عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 19-02-2025, 10:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,716
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الزكاة أهميتها وضرورتها للفرد وللمجتمع


ويأبى الإسلام أن يوجد في مجتمعه، من لا يجد القوت الذي يكفيه والثوب الذي يواريه والمسكن الذي يؤويه، فهذه ضروريات يجب أن تتوافر لكل من يعيش في ظل الإسلام، والمسلم مطالب بأن يحقق هذه الضرورات وما فوقها من جهده وكسبه، فإن لم يستطع فالمجتمع يكفله ويضمنه ولا يدعه فريسة الجوع والعري والمسكنة (33) فقد أمر الإسلام كل قادر أن يعمل ويسعى في طلب الرزق ليكفي نفسه ويغني أسرته ويسهم بالنفقة في سبيل الله، فمن لم يستطع وعجز عن العمل ولم يكن لديه من المال الموروث أو المدخر ما يسد حاجته، كان في كفالة أقاربه الموسرين ينهضون به ويقومون بشأنه، ولكن ليس لكل فقير، قريب قادر موسر لينفق عليه، فماذا يصنع المسكين الضعيف، الذي ليس له أقارب أقوياء، يحملونه من ذوى عصبته أو ذوى رحمه؟ وماذا يصنع المحتاجون العاجزون عن الكسب لضعف ذاتي كالصغر والأنوثة والشيخوخة؟ أمثال الصبي اليتيم والمرأة الأرملة والأم العجوز والشيخ الهرم؟ وماذا يصنع المعتوه والزمن والأعمى والمريض وذوى العاهة؟ وماذا يصنع القادر على العمل الذي لم يجد عملا حلالا يليق بمثله يرتزق منه؟ والعامل الذي وجد عملا، لا يقوم دخله منه، بكفايته هو وأسرته، أو يكفيه بعض حاجاته دون بقيتها!؟ أيترك كل هؤلاء للفقر القاهر والحاجة القاسية، تفترسهم افتراسا والمجتمع ينظر إليهم؟! أن الإسلام لم ينس هؤلاء لقد فرض الله لهم في أموال الأغنياء حقا معلوما وفريضة مقررة ثابتة هي الزكاة، وقد حل لهم جميعا الأخذ منها ولا حرج عليهم في دين الله (34) فليس من الإيمان ولا من الإنسانية أن يشبع مسلم حتى يشكو التخمة وإلى جواره من طال حرمانه حتى أنّ من الجوع، ولا يجوز للمؤمن أن يعيش في دائرة نفسه مغفلا واجبه نحو الآخرين من ضعفاء ومساكين، فهذا نقص في إيمانه موجب لسخط الله في الدنيا والآخرة، وفي هذا يقص علينا القرآن مشهدا من مشاهد الآخرة بين أهل اليمين في الجنة وأهل الشمال في النار فأصحاب اليمين ( { في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نكن من المصلين ولم نكن نطعم المسكين} ) [سورة المدثر الآيات 40 - 44] فهنا كان ترك إطعام المسكين من موجبات الخلود في سقر، وأروع من ذلك وأعجب، أن القرآن لا يكتفي بإيجاب إطعام المسكين، ومثل إطعامه كسوته ورعاية ضروراته وحاجاته، بل يزيد على ذلك، فيجعل في عنق كل مؤمن، حقا للمسكين، أن يحض غيره، على إطعامه ورعايته، ويجعل ترك هذا الحض من لوازم الكفر بالله والتكذيب بيوم الدين، نقرأ في هذا قول الله تعالى ( {أرءيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون} ) [سورة الماعون الآيات 1 – 7] فقهر اليتيم وإهمال الحث على رعاية المسكين، جعلا دليلا على خلو القلب من الإيمان بالآخرة والتصديق بالجزاء، وما كان لمثل هذا الشخص من صلاة فهي صلاة الساهين المرائين، ويقول تعالى في شأن أصحاب الشمال ( {وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغني عني ماليه هلك عني سلطانيه} ) [سورة الحاقة الآيات 25 - 29 ] ثم يصدر الله عليه الحكم الذي يستحقه في سورة الحاقة الآيات 30 - 32 ( {خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه} ) ثم يذكر أسباب هذا الحكم الشديد ( {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين} ) سورة الحاقة الآيات 33 و34 (35)
