نسوا الله فنسيهم
من الثابت في أصول العقيدة الإسلامية أن الله سبحانه وتعالى متصف بصفات الكمال، ومنـزَّه عن صفات النقص، وقد قال تعالى مقررًا هذه العقيدة غاية التقرير: {ليس كمثله شيء} (الشورى:11)، وقال سبحانه أيضًا: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} (النحل:17)؛ والعقل يقتضي كذلك، أن الخالق غير المخلوق.
وقد وردت في القرآن الكريم بعض الآيات، تتحدث عن نسبة النسيان لله سبحانه، من ذلك قوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة:67)؛ وبالمقابل، فقد وردت آيات أخرى، تنفي عنه سبحانه صفة النسيان، كقوله عز وجل: {وما كان ربك نسيا} (مريم:64).
وقد يبدو للوهلة الأولى، أن بين الآيتين تعارضًا؛ فكيف السبيل لرفع ما يبدو من تعارض ظاهر؟
لقد أجاب أغلب المفسرين عن هذا التعارض، بأن قالوا: إن النسيان يطلق على معنيين؛ أحدهما: النسيان الذي هو ضد الذكر ومقابل له، وهو الحالة الذهنية التي تطرأ على الإنسان، فتغيِّب عن ذاكرته بعض الأمور؛ ثانيهما: يطلق النسيان ويراد به (الترك)؛ قالوا: والنسيان بمعنى (الترك) مشهور في اللغة، يقال: أنسيت الشيء، إذا أمرت بتركه؛ ويقول الرجل لصاحبه: لا تنسني من عطيتك، أي: لا تتركني منها.
وبناء على هذا المعنى الثاني للنسيان، وتأسيسًا عليه، وجهوا قوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم}، فقالوا: إن الآية جاءت على أسلوب المشاكلة والمقابلة والمجاراة، وهو أسلوب معهود في كلام العرب، بحيث يذكرون الشيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صحبته؛ وبحسب هذا الأسلوب، جاء قول عمرو بن كلثوم في معلقته المشهورة:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى جزاء الجهل جهلاً؛ مصاحبة للكلام، ومشاكلة له.
ومنه قول جحظة البرمكي، وقد دُعي إلى طعام في يوم بارد، وكان لا يجد ثوبًا يقيه ألم البرد، قال:
قالوا: اقترح لونًا يجاد طبخه قلت: اطبخوا لي جبة وقميصًا
فعبر الشاعر عن حاجته لما يقيه ألم البرد بفعل الطبخ، وإنما فعل ذلك مجارة ومشاكلة لمقدم الكلام.
وعلى هذا الأسلوب جاء القرآن أيضًا، كما في قوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى:40)؛ إذ من المعلوم أن السيئة الأولى من صاحبها سيئة؛ لأنها معصية من فاعلها لله تبارك وتعالى، أما الثانية فهي عدل منه تعالى، لأنها جزاء من الله للعاصي على معصيته، فالكلمتان وإن اتفقتا لفظًا، إلا أنهما اختلفتا معنى؛ فالأولى على الحقيقة، والثانية على المقابلة.
ومن هذا الباب أيضًا، قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة:194)، فالعدوان الأول ظلم، والثاني جزاء لا ظلم، بل هو عين العدل، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه، وإن وافق لفظه لفظ الأول.
وجريًا على هذا الأسلوب جاء قوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم}، أي: تركوا طاعة الله، وأعرضوا عن اتباع أمره، فتركهم الله من توفيقه وهدايته ورحمته.
قال أهل التفسير، وعلى هذا التوجيه يُفهم كل ما في القرآن من نظائر ذلك؛ كقوله تعالى: {يخادعون الله وهو خادعهم} (البقرة:142)، {ومكروا ومكر الله} (آل عمران:54)، وقوله سبحانه: {ويمكرون ويمكر الله} (الأنفال:30)؛ فليس المقصود من هذه الآيات، وصفه سبحانه بالخداع والمكر، فالله سبحانه منـزه عن مثل هذه الصفات وما شابهها، وإنما المراد من هذا الأسلوب المجاراة والمقابلة، على ما تقدم.
