شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)
كتاب النكاح
شرح سنن أبي داود [259]
الحلقة (291)
شرح سنن أبي داود [259]
كانت الأمة في الجاهلية يرسلها سيدها لتزني وتأتي له بالضريبة والمقابل من ذلك، فجاء الشرع ناهياً عن هذه الخصلة الذميمة، والفعلة الأثيمة. وإذا وطأ الأمة جمع من السادة أو غيرهم فقد وضع الشرع القواعد والضوابط في كيفية نسبة الولد إلى أحدهم، فشرع الأخذ بالقيافة، فإذا نسب القافة الولد إلى أي الواطئين فإنه ينسب إليه، وكذلك شرع القرعة إذا لم تستطع القافة أن تلحقه بأحد الواطئين.
ما جاء في ادعاء ولد الزنا
شرح حديث ( لا مساعاة في الإسلام ... )
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في ادعاء ولد الزنا. حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا معتمر عن سلم -يعني: ابن أبي الذيال - قال: حدثني بعض أصحابنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا مساعاة في الإسلام، من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته، ومن ادعى ولداً من غير رشدة فلا يرث ولا يورث) ]. أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب ادعاء ولد الزنا، وادعاء ولد الزنا لا يجوز في الإسلام، ولا يلحق ولد الزنا بالزاني، والأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر). أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا مساعاة في الإسلام)، والمساعاة هي: الزنا، وقد كانت الأمة في الجاهلية إذا كان عليها شيء لسيدها فإنه يرسلها لتزني وتأتي له بالخراج والضريبة أو الشيء الذي اتفق معها على أنها تأتيه به، وكانوا يُكرهونهن على ذلك، كما جاء في القرآن: وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:33] يعني: غفور رحيم لهن وليس للذين أكرهوهن، فالله تعالى غفور رحيم للمكرهات، فكانت الأمة يرسلها سيدها لتجمع له، وكانت تفعل الفاحشة وتأخذ العوض على ذلك. قوله: [ (من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته) ] أي: أن الأنساب التي كانت في الجاهلية لا يقرها الإسلام، فإن الإسلام اعتبرها وكل من انتسب إلى أحد فإنه بقي على ما كان عليه، مع أن أنكحة الجاهلية فيها ما هو سائغ وفيها ما ليس بسائغ، فما حصل في الجاهلية بقي على ما هو عليه، ولكن بعد الإسلام يمنع من كل نكاح لا يجوز شرعاً. قوله: [ (ومن ادعى ولداً من غير رشدة فلا يرث ولا يورث) ]. أي: من جعله في الإسلام ولداً وهو من الزنا فإنه لا يرث ولا يورث، وأما إذا كان هذا شيئاً حصل في الجاهلية ومضى في الجاهلية فتبقى أنساب الجاهلية وما حصل في الجاهلية على ما هي عليه.
تراجم رجال إسناد حديث (لا مساعاة في الإسلام...)
قوله: [ حدثنا يعقوب بن إبراهيم ]. هو يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة. [ عن معتمر ]. هو معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سلم يعني ابن أبي الذيال ]. وهو ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) و مسلم و أبو داود . [ عن بعض أصحابنا ]. هذا مبهم غير معروف، فيضعف به الحديث. [ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ]. مر ذكرهما، والحديث غير صحيح من أجل هذا المبهم في الإسناد.
شرح حديث ابن عمرو في الاستلحاق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا محمد بن راشد ح وحدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن راشد -وهو أشبع- عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قضى أن كل مُسْتَلْحَق استُلْحِق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته، فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه، وليس له مما قسم قبله من الميراث شيء، وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه، ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره، وإن كان من أمة لم يملكها، أو من حرة عاهر بها، فإنه لا يلحق به ولا يرث، وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه فهو ولد زنية من حرة كان أو أمة) ]. أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: [ (إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته) ]. أي: إذا كان من أمة يطؤها أبوهم وكان ذلك ممكناً أن يكون من أبيهم، وادعى أخوته أنه لهم، وأنه ولد أمة أبيهم؛ فيكون أخاً لهم، وهذا إذا لم يكن أبوهم قد أنكره، فيلحق في النسب به، ويكون أخاً لهم، ولكن إذا سبق أن قسم شيء من تركة أبيهم فإنه لا نصيب له فيه، وإنما له نصيب مما لم يقسم؛ وذلك لأن ثبوت النسب ما حصل إلا بالاستلحاق، وأما قبل ذلك فلم يثبت نسبه، فما قسم قبل استلحاقه فإنه لا يكون له نصيب فيه، وما بقي من مال مورثهم لم يقسم فإنه يأخذ نصيبه منه على أنه واحد من الأبناء. قوله: [ (فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه، وليس له مما قسم قبله من الميراث شيء، وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه، ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره) ]. أي: إذا استلحقوه وادعوا أنه أخوهم وكان أبوهم قد أنكره فإن هذا الاستلحاق لا يصلح ما دام أنه قد أنكر أنه منه. قوله: [ (وإن كان من أمة لم يملكها، أو من حرة عاهر بها؛ فإنه لا يلحق به ولا يرث) ] أي: إذا وطئ مملوكة غيره، أو من حرة زنى بها، فإنه لا يلحق به ولا توارث بينهما؛ لأنه ليس ولده، بل هو ولد زنا، ولا توارث بين الزاني وبين الولد الذي جاء عن طريق الزنا. قوله: [ (وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه فهو ولد زنية من حرة كان أو أمة) ]. ولو كان الذي ينسب إليه هو الذي ادعاه فهو ولد زنية سواءً كان من حرة أو من أمة.