والزكاة من ناحية أخرى واجب اجتماعي فيمكن أن يقال عنها واجب اجتماعي تعبدي (36) حيث تهدف الزكاة إلى تحقيق التكافل والضمان الاجتماعي(37) وإقامة التوازن المعيشي بين أفراد الشعب(38) بتوزيع الثروة وتداولها بين أفراد المجتمع (39) فلم تكن الزكاة مجرد معونة وقتية، لسد حاجة عاجلة للفقير وتخفيف شئ من بؤسه، ثم تركه بعد ذلك لأنياب الفقر والفاقة، بل كان هدفها القضاء على الفقر، وإغناء الفقراء إغناء دائما يستأصل شأفة العوز من حياتهم ويقدرهم على أن ينهضوا وحدهم بعبء المعيشة، وذلك لأن مهمتها أن تيسر للفقير قواما من عيش، لا لقيمات أو دريهمات وهي فريضة دورية منتظمة دائمة الموارد(40)وحق محدد مقرر، لا تهاون فيه، تتولى الدولة المسلمة جبايته وتوزيعه(41)
وتعتبر الزكاة جزء من نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام، ذلك التكافل الذي يشمل جوانب الحياة المادية والمعنوية فهناك التكافل الأدبي والتكافل العلمي والتكافل السياسي والتكافل الدفاعي والتكافل الجنائي والتكافل الأخلاقي والتكافل الاقتصادي والتكافل الحضاري وأخيرا التكافل المعيشي وهو الذي خصص اليوم خطأ باسم التكافل الاجتماعي(42) ويهدف هذا النظام إلي توفير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية المناسبة لإقامة الحياة الطيبة وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتكافل هو فرض عين على كل مسلم مكلف، بحيث يكون كل فرد قادر كفيلا في مجتمعه، يعاون الآخرين ماديا ومعنويا، لقضاء حوائجهم ودفع الضرر عنهم، وتحقيق مصالح الجماعة بصفة عامة، فهو مسئولية نابعة من مبدأ الاستخلاف وناتجة عن حقيقة تفاوت قدرات وموارد الأفراد في المجتمع حيث يستدعي هذا التفاوت تبادل المنافع واستكمال جوانب العجز في إشباع حاجات الآخرين قال تعالى ( {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} ) [سورة الزخرف آية 32 ] ومن ناحية أخري فان تعدد حاجات البشر وتنوعها يؤدي إلى صعوبة إشباعها فرديا، ولذا فان التكافل الاجتماعي يؤيد عملية استيفاء الحاجات بين أفراد المجتمع(43) والتكافل الاجتماعي نظام أشمل وأوسع كثيرا من الزكاة لأنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها ونواحي الارتباطات البشرية جميعا والزكاة خط واحد من هذه الخطوط وهي تشمل ما يسمى الآن بالتأمين الاجتماعي والضمان الاجتماعي مجتمعين، والفرق بين التامين والضمان أن كل فرد في التأمين يؤدي قسطا من دخله في نظير تأمينه عند عجزه الدائم أو المؤقت أما في الضمان فالدولة هي التي تقوم بها من ميزانيتها العامة بدون أن يشترك أفراد المجتمع بأداء قسط معين، وأن كثيرا ممن يؤدون الزكاة في عام قد يكونون في العام التالي مستحقين للزكاة بنقص ما في أيديهم عن الوفاء بحاجاتهم، أو حلول كوارث جعلتهم يستدينون على أنفسهم وعيالهم، أو انقطاعهم عن وطنهم ومالهم، أو نحو ذلك فهي من هذه الناحية تأمين اجتماعي، وهناك آخرون لم يكونوا ممن وجبت عليهم الزكاة من قبل ولم يساهموا بشيء في حصيلة الزكاة ولكنهم يستحقونها لفقرهم وحاجتهم فهي من هذه الناحية ضمان اجتماعي، غير أن الزكاة في الواقع أقرب إلى الضمان منها إلى التأمين، لأنها لا تعطي الفرد بمقدار ما دفع كما هو الشأن في نظام التأمين وإنما تعطيه بمقدار ما يحتاج إليه قل ذلك أو كثر، فمن بين أهداف الزكاة ما له صبغة اجتماعية كمساعدة ذوي الحاجات، والأخذ بأيدي الضعفاء من فقراء و مساكين وغارمين وأبناء السبيل، فإن مساعدة هؤلاء تؤثر فيهم بوصفهم أفرادا، وتؤثر في المجتمع كله باعتباره كيانا متماسكا، والحق أن الحدود بين الفرد والمجتمع متداخلة، بل المجتمع ليس إلا مجموعة أفراده، فكل ما يقوي شخصية الفرد وينمي مواهبه وطاقاته المادية والمعنوية، هو من غير