وحمل (النسيان) في حقه تعالى على معنى (الترك) أمر متعين؛ إذ لا يستقيم في حقه سبحانه أن يوصف بالنسيان؛ لأن النسيان من صفات النقص في البشر، والله سبحانه موصوف بصفات الكمال والجلال، وهو منـزه عن صفات النقص.
وبحسب هذا التوجيه للآية، يمكننا أن نفهم قوله سبحانه: {فاليوم ننساهم} (الأعراف:51)، وقوله عز من قائل: {وكذلك اليوم تنسى} (طه:126)؛ فليس المقصود بالنسيان هنا المعنى الأول، وإنما المقصود منه المعنى الثاني، الذي هو معنى الترك.
وعلى هذا المعنى، يكون النسيان الوارد في قوله تعالى {نسوا الله}، هو النسيان المقصود والمتعمد، على معنى أنهم لم يأخذوا بأوامر الله، وتركوها وراء ظهورهم؛ ولذلك استحقوا الذم والعقوبة. بخلاف ما لو حُمل النسيان على المعنى المعروف، فإنهم لم يكونوا يستحقوا ذمًا ولا عقابًا؛ لأن النسيان - كعارض من العوارض البشرية - ليس في وسع البشر دفعه ولا منعه، بل هو من مقتضيات الطبيعة البشرية؛ ومن المعلوم شرعًا أن النسيان المعهود من البشر لا يحاسب عليه الإنسان، وإن كان لا يسقط به التكليف.
وختامًا نقول: إن قوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم}، وما شابهه من آيات، لا يتعارض مع قوله سبحانه: {وما كان ربك نسيا} ونحوها من الآيات؛ إذ المراد من النسيان في الآية الأولى (الترك)؛ أما النسيان في الآية الثانية، فالمراد منه معناه المعهود بين الناس، والآية نافية له في حق الله سبحانه.
..............
الحسد بين المدح والذم
الحسد صفة مَرضِيِّة مذمومة، وهو من أشد أمراض القلوب فتكًا بصاحبه؛ ومن كلامهم فيه:
لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله
وقد نهى صلى الله عليه وسلم أمته عن التلبس بهذه الصفة، فقال: (لا تحاسدوا)؛ وكان من جملة ما أخبر به عليه الصلاة والسلام أمته بأن قال: (دب إليكم داء الأمم الحسد والبغضاء) رواه الترمذي.
والقرآن الكريم نهى المؤمنين عن تمني ما للآخرين من نعمة، وطلب منهم التوجه بالسؤال إلى الله؛ طلبًا لفضله، وأملاً بعطائه، فقال تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله} (النساء:32)، وقد فُسرت الآية الكريمة بالحسد، وهو تمني الرجل نفس ما أُعطيَ أخوه من نعمة، بحيث تنتقل تلك النعمة إليه؛ وفُسرت كذلك بتمني ما هو ممتنع شرعًا، كتمني النساء أن يكون لهن مثل ما للرجال من الفضائل الدينية كالجهاد، والفضائل الدنيوية كالمساواة في الميراث، والإدلاء في الشهادات؛ أو تمني ما هو ممتنع قدرًا، كتمني النساء أن يكن رجالاً، وأن يكون لهن من القوة ما لهم، أو كتمني أحد من هذه الأمة، أن يكون نبيًا بعد ما أخبر الله تعالى، أن نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.
بالمقابل، نقرأ في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق؛ ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلمها) متفق عليه.
وظاهر هذا الحديث يدل على أن الحسد مذموم إلا في خصلتين اثنتين، فهو فيهما محمود وممدوح؛ وهاتان الخصلتان هما: طلب العلم للعمل والتعليم، وطلب المال لإنفاقه في أبواب الخير.
