد عليها العلماء، وغيرها من الشروط التي يطول بنا المقام لسردها. لا نريد التوسع فيها.
3- الثقات والضعفاء: وقد ألفت مؤلفات في الثقات والضعفاء، لمعرفة أشخاص الإسناد ومن ثم معرفة درجة الحديث صحةً وضعفًا، فمما أُلِّف في الثقات: كتاب"الثقات" للإمام أبي حاتم محمد بن حبان البستي (المتوفى سنة 354هـ)، وكتاب "الثقات" للإمام أحمد بن عبدالله العجلي المتوفى سنة 261هـ، و(كتاب تذكرة الحفاظ) للإمام الحافظ شمس الدين محمد الذهبي (المتوفى سنة 748هـ). وما أُلِّف في الضعفاء: "الكامل في الضعفاء" للحافظ الإمام أبي أحمد عبدالله بن عَديّ (المتوفى سنة 365 هــ) وكتاب (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) للإمام الذهبي، و(لسان الميزان) للحافظ ابن حجر العسقلاني. وغيرها كثير من الكتب التي تحدثت عن الثقات والضعفاء [29].
في نهاية المطاف نقول لهؤلاء المستشرقين إن المقياس الذي يقاس به رواة الحديث مقياس علمي ودقيق، حيث تطرق إلى حال الرواة من جميع النواحي الدينية والعقلية والذهنية والصحية والاجتماعية، والأخلاقية، ووضع لهم عبر هذا المقياس مراتب ودرجات عن طريق الجرح والتعديل، وألفت عنهم الكتب والمصنفات لبيان حالهم، عبر هذه المسيرة العلمية الدقيقة والشاقة لحال الإسناد، وصلت إلينا الأحاديث صافية وخالية من الكذب والتحريف أو الزيادة والإضافات من قبل الرواة أو غيرهم.
فهل بعد هذا يمكن أن يقال: إن جزءًا من أسانيد الأحاديث اعتباطي أو أنها لم تجد عناية أو قوالب جاهزة أو نحو ذلك؟!
وأما فيما يتعلق بشبهاتهم حول متون الأحاديث فنقول:
إذا قرأنا ما ذكره علماء الحديث من قواعد لنقد الحديث وقبوله، لعلمنا أن ما يردده المستشرقون إنما هو محض افتراء وتكذيب، فقد ملئت كتب بهذه القواعد التي تدل على الاعتناء الكبير، والحرص الشديد لعلماء الأمة بالحديث سندًا ومتنًا، ولكن هيهات للعدوِّ الحاقد أن يقر بالحق الذي هو كالشمس في رابعة النهار، ومنها:
"1- ألا يكون ركيك اللفظ، بحيث لا يقوله بليغ أو فصيح.
2- ألا يكون مخالفًا لبدهيات العقول، بحيث لا يمكن تأويله.
3- ألا يخالف القواعد العامة في الحِكَم والأخلاق.
4- ألا يكون مخالفًا للحس والمشاهدة.
5- ألا يخالف البدهي في الطب والحكمة.
6- ألا يكون داعية إلى رذيلة تتبرأ منها الشرائع.
7- ألا يخالف المعقول في أصول العقيدة من صفات الله ورسله.
8- ألا يكون مخالفًا لسنة الله في الكون والإنسان.
9- ألا يشتمل على سخافات يُصان عنها العقلاء.
10- ألا يخالف القرآن أو محكم السنة أو المجمع عليه أو المعلوم من الدين بالضرورة، بحيث لا يحتمل التأويل.
11- ألا يكون مخالفًا للحقائق التاريخية المعروفة عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم.
12- ألا يوافق مذهب الراوي الداعية إلى مذهبه.
13- ألا يخبر عن أمر وقع بمشهد عظيم ثم ينفرد راوٍ واحد بروايته.
14- ألا يكون ناشئًا عن باعث نفسيٍّ، حمل الراوي على روايته.
15- ألا يشتمل على إفراط في الثواب العظيم على الفعل الصغير، والمبالغة بالوعيد الشديد على الأمر الحقير" [30].
كانت تلك أهم القواعد التي اتبعها علماء الحديث في قبول متن الحديث أو رده، وهي كافية لدحض دعاوى المستشرقين الذين اتهموا منهج المحدثين في اهتمامهم بالسند دون المتن.