شك تقوية للمجتمع وترقية له، وكل ما يؤثر في المجتمع بصفة عامة، يؤثر في أفراده شعروا بذلك أو لم يشعروا، فلا عجب أن نعد تشغيل العاطل ومساعدة العاجز ومعونة المحتاج كالفقير والمسكين والرقيق والمدين أهدافا اجتماعية، لما تؤدي إليه من تماسك المجتمع وتكافله، وهي في الوقت نفسه أهداف فردية بالنظر لهؤلاء الآخذين للزكاة، ولقد سددت الزكاة كل ما يتصور من أنواع الحاجات الناشئة عن العجز الفردي أو الخلل الاجتماعي أو الظروف العارضة، التي لا يسلم من تأثيرها بشر، ونحن نقرأ فيما كتبه الإمام الزهري لعمر بن عبد العزيز عن مواضع السنة في الزكاة: أن فيها نصيبا للزمني والمقعدين، ونصيبا لكل مسكين به عاهة لا يستطيع عيلة ولا تقلبا في الأرض، ونصيبا للمساكين الذين يسألون ويستطعمون حتى يأخذوا كفايتهم ولا يحتاجوا بعدها إلى السؤال، ونصيبا لمن في السجون من أهل الإسلام ممن ليس له أحد، ونصيبا لمن يحضر المساجد من المساكين الذين لا عطاء ولا سهم لهم، أي ليس لهم رواتب ولا معاشات منتظمة ولا يسألون الناس، ونصيبا لمن أصابه فقر وعليه دين، ولم يكن شئ منه في معصية الله ولا يتهم في دينه أو قال في دينه، ونصيبا لكل مسافر ليس له مأوى ولا أهل يأوي إليهم، فيؤوى ويطعم وتعلف دابته، حتى يجد منزلا أو يقضي حاجة، فهو ضمان شامل لكل أصناف المحتاجين، وكل حاجاتهم المختلفة بدنية ونفسية وعقلية، وقد رأينا كيف اعتبر الزواج من الحاجات التي يجب إشباعها وكذلك كتب العلم لأهلها، ولم يكن ذلك خاصا بالمسلمين وحدهم بل شمل كل من يعيش في ظل دولتهم من اليهود والنصارى، كما فعل سيدنا عمر مع اليهودي الذي وجده يسأل على الأبواب، وأمر بكفالته من بيت مال المسلمين، وجعل ذلك مبدءا له ولأمثاله، كما أنه حين رأى في طريقة إلى دمشق قوما مجذومين، من النصارى، أمر أن يرتب لهم معاش من بيت المال الإسلامي، وبذلك تعد الزكاة أول تشريع منظم في سبيل ضمان اجتماعي لا يعتمد على الصدقات الفردية التطوعية، بل يقوم على مساعدات حكومية دورية منتظمة، مساعدات غايتها تحقيق الكفاية، لكل محتاج، الكفاية في المطعم والملبس والمسكن وسائر الحاجات، لنفس الشخص ولمن يعوله في غير إسراف ولا تقتير(44)
الهدف الأول من الزكاة هو القضاء على الفقر، وإغناء الفقراء إغناء دائما، يقدر لهم على أن ينهضوا وحدهم بعبء المعيشة، فهي فريضة دورية منتظمة دائمة الموارد، مهمتها أن تيسر للفقير قواما من عيش، لا لقيمات أو دريهمات، فالفقراء والمساكين هم أول من تصرف لهم الزكاة، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يذكر في بعض المواقف إلا هذا المصرف، لأنه المقصود أولا، أو على سبيل الاكتفاء به، كأمره لمعاذ وقد بعثه إلى اليمن أن يأخذها من أغنيائهم ويردها في فقرائهم، وحتى ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الزكاة لا تصرف إلا لفقير (45) فالإسلام يريد للناس، أن يحيوا حياة طيبة، تتوافر لهم فيها كفايتهم، وكفاية من يعولونهم، حتى إذا اطمئنوا في حياتهم، اتجهوا بالعبادة الخاشعة، إلى ربهم الذي أطمعهم من جوع وأمنهم من خوف، ومن هنا فرض الله الزكاة تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء، فيقضي بها الفقير حاجاته المادية، كالمأكل والمشرب والملبس والمسكن، وحاجاته النفسية الحيوية، كالزواج الذي قرر العلماء أنه من تمام كفايته، وحاجاته المعنوية الفكرية ككتب العلم لمن كان من أهله، وبهذا يستطيع هذا الفقير أن يشارك في الحياة، ويقوم بواجبه في طاعة الله ويشعر بأنه عضو حي في جسم المجتمع، ليس شيئا ضائعا ولا كما مهملا، وإنما هو في مجتمع إنساني كريم يعني به ويرعاه ويأخذ بيده، ويقدم له يد المساعدة في