تراجم رجال إسناد حديث ابن عمرو في الاستلحاق
قوله: [ حدثنا شيبان بن فروخ ]. شيبان بن فروخ صدوق يهم، أخرج له مسلم و أبو داود و النسائي . [ حدثنا محمد بن راشد ]. محمد بن راشد المكحولي وهو صدوق يهم، أخرج له أصحاب السنن. [ ح وحدثنا الحسن بن علي ]. هو الحسن بن علي الحلواني، وقد مر ذكره. [ حدثنا يزيد بن هارون ]. يزيد بن هارون الواسطي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن محمد بن راشد ]. محمد بن راشد تقدم، وهذا الإسناد الثاني أنزل من الإسناد الأول. قوله: [ وهو أشبع ]. أي: أتم، فهذا المتن الذي هو من الطريق الثانية: من طريق الحسن بن علي عن يزيد بن هارون عن محمد بن راشد أتم من متن الإسناد الأول الذي هو من طريق شيبان بن فروخ عن محمد بن راشد . [ عن سليمان بن موسى ]. سليمان بن موسى وهو صدوق، أخرج له مسلم في المقدمة وأصحاب السنن. [ عن عمرو بن شعيب ]. عمرو بن شعيب صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن. [ عن أبيه ]. هو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو وهو أيضاً صدوق، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) و(جزء القراءة) وأصحاب السنن. [ عن عبد الله بن عمرو ]. هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. وهذا الحديث حسن.
شرح حديث عبد الله بن عمرو في الاستلحاق من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمود بن خالد حدثنا أبي عن محمد بن راشد بإسناده ومعناه، زاد: (وهو ولد زنا لأهل أُمّه من كانوا حرة أو أمة، وذلك فيما استلحق في أول الإسلام، فما اقتُسِم من مال قبل الإسلام فقد مضى) ]. قوله: [ (وهو ولد زنا لأهل أمة من كانوا) ]. أي: أنه يضاف إلى الزانية ولا يضاف إلى الزاني. قوله: [ حدثنا محمود بن خالد ]. هو محمود بن خالد بن يزيد الدمشقي وهو ثقة، أخرج له أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ عن أبيه ]. هو خالد بن يزيد وهو مقبول، أخرج له أبو داود و ابن ماجة . [ عن محمد بن راشد بإسناده ومعناه ]. محمد بن راشد تقدم ذكره.