و- تأخر التدوين:
يقول برنارد لويس أن "جمع الحديث وتدوينه لم يحدثا إلا بعد عدة أجيال من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلال هذه المدة فإن الغرض والدوافع لتزوير الحديث كانت غير محدودة، فأولًا لا يكفي مجرد مرور الزمن وعجز الذاكرة البشرية وحدهما؛ لأن يلقيا ظلالًا من الشك على بيِّنة تنقل مشافهة مدة تزيد على مائة عام" [31].
ويقول أيضًا: "ثمة دوافع للتحريف المتعمد؛ لأن الفترة التي تلت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم شهدت تطورًا شاملًا في حياة المجتمع الإسلامي فكان تأثُّر المسلمين بالشعوب المغلوبة بالإضافة إلى الصراعات بين الأسر والأفراد، كل ذلك أدَّى إلى وضع الحديث" [32].
يقول الدكتور نورالدين عتر: "برز قرن الفتنة التي أدت إلى مقتل الإمام الشهيد عثمان بن عفان ثم مقتل الإمام الحسين رضي الله عنهما، وظهرت الفرق المنحرفة، وراح المبتدعة يبحثون عن مستندات من النصوص يعتمدون عليها في كسب أعوان لهم، فعمدوا إلى الوضع في الحديث، فاختلقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، فكان مبدأ ظهور الوضع في الحديث منذ ذلك الوقت"[33].
فقبل كل شيء يجب معرفة ما كان عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مع رسولهم صلى الله عليه وسلم، وكيف كانوا يأخذون منه الحديث ويتناقلونه فيما بينهم، وكيف كان حرصهم الشديد وعلى صحة هذا الحديث أو ذاك، فقد صارت لديهم ما يشبه القوانين أو الضوابط التي يعتمدون عليها في أَخْذِ الأحاديث أو ردها، وما كان هذا الحرص وهذا الجهد إلا لسببين اثنين:
1- حرصهم في الحفاظ على هذا الكنز النبوي وخوفهم من ضياعه، والذي يعد من أهم صروح هذا الدين، فإن هوى هذا الصرح أو أصابه الضياع والنسيان فإن جزءًا كبيرًا من هذا الدين سيندثر معه، من أجل ذلك كانوا رضوان الله عليهم حريصين على نقل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالدقة والتحري.
2- خيرية الصحابة وخوفهم الشديد من الكذب عامة، وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة، يقول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، وقوله جل وعلا: ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النحل: 105].
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" [34]. وقوله عليه الصلاة والسلام: "مَن حدَّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" [35]، وقوله عليه الصلاة والسلام: "من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوَّأ مقعده من النار"[36].
ومن أهم ما تميز به الصحابة في نقل حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام أنهم لم يكثروا من كتابة الحديث ونقله خشية أن يعتريه الخطأ والزيادات، أو يختلط بالقرآن، وتلتبس الأمور بعد ذلك عليهم وعلى الأمة من بعدهم.
وكذلك حرص الصحابة على الدقة والتثبت من الأحاديث التي يرويها بعضهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والشاهد على هذا التدقيق والتشديد في ذلك حادثة الجدة حيث: "جاءت الجدة أم الأم وأم الأب إلى أبي بكر فقالت: إن ابن ابني أو ابن بنتي مات وقد أخبرت أن لي في كتاب الله حقًّا، فقال أبو بكر: ما أجد لك في الكتاب من حق، وما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لك بشيء، وسأسأل الناس. قال: فسأل الناس فشهد المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. قال: ومن سمع ذلك معك؟ قال: محمد بن مسلمة. قال: فأعطاها السدس. ثم جاءت الجدة الأخرى التي تخالفها إلى عمر. قال سفيان: وزادني فيه معمر عن الزُّهْري ولم أحفظه عن الزُّهْري، ولكن حفظته من معمر أن عمر قال: إن اجتمعتما فهو لكما، وأيتكما انفردت به فهو لها"[37].
ويجدر بنا إلى بيان المنهج الذي اتبعه بعض الصحابة في أخذ الأحاديث وهو عرضها على النصوص القطعية والأصول الثابتة من الدين، فهذه عائشة رضي الله عنها سمعت حديث عمر وابنه عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه"، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه"، وقالت: حسبكم القرآن: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164]"[38].