صورة كريمة، لا منّ فيها ولا أذى، بل يتقبلها من يد الدولة، وهو عزيز النفس رافع الرأس موفور الكرامة، لأنه إنما يأخذ حقه المعلوم ونصيبه المقسوم، حتى لو اضطربت الأمور في المجتمع المسلم، وقدر للأفراد أن يكونوا هم الموزعين للزكاة بأنفسهم، فإن القرآن يحذرهم من إهانة الفقير، أو جرح إحساسه بما يفهم منه الاستعلاء عليه أو الامتنان، أو أي معنى يؤذي كرامته كإنسان وينال من عزته كمسلم، قال تعالى ( { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا} ) [سورة البقرة آية 264] إن شعور الفقير أنه ليس ضائعا في المجتمع وأن مجتمعه يهتم به ويرعاه كسب كبير لشخصيته، وزكاة لنفسيته، وهذا الشعور نفسه ثروة، لا يستهان بها للأمة كلها، إن رسالة الإنسان على الأرض، وكرامته على الله سبحانه، تقتضيان ألا يترك للفقر، الذي ينسيه نفسه وربه، ويذهله عن دينه ودنياه، ويعزله عن أمته ورسالتها، ويشغله عن ذلك كله بالتفكير في سد الجوع وستر العورة والحصول على المأوى(46)
وتستخدم الزكاة في تشغيل الطاقة الإنتاجية المعطلة، حيث إنه لا يشترط توزيع الزكاة على مستحقيها نقدا، بل يمكن أداؤها في شكل مواد استهلاكية أو إنتاجية، كما كان يحدث في صدر الإسلام، على أن يكون مقدار العطاء، بالقدر الذي يذهب الفقر، ويقضي على أسبابه، أي يحقق قوام العيش، فبالتالي من كان ذو حرفة وتنقصه أدوات إنتاج، يمكن توفيرها له من أموال الزكاة، فقد أجاز الفقهاء أن يعطى للمحترف مال يشتري به أدوات حرفته بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته، قال النووي: فمن كانت عادته "أي الفقير" الاحتراف أعطى ما يشتري به أدوات حرفته، قلت قيمة ذلك أو كثرت، ومن كان خياطا أو نجارا أو قصابا أو غيرهم من أهل الصنائع، أعطى ما يشتري به الآلات التي تصلح لمهنته، ويذهب الفقهاء إلى تحديد أوجه إنفاق حصة الزكاة المخصصة للقضاء على الفقر وأسبابه، بحيث تقسم إلى جزئيين: القسم الأول يعطى للقادرين على الكسب بأنفسهم، بحيث يمكنهم شراء وسيلة للإنتاج والكسب، مثل آلة حرفتهم، وبذلك يتم تحقيق قدر من التشغيل للعمالة المعطلة بسبب عدم توافر رأس المال اللازم لتشغيلها، أما الجزء الثاني فيعطي لغير القادرين على الكسب بأنفسهم وفي صورة قيام الدولة بإقامة مشروعات تعود بدخل مستمر ومنتظم يكفيهم0 ومن التطبيقات المعاصرة لهذه الحالة: شراء آلات وأدوات حرفة للنساء الفقيرات المحترفات صنعة، واللاتي لا يستطعن الخروج، ويمكنهن العمل داخل البيت، وبذلك يتم تحويلهن إلى قوة منتجة، شراء آلات وأدوات حرف الصناعات الصغيرة، للشباب الفقير العاطل، لتحويله إلى قوة منتجة من خلال نظام القرض الحسن، بدلا من القروض الربوية والقروض المشتبه، شراء آلات وأدوات الحرف ونحوها للمعاقين الفقراء، وتدريبهم على ممارسة حرفة، ويقاس على ذلك اللاجئين والمعتقلين والسجناء0 ومن الآثار الاقتصادية الهامة لتمويل وسائل الحرفة للفقراء المحترفين من الزكاة، تحويلهم من طاقة عاطلة إلى قوة اقتصادية إنتاجية سوف تتحول بعد فترة إلى دافعي زكاة(47)
فمن واجبات الدولة الإسلامية نحو أبنائها تهيئة العمل المناسب لكل عاطل قادر على العمل، فما ينبغي لراع مسئول عن رعيته أن يقف مكتوف اليدين أمام العاطلين عن العمل، كما لا يجوز أن يكون موقفه منهم، بصفة دائمة مد اليد بمعونة قلت أو كثرة من أموال الصدقات، فقد قال عليه الصلاة والسلام ( «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» ) وكل إعانة مادية تعطى ( لذي مرة سوي ) ليست في الواقع إلا تشجيعا للبطالة من جانب، ومزاحمة للضعفاء والزمني والعاجزين في حقوقهم من جانب آخر0 والتصرف السديد الواجب نحو القادرين على العمل العاطلين عنه هو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بازاء واحد من هؤلاء السائلين، فعن أنس بن مالك «أن رجلا من الأنصار أتي النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال ( أما في بيتك شيء ؟ ) قال : بلي حلس "كساء يوضع على ظهر البعير أو يفرش في البيت تحت حر الثياب" نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب "القدح الإناء" نشرب فيه الماء قال ( ائتني بهما ) فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ( من يشتري هذين؟) قال رجل : أنا آخذهما بدرهم، قال ( من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا ) قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقال ( اشتر بأحدهما طعاما وانبذه إلي أهلك واشتر بالآخر قدوما فائتني به ) فشد رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال له ( اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما ) فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هذا خير لك من أن تجئ المسألة نكته في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع )» وفي هذا الحديث نجد النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد للأنصاري السائل أن يأخذ من الزكاة وهو قوي على الكسب، ولا يجوز له ذلك إلا إذا ضاقت أمامه المسالك، وأعيته الحيل، وولي الأمر لابد أن يعينه في إتاحة الفرصة للكسب الحلال وفتح باب العمل أمامه، كما إنه لم يعالج السائل المحتاج بالمعونة المادية الوقتية كما يفكر كثيرون، ولم يعالجه بالوعظ المجرد والتنفير من المسألة كما يصنع آخرون، ولكنه أخذ بيده في حل مشكلته بنفسه وعلاجها بطريقه ناجحة، علمه أن يستخدم كل ما عنده من طاقات وإن صغرت وأن يستنفد ما يملك من حيل وإن ضؤلت، فلا يلجأ إلى السؤال وعنده شئ يستطيع أن ينتفع به في تيسير عمل يغنيه، وعلمه أن كل عمل يجلب رزقا حلالا هم عمل شريف كريم، ولو كان احتطاب حزمه يجتلبها فيبيعها، فيكف الله بها وجهه أن يراق ماؤه في سؤال الناس، وأرشده إلى العمل الذي يناسب شخصه وقدرته وظروفه وبيئته وهيأ له آلة العمل الذي أرشده إليه، ولم يدعه تائها حيران، وأعطاه فرصه خمسة عشر يوما يستطيع أن يعرف منه بعدها مدي ملاءمة هذا العمل له، ووفاءه بمطالبه فيقره عليه، أو يدبر له عملا آخر، وبعد هذا الحل العملي لمشكلته لقنه الدرس النظري الموجز البليغ في الزجر عن المسألة والترهيب منها والحدود التي تجوز في دائرتها ودور الزكاة هنا لا يخفى، فمن أموالها يمكن إعطاء القادر العاطل ما يمكنه من العمل، في حرفته، من أدوات أو رأس مال، ومنها يمكن أن يدرب على عمل مهني يحترفه ويعيش منه، ومنها يمكن إقامة مشروعات جماعية مصانع أو متاجر أو مزارع ونحوها ليشتغل فيها العاطلون وتكون ملكا لهم بالاشتراك كلها أو بعضها(48)

وقف الإسلام دون إرخاء العنان لغريزة الجنس، لتنطلق بغير حدود، ولا قيود، ولذلك حرم الزنى، وما يفضي إليه وما يلحق به، ولكنه إلى جانب ذلك قاوم نزعة مصادرة الغريزة وكبتها، ومن أجل ذلك دعا إلى الزواج، ونهى عن التبتل والخصاء، فلا ينبغي لمسلم أن يعرض عن الزواج مع القدرة عليه، بدعوى التبتل لله، أو التفرغ للعبادة والترهب والانقطاع عن الدنيا، وقد لمح النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أصحابه شيئا من النزوع إلى هذه الوجهة الرهبانية، فأعلن أن هذا انحرف، عن نهج الإسلام، وإعراض عن سنته، عليه الصلاة والسلام، وقال لهم ( «إنما أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له ولكني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب سنتي فليس مني» ) رواه البخاري