ما جاء في القافة
شرح حديث (... ألم تري أن مجززاً المدلجي رأى زيداً وأسامة... فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في القافة. حدثنا مسدد و عثمان بن أبي شيبة المعنى و ابن السرح قالوا: حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مسدد و ابن السرح : يوماً مسروراً، وقال عثمان : تعرف أسارير وجهه، فقال: أي عائشة ! ألم تري أن مجززاً المدلجي رأى زيداً و أسامة رضي الله عنهما قد غطيا رءوسهما بقطيفة وبدت أقدامها فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض). قال أبو داود : كان أسامة أسود، وكان زيد أبيض ]. أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في القافة، والقافة: جمع قائف، وهم الذين يعرفون الشبه بين الناس، فعندهم فراسة وخبرة في ذلك، ويوجد في بعض القبائل العربية من يكون عنده حذق وفطنة وانتباه لمعرفة الأشباه، فكان يقال لهم: القافة. وأورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً وهو مسرور تبرق أسارير وجهه عليه الصلاة والسلام، فقال: (أي عائشة ! ألم تري أن مجززاً المدلجي نظر إلى أقدام زيد و أسامة وقد غطيا رءوسهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)، وكان زيد أبيض وابنه أسامة أسود ، وكان الناس يتكلمون في هذا الفرق بين الأب والابن، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكره ذلك الكلام، ولكنه لما رأى هذا القائف الذي رأى أقدامهما بادية ورءوسهما مغطاة بالقطيفة وقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض -يعني: أن هذا من هذا- فرح صلى الله عليه وسلم وسر لهذا الكلام الذي قاله القائف، وهذا دليل على اعتبار علم القيافة وقول القائف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر ذلك وسُرّ به، وهو صلوات الله وسلامه وبركاته عليه لا يسر بباطل، فهذا إذا يدل على اعتبار القيافة، فإذا حصل اشتباه ولم يكن هناك قرينة فإن الأمر يعرض على القافة، فمن قالت: إنه يشبه فلاناً فإنه يلحق به، فإذا كان هناك مثلاً وطء من عدد وصار الولد محتملاً أن يكون من هذا أو من هذا أو من هذا، فإنهم يعرضون على القافة ومن قدمته القافة فإن الولد ينسب إليه. وهذا فيما لو أن رجالاً كانوا مالكين لأمة ووطئوها في طهر واحد فحملت، ولا يجوز لهم أن يطئوها جميعاً، ولكن لو حصل أنهم وطئوها جميعاً وجاءت بولد فإنه يعرض على القافة، وإذا قالوا: إنه يشبه فلاناً يلحق به؛ لأن هذا مرجح، وسيأتي فيما بعد حديث فيه: أن ثلاثة وطئوا امرأة -يعني: مملوكة لهم- في طهر واحد وأن علياً رضي الله عنه أقرع بينهم، وألزم الذي خرجت له القرعة أن يدفع لصاحبيه ثلثي الدية -أي: ثلثي القيمة- لكن القيافة مقدمة على القرعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتبر القيافة وأقرها، فإذا ميز القائف من يكون له الشبه وأنه يكون منه ومن سلالته فإنه يلحق به.
تراجم رجال إسناد حديث (... ألم تري أن مجززاً المدلجي رأى زيداً وأسامة... فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)
قوله: [ حدثنا مسدد ]. مسدد بن مسرهد ثقة، أخرج حديثه البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ و عثمان بن أبي شيبة ]. عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فإنه لم يخرج له في السنن وإنما أخرج له في (عمل اليوم والليلة). [ و ابن السرح ]. هو أحمد بن عمرو بن السرح، وهو ثقة، أخرج له مسلم و أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ قالوا: حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة ]. سفيان هو ابن عيينة ، و الزهري مر ذكره، و عروة بن الزبير بن العوام ثقة فقيه، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عائشة ]. عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق ، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
طريق ثانية لحديث عائشة في قصة زيد وابنه أسامة، وتراجم رجال إسنادها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن شهاب بإسناده ومعناه، قال: قالت: (دخل علي مسروراً تبرق أسارير وجهه) ]. أورد المصنف الحديث من طريق أخرى وفيه: أنها قالت: (دخل علي مسروراً تبرق أسارير وجهه) يعني: من شدة الفرح، وأسارير الوجه هي ما يكون في الجبهة. [ قال أبو داود : و(أسارير وجهه) لم يحفظه ابن عيينة قال أبو داود : (أسارير وجهه) هو تدليس من ابن عيينة لم يسمعه من الزهري إنما سمع الأسارير من غير الزهري ، قال: والأسارير في حديث الليث وغيره ]. يعني: أن ابن عيينة لم يسمع من الزهري قوله: (أسارير وجهه)، و ابن عيينة مدلس ولكنه لا يدلس إلا عن الثقات فقط ولا يدلس عن غيرهم، فإذا حذف أحداً فإنه يكون ثقة؛ لأنه لا يحذف إلا الثقات. وقوله: (تبرق أسارير وجهه) هذا ثابت من حديث الليث ، وهو في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ قال أبو داود : وسمعت أحمد بن صالح يقول: كان أسامة رضي الله عنه أسود شديد السواد مثل القار، وكان زيد رضي الله عنه أبيض مثل القطن ]. ثم هذا فيه توضيح سواد هذا وبياض هذا، وأن هذا مثل القار لشدة سواده، وهذا مثل القطن لشدة بياضه، ولهذا استغرب الناس هذا الشكل وهذا التباين بين الولد والابن. قوله: [ حدثنا قتيبة ]. قتيبة بن سعيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا الليث ]. الليث ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن شهاب ]. ابن شهاب قد مر ذكره.