ومن أهم عوامل حفظ الصحابة للحديث:
1- أن البساطة في العيش وقلة الاختلاط مع الناس يولد نوعًا من صفاء الذهن، وقوة الحفظ والذاكرة، بالإضافة إلى أن العرب أمة أُمِّيَّة لا تقرأ ولا تكتب، ومعظم علومها تعتمد في الدرجة الأولى على الحفظ؛ لذا كان من حفظهم ما يضرب به المثل وتناقلته الأجيال عبر التاريخ، مثل أولئك الذين كانوا يحفظون المعلقات الشعرية الطويلة، وكذلك معرفتهم بالأنساب والقبائل والأماكن وغيرها لَدليلٌ على تمكُّن هؤلاء العرب من القدرة على الحفظ دون عوائق، ومن الخطأ الفادح مقارنة العقل البشري المعاصر بعقول تلك العصور من رسالة الإسلام، ومن يقارن ويشابه بينهما، ويطبق عليهما الدراسات والأبحاث، فإنه سوف يصطدم بعقبات علمية كبيرة، وينزلق في مهاوي الجهل والظلام، وهذا ما وقع فيه المستشرقون الذين قارنوا بين حاضرهم اليوم وماضي هذه الأمة في القرون الأولى لهذا الدين، ففشلت دراساتهم.
2- أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث مع الصحابة، الذي تميز بالهدوء والأناة، وقِصَر جُمَله وإعادته للجملة الواحدة عدة مرات؛ مما كان له الأثر الواضح في تمكين السامعين من حفظه وتدبره، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "كان يحدث حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه"[39]. وقالت أيضًا: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلَّم بكلام يبيِّنه فصل، يحفظه من جلس إليه"[40].
3- إيمان الصحابة والتابعين ومن بعدهم بحقيقة هذا الدين وحقيقة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وحرصهم الشديد على حفظ منابعه ومصادره من الجفاف، واعتقادهم أن هذا الدين بمصادره الرئيسة هو سبب سعادة البشرية ونصرها في الدنيا والآخرة، فحفظوا السنة النبوية بهذا الدافع الإيماني القوي، ولا سيَّما وأن الله تعالى قد نبَّه المؤمنين على مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته في الدين؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: 31]، وقوله جل وعلا: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النساء: 59]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7].
وغيرها من الآيات التي تحث المؤمنين على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه والتحاكم إليه، ولا يتم ذلك بعد وفاته إلا بحفظ سُنَّته الصحيحة وتجريدها مما ليس منها من أقوال الناس وآثارهم.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لصحابته: "نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فبَلَّغها، فرُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه"[41].
من أجل ذلك كله وجد المسلمون أنه من الواجب عليهم جمع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الشكل الذي بين أيدينا، وحفظها، وحمايتها، والدفاع عنها.
4- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعض الصحابة بكتابة الحديث، حتى يكون لهم مرجعًا آخر بعد القرآن في المستقبل، وهذا ما قاله أبو هريرة رضي الله عنه: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه منِّي إلا ما كان من عبدالله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب"[42].
ثم لا بد من ذكر الأسباب الحقيقية لوضع الأحاديث، وهي بإيجاز:
1- الخلافات السياسية: وذلك من أجل أن يثبت كل فريق أحقيته بالخلافة وأفضليته بالاتباع، وكان من أكثر الذين وضعوا الأحاديث هم الرافضة، حتى سئل الإمام مالك عنهم فقال: "لا تكلمهم، ولا تروِ عنهم فإنهم يكذبون"[43]، وقال الشافعي: "ما رأيت في أهل الأهواء قومًا أشهد بالزور من الرافضة"[44].
ويكفي ما قال عنهم الخليلي في الإرشاد: "وضعت الرافضة في فضائل علي وأهل بيته ثلاثمائة ألف حديث"، ومن أشهر الأحاديث الموضوعة حديث الوصية في غدير خم، والذي يروي فيه الرافضة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي بعد رجوعه من حجة الوداع وقال للصحابة: "هذا وصيي وأخي والخليفة من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا"، وقد كذَّب أهل السنة هذا الحديث وعدُّوه في الموضوعات.
وبالمقابل ظهرت بعض الأحاديث الموضوعة من بعض المتعصبين من الأمويين مثل: "الأمناء ثلاثة: أنا، وجبريل، ومعاوية" وحديث: "أنت مني يا معاوية وأنا منك".