وقال سعد بن أبي وقاص: رد رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا [رواه البخاري] ووجه عليه السلام نداءه إلى الشباب عامة فقال ( «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباء فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج » ) [رواه البخاري]
ومن هنا قال بعض العلماء إن الزواج فريضة على المسلم لا يحل له تركه ما دام قادرا عليه، ولا يليق بالمسلم أن يصد عن الزواج خشية ضيق الرزق عليه أو ثقل المسؤولية على عاتقه، وعليه أن يحاول ويسعى وينتظر فضل الله ومعونته التي وعد بها المتزوجين، الذين يرغبون في العفاف والإحصان، قال تعالى ( { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} ) [سورة النور آية 32] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( «ثلاثة حق على الله عونهم الناكح الذي يريد العفاف والمكاتب الذي يريد الأداء» "أي العبد الذي يريد أن يحرر رقبته ببذل مقداره من المال يكاتب عليه سيده" والغازي في سبيل الله ) أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجة والحاكم عن أبي هريرة بإسناد صحيح
ومن فضل الله وعونه، الذي وعد به كل مؤمن يريد إعفاف نفسه بالزواج، أن يمد المجتمع المسلم ممثلا في الحكومة أو مؤسسة الزكاة يده إليه بالمساعدة في المهر ونفقات الزواج إن كان من أهل الحاجة، حتى يستطيع أن يستجيب لنداء الإسلام في غض البصر وإحصان الفرج، وإقامة الأسرة المسلمة، ومعرفة آية الله البينة التي نبه عليها عباده ممتنا عليهم بقوله ( {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} ) [سورة الروم آية 21 ] وهذا ليس ابتداعا أو اجتهادا غير مسبوق إليه ولكن هذا الذي قرره أئمتنا منذ قرون، فقد جعلوا الزواج من تمام الكفاية وقالوا إن من تمام الكفاية ما يأخذه الفقير ليتزوج به، إذا لم تكن له زوجه واحتاج إلى الزواج(49)
الإسلام باعتباره دينا يعترف بالفطرة، يهذبها ويسمو بها، ولا يعلن الحرب لاستئصالها أو مقاومتها، فقد أقر الملكية الفردية الناشئة عن سبب مشروع، استجابة للدوافع الفطرية الأصلية في الإنسان، التي تتطلب التملك والمنافسة والادخار، وبالتالي يكون الإسلام قد اعترف بالتفاوت الفطري في الأرزاق بين الناس، إذ هو بلا شك ناشئ عن تفاوت فطرى آخر في المواهب والملكات والقدرات والطاقات، ولكن هذا الاعتراف بالتفاوت الفطري في الرزق، ليس معناه أن يدع الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا، فتتسع الشقة بين الفريقين، ويصبح الأغنياء طبقة، كتب لها أن تعيش في أبراج من العاج، ويصبح الفقراء طبقة، كتب عليها أن تموت في أكواخ من البؤس والحرمان (50) فإن أعظم آفة تصيب المجتمع وتهز كيانه هزا، وتنخر في عظامه، أن يوجد الثراء الفاحش إلى جانب الفقر المدقع، أن يوجد من يملك القناطير المقنطرة ومن لا يملك قوت يومه، أن يوجد من يضع يده على بطنه يشكو زحمة التخمة، وبجواره من يضع يده على بطنه يشكو عضه الجوع، أن يوجد من يملك القصور الفخمة لا يسكنها ولا يحتاج إليها، وبالقرب منه حجرة البدروم التي تضم في أحشائها الدقاق رجلا وأبويه وزوجه وأولاده !! (51) ويكره الإسلام هذه الفوارق بين أفراد الأمة، لما يترتب عليها من أحقاد وأضغان، تحطم أركان المجتمع، ولما فيها من أثره وجشع وقسوة، تفسد النفس والضمير، ولما فيها من اضطرار المحتاجين، إما إلى السرقة والغصب، وإما إلى الذل وبيع الشرف والكرامة، وكلها منحدرات يتجافى الإسلام بالجماعة عنها، ويكره الإسلام أن يكون المال دولة بين الأغنياء في الأمة، وإلا تجد الكثرة ما تنفق، لأن ذلك يؤدى في النهاية، إلى تجميد الحياة والعمل