وربما يشكل هذا الحديث مع ما جاء في الآية السابقة، الناهية عن تمني ما في أيدي الآخرين من نعمة وفضل؛ ووجه ذلك، أن الآية الكريمة أطلقت النهي عن تمني ما فضَّل الله به بعض عباده على بعض؛ في حين أن الحديث الشريف نهى عن الحسد عمومًا، واستثنى منه أمرين: طلب العلم، وطلب المال. فكيف نفهم نهي الآية واستثناء الحديث؟
لقد تعرض شرَّاح الحديث لهذا الإشكال، وأجابوا عنه بأن قالوا:
إن الحديث حضَّ على تمني مثل النعمة التي أنعم الله بها على بعض عباده؛ بينما الآية الكريمة نهت عن تمني عين تلك النعمة؛ وبعبارة أوضح: إن الحديث وجَّه المؤمن إلى تمني أن يكون له مثل ما للآخرين من نِعَم، دينية كانت أو دنيوية؛ أما الآية فقد نهت المؤمن عن تمني حصول النعمة ذاتها التي أنعم الله بها على بعض عباده. وعلى هذا تكون الآية نهت عن تمني الإنسان ما في يدي غيره، بحيث تخرج من يده وتصير إليه؛ في حين أن الحديث رغب المؤمن أن يتمنى أن يكون له من الخير مثل ما للآخرين، من غير أن تزول تلك النعمة عنهم.
ومما يلقي مزيد ضوء على توضيح هذا الإشكال، أن العلماء قسموا الحسد إلى قسمين، أحدهما: محمود؛ والثاني: مذموم؛ فأما الحسد المحمود، فيسمى حسد الغبطة، وهو أن يتمنى الإنسان أن يكون له مثل ما للآخرين، من غير أن تزول تلك النعمة عنهم؛ أما الحسد المذموم -وهو المراد عند الإطلاق- فهو أن يتمنى المرء زوال النعمة عن الغير، سواء عادت تلك النعمة إليه، أم عادت إلى غيره.
وانطلاقًا من هذا التقسيم للحسد، يمكن أن نفهم أن الحسد المنهي عنه في الآية هو الحسد المذموم، وهو تمني زوال النعمة عن الغير؛ أما الحسد الذي رغَّب فيه الحديث النبوي فهو حسد الغبطة؛ وشتان ما بينهما.
وبحسب ما تقدم، يتضح وجه التوفيق بين ما يبدو من تعارض بين الآية والحديث.
واعلم أن ما قيل في التوفيق بين الآية وهذا الحديث، يقال أيضًا في الحديث الآخر، وفيه قوله صلى عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل؛ وعبد رزقه الله علمًا، ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو نيته، فأجرهما سواء؛ وعبد رزقه الله مالاً، ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًا، فهذا بأخبث المنازل؛ وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو نيته، فوزرهما سواء) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ومما هو وثيق الصلة بموضوع المقال أن يقال: لا بأس أن يغبط المؤمنُ المؤمنَ على ما يفعله من أعمال البر، وأن يتمنى أن لو فعل مثل ما فعله، ويعمل على تحصيل ذلك؛ بل إن المؤمن حقًا مطالب بأن ينظر في أمور الدين إلى من هو فوقه، وأن ينافس في طلب ذلك جهده وطاقته، كما قال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (المطففين:26)؛ فإذا فاقه أحد في فضيلة دينية، اجتهد أن يلحق به، وحزن على تقصيره وتخلفه عمن سبقه؛ لا حسدًا لهم على ما آتاهم الله، بل منافسة لهم، وغبطة وحزنًا على النفس بتقصيرها وتخلفها عن درجات السابقين؛ وكذلك في أمور الدنيا، لا حرج على المؤمن أن يطلب من أمرها ما يكون مشروعًا ومقدورًا عليه.