2- الزندقة: وقد ظهرت بعد أن فتحت البلاد وتوسعت سيطرة الخلافة الإسلامية، وصارت للدين شوكة ومنعة، وتنعم الناس في ظل الدين بالأمن والاستقرار، فلم يستطع أعداء الدين النيل منه علنًا أو مواجهة، وإنما اتخذوا سبيلًا آخر، وذلك بالدخول في الإسلام وتمزيق صَفِّه من الداخل، فتستر هؤلاء بالتصوف والزهد والتشيُّع وغيرها، ووضعوا آلاف الأحاديث للطعن في الدين، ومن هذه الأحاديث الموضوعة: "ينزل ربنا عشية عرفة على جمل أورق يصافح الركبان ويعانق المشاة" و"خلق الله الملائكة من شعر ذراعيه وصدره". وقد لاحق بعض خلفاء بني العباس هؤلاء الزنادقة وقتلوهم وحبسوهم، حتى ضعفت شوكتهم وتم القضاء عليهم نهائيًّا.
3- القصص والوعظ: حيث ظهرت حركة للقصاص الذين يجتمع حولهم الناس ليسمعوا رواياتهم وقصصهم ووعظهم، وهم لا يتورعون أن يكذبوا ويضعوا الأحاديث في سبيل أن يجذبوا الناس إليهم، أو يبكوهم في مجالسهم، فيكسبوا بذلك جاهًا ومكانةً، ومثل هذه الأحاديث "من قال لا إله إلا الله خلق الله من كل كلمة طيرًا منقاره من ذهب وريشه من مرجان".
4- الخلافات الفقهية والمذهبية: وهذه الخلافات أدَّتْ إلى أن تتعصَّب كل جماعة لمذهبهم وإمامهم، فوضعوا الأحاديث التي تساندهم، ومن ذلك القول المكذوب: "من رفع يديه في الصلاة فلا صلاة له".
5- الجهل بالدين مع الرغبة في الخير: حيث قامت طائفة من العُبَّاد والزُّهَّاد بوضع الأحاديث؛ ليرجعوا الناس إلى دين الله وكتابه، ظانِّين أن ذلك من العبادات المستحبة والأعمال الفاضلة، وقالوا: إننا لم نكذب على رسول الله؛ وإنما نكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
6- التقرب إلى الأمراء والملوك: وذلك بوضع الأحاديث التي تناسب أوضاعهم وأحوالهم، وأهواءهم ورغباتهم، ومن ذلك ما فعله غياث بن إبراهيم الذي دخل على المهدي وهو يلعب بالحَمَام، فروى له الحديث المشهور "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر" وزاد غياث "أو جناح" إرضاء للمهدي الذي منحه عشرة آلاف درهم، ثم قال بعد أن ولَّى: "أشهد أن قفاك قفا كذَّاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بذبح الحمام" [45].
هذا وإن علماء الأمة لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذه الظاهرة الخطيرة التي تهدد أهم مصدر من مصادر التشريع، فقد بذلوا جهودًا عظيمة لتنقية السنة من الشوائب والزيادات والأكاذيب، ووضعوا قواعدَ وأسسًا ينهجون عليها، من ذلك:
1- إسناد الحديث: لم تظهر متابعة الإسناد إلا بعد ظهور الفتنة وانقسام المسلمين، وبعد ظهور اليهودي عبدالله بن سبأ الذي دعا إلى تأليه علي رضي الله عنه، فحينها لم يأخذ الصحابة الذين عاشوا إلى ذلك الوقت وكذلك التابعون من الأحاديث إلا ما عرف سنده، وهذه كانت الخطوة الأولى لتصفية الحديث من غيره، حتى قال ابن المبارك: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"[46].
2- التأكد والتوثق من الأحاديث: وذلك بالرجوع إلى الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، فقد صار هؤلاء مرجعًا للناس عند سماعهم حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أقروا أخذوا به، وإن لم يقروه ضربوا به عرض الحائط. وقد سَخَّر كثير من الناس أنفسهم لخدمة الحديث، وذلك بالسفر من بلد إلى آخر للتحقق من صحة الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بين هؤلاء الإمام البخاري ومسلم وغيرهما رضي الله عنهم جميعًا لما قاموا به من عمل جليل سيبقى ذخرًا للأمة إلى يوم الدين.