والإنتاج، في هذه الأمة بينما وجود الأموال في أيدي أكبر عدد منها، يجعل هذه الأموال تنفق في شراء ضروريات الحياة، لهذا العدد الكبير، فيكثر الإقبال على السلع فينشأ من هذا كثرة الإنتاج، فتترتب عليها العمالة الكاملة للأيدي العاملة، وبذلك تدور عجلة الحياة والعمل والإنتاج والاستهلاك دورتها الطبيعية المثمرة(52) وقد تدخل الإسلام بتشريعاته القانونية ووصاياه الروحية والخلقية، لتقريب المسافة بين هؤلاء وأولئك، فعمل على الحد من طغيان الأغنياء، والرفع من مستوي الفقراء، وعمل على إعادة التوازن وعدالة التوزيع، وتقارب الملكيات، وتقريب المستويات بعضها من بعض، كما نص على ذلك المولى عز وجل في كتاب الكريم ( {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} ) سورة الحشر آية 7 (53)
والزكاة وسيلة من وسائل الإسلام التي اتخذها لتقريب المسافة بين الأغنياء والفقراء فهي أخذ من الأغنياء وإعطاء للفقراء (54) فليس هدف الزكاة مقصورا على محاربة الفقر، بمعونة مؤقتة أو دورية، ولكن وبقدر ما تسمح به حصيلتها، فإن من أهدافها توسيع قاعدة التملك وتكثير عدد الملاك وتحويل أكبر عدد مستطاع من الفقراء المعوزين إلى أغنياء مالكين، لما يكفيهم طوال العمر وإخراجهم من دائرة الحاجة إلى دائرة الكفاية الدائمة، وذلك بتمليك كل محتاج ما يناسبه ويغنيه، فمن له قدرة على عمل معين وتنقصه الإمكانيات تملكه ما يحتاجه من أدوات ومستلزمات الإنتاج، فهي بهذا تعمل على التقليل من عدد الأجراء وزيادة في عدد الملاك، وذلك هدف من أهداف الإسلام الكبيرة في ميدان الاقتصاد والاجتماع أن يشترك الناس في الخيرات والمنافع التي أودعها الخالق في هذه الأرض ولا يقتصر تداولها على فئة الأغنياء وحدهم ويحرم الآخرون قال تعالى ( {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } ) سورة البقرة آية 29 وكلمة ( جميعا ) في الآية يصح أن تكون تأكيدا لما في الأرض أو للناس المخاطبين ولا مانع من إرادة المعنيين معا فالمعنى على هذا أن جميع ما في الأرض مخلوق للناس جميعا لا لتستأثر به فئة دون أخري0
إننا إذا تصورنا المجتمع الإسلامي الصحيح، الذي يعمل أفراده فيتقنون العمل، يمشون في مناكب الأرض الذلول، ويلتمسون الرزق في خباياها، وينتشرون في أرجائها زراعا وصناعا، وتجارا، وعاملين في شتي الميادين، ومحترفين بشتى الحرف، مستغلين لكل الطاقات، منتفعين بكل ما استطاعوا مما سخر الله لهم في السموات والأرض جميعا منه، إذا تصورنا هذا المجتمع ، فكم تكون نسبة القادرين الذين تجب عليهم الزكاة في ثرواتهم ودخولهم؟ إن النسبة بلا ريب ستكون كبيرة جدا، والعدد سيكون هائلا، وكم تكون نسبة الذين قعد بهم العجز عن العمل، أو أعيتهم كثرة العيال وقلة الدخل؟ إنها بلا شك ستكون نسبة ضئيلة جدا، والعدد سيكون محدودا، وهنا تزداد حصيلة الزكاة ليأخذ منها عن سعة، لتمليك ذوي الدخل الضئيل أو الذين لا دخل لهم، فتقرب المسافة بينهم وبين غيرهم من الموسرين من أبناء الأمة، إن هدف الزكاة ألا يقع هذا التفاوت الشاسع البشع، وأقل ما تحققه أن يختفي هذا الفريق الثاني الذي لا يجد مستوي العيش اللائق به من طعام وكساء ومأوي، وأكثر من ذلك أنها تعمل على أن ترتفع بهؤلاء حتى يقتربوا من أولئك ويدخلوا في زمرة الأغنياء المالكين(55)