3- نقد الرواة، وبيان حالهم من صدق أو كذب: وهذا الأصل كان من أهم الأصول التي اتبعوها في تنقية الأحاديث، حيث لم يحرجهم شيء في أن يقولوا عن الرواة ما فيهم من عيب أو كذب، وقد قيل ليحيى بن سعيد القطان: "أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة؟ فقال: لأن يكون هؤلاء خَصْمي أحبُّ إليَّ من أن يكون خَصْمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لِمَ لم تذبَّ الكذب عن حديثي" [47].
وهذا الإيجاز فيه بيانٌ كافٍ للذين اتخذوا من وضع الأحاديث مطية يمتطون بها على السنة كلها، ويشككون فيها من كل الجهات والأطراف، ولكنهم خابوا وخسروا، وذهبت جهودهم وأقاويلهم مع رياح الحق التي أزهقتهم وأثبتت السنة الصحيحة.
[1] الاستشراق وموقفه من السنة النبوية، نشر مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
[2] افتراءات المستشرق كارل بروكلمان على السيرة النبوية، ص22-23.
[3] العقيدة والشريعة في الإسلام، أجناس جولدتسيهر، ص5-6.
[4] الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، محمود زقزوق، ص102.
[5] صحيح البخاري، رقم 3635، ص 610.
[6] السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص 206.
[7] المرجع السابق، ص191.
[8] العقد الفريد، شهاب الدين أحمد المعروف بابن عبد ربه الأندلسي 1/ 20.
[9] السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص203.
[10] المرجع السابق، ص204.
[11] انظر علوم الحديث لابن الصلاح / 284-286.
[12] السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص190.
[13] تاريخ الشعوب الإسلامية، ص73.
[14] الاستشراق والاتجاهات الفكرية، مازن مطبقاني، ص156.
[15] الموطأ للإمام مالك، برقم 1874، ص70 بلاغًا، وقد وصله الحاكم في المستدرك 1/ 93 من حديث ابن عباس، وإسناده حسن كما في تخريج المشكاة.
[16] المستشرق شاخت والسنة النبوية، محمد مصطفى الأعظمي، ص 104.
[17] جهود المحدثين في نقد متن الحديث، محمد طاهر الجوابي، ص 450.
[18] المستشرقون والحديث النبوي، محمد بهاء الدين، ص128.
[19] المستشرقون والحديث النبوي، محمد بهاء الدين، ص130.
[20] المرجع السابق، ص161.
[21] مقدمة مسلم 1/ 39.
[22] مقدمة مسلم 1/ 44
[23] مقدمة مسلم 1/ 47
[24] مجموعة الفتاوى 1/ 9.
[25] معرفة علوم الحديث، ص8.
[26] المرجع السابق.
[27] تدريب الراوي، ص188،189.
[28] منهج النقد في علوم الحديث، نورالدين عتر ص92، نقلًا عن قسم الرواة ص55، 88.
[29] منهج النقد، ص129-130.
[30] السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص271-272. وينظر ما كتبه الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم "المنار المنيف".
[31] الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي دراسات تطبيقية على كتابات برنارد لويس، ص157.
[32] المرجع السابق، ص157.
[33] منهج النقد، نورالدين عتر، ص55.
[34] صحيح البخاري برقم 107، وصحيح مسلم، برقم5، ص8.
[35] صحيح مسلم، برقم1، ص7.
[36] صحيح البخاري، برقم109، ص24.
[37] جامع الترمذي، برقم 2100، ص482.
[38] صحيح البخاري، برقم 1288، ص206.
[39] صحيح البخاري، برقم 3567، ص598.
[40] سنن أبي داود، رقم 3660، ص525، وجامع الترمذي، رقم 3639، (6/ 29).
[41] سنن أبي داود، رقم 3660 ص525، وجامع الترمذي رقم 230 ص35، وسنن ابن ماجه، برقم 231، ص35.
[42] صحيح البخاري، برقم 113، ص24-25.
[43] الوضع في الحديث، عمر بن حسن فلاتة 1/ 246.
[44] المرجع السابق.
[45] ينظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص75-88.
[46] مقدمة صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 87)، الجرح والتعديل (2/ 16).
[47] السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص90-92.