والزكاة كما تحقق معنى التطهير للنفس، تحقق معنى التحرير لها، تحريرها من ذل التعلق بالمال، والخضوع له، ومن تعاسة العبودية للدينار والدرهم، فإن الإسلام يحرص على أن يكون المسلم عبدا لله وحده، متحررا من الخضوع لأي شئ سواه، سيدا لكل ما في هذا الكون من عناصر وأشياء، وأي تعاسة أعظم من أن يجعل الله الإنسان في الأرض خليفة وسيدا، فإذا هو يعبد نفسه لما عليها من مادة ومال؟ ! وأي تعاسة أعظم من أن يصبح جمع المال هدف الإنسان وأكبر همه، ومبلغ علمه، ومحور حياته، وقد خلق لرسالة أكبر وهدف أسمى؟! وقد حذرنا رسولنا عليه الصلاة والسلام من هذه التعاسة التي هي من لوازم العبودية لغير الله تعالى فقال فيما رواه البخاري ( «تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس وانتكس وإذا اشيك فلا انتفش» ) (56)
والزكاة تنبيه للقلب على واجبه نحو ربه ونحو الآخرة، وعلاج له من الاستغراق في حب الدنيا وحب المال، فإن الاستغراق في حبه كما قال الرازي: يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت حكمة الشرع تكليف مالك المال، بإخراج طائفة منه، من يده ليصير ذلك الإخراج، كسرا من شدة الميل إلى المال، ومنعا من انصراف النفس بالكلية إليه، وتنبيها لها على أن سعادة الإنسان، لا تحصل عند الاشتغال بطلب المال، وإنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضاة الله تعالى، فإيجاب الزكاة علاج صالح متعين لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب
والزكاة تدريب للمسلم على مقاومة فتنه المال وفتنة الدنيا، بإعداد النفس للبذل امتثالا لأمر الله وسعيا في مرضاته سبحانه، إن شر ما تصاب به الأمم، ويجعل أعدادها الهائلة، كثرة كغثاء السيل ويغري بها أعداءها، أن يصاب أبناؤها بالوهن، الذي يخدر النفس ويحطم العزائم ويقتل الروح المعنوية، وسر هذا الوهن كما عرفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحصر في أمرين ( حب الدنيا وكراهية الموت ) من حديث رواه أحمد وأبو داود، فإذا تعلم المسلم كيف يدع الدنيا للآخرة، ويبذل المال لله، ويؤخر هوى نفسه لمصلحة غيره أو حاجته فقد حطم الوهن وحقق القوة لنفسه، وبالتالي لأمته (57)
والإنسان إذا عضته أنياب الفقر، ورأي حوله من ينعمون بالخير ويعيشون في الرغد، ولا يمدون له يدا بالعون، بل يتركونه لمخالب الفقر وأنيابه، هذا الإنسان لا يسلم قلبه من الحسد والحقد والبغضاء والضغينة، على كل غني كانز لمال الله عن عباد الله، وعلى المجتمع الذي يهمله ولا يعني بأمر، والحسد داء فتاك وآفة قاتلة، وخسارة مدمرة للفرد والمجتمع، فالحسد خسارة على الدين، لأنه ينحرف بتفكير الحاسد، فيسئ الفهم في قسمة الله لأرزاق عباده، وقد يحمل القدر وز الظلم الاجتماعي الواقع بين الناس، ولهذا قال القرآن في وصف اليهود ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) سورة النساء آية 54 والحسد والبغضاء والأحقاد آفات تنخر في كيان الفرد الروحي والجسمي، وفي كيان الجماعة المادي والمعنوي، فالفرد الذي يغزو قلبه الحسد وتحتله الضغينة والكراهية، لن يكون إنسانا كامل الإيمان، لأن القلب لا يتسع لإيمان بالله وحقد على عباد الله، والحسد والكراهية داء جثماني كما هو داء نفسي أيضا، أنه يؤدي إلى الإصابة بأمراض وبيلة كقرحة المعدة وضغط الدم، كما إن الحسد والكراهية يضران بإنتاج المجتمع واقتصاده، فالحاسد الكاره إنسان مصاب بضعف الإنتاج أن لم يكن بعقمه، أنه بدل أن يعمل وينتج، يفرغ طاقته في الكراهية والبغضاء والحسد، فلا عجب أن سمي نبي الإسلام هذه الآفات ( داء الأمم ) وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته، أن تدب إليهم دبيب العقارب والحشرات السامة فقال ( دب إليكم داء الأمم من قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة أما أني لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ) رواه البزار بإسناد جيد والبيهقي وغيرهما0 ولم يحارب الإسلام هذه الآفات النفسية الاجتماعية الخطيرة بالوعظ المجرد، والإرشاد النظري فحسب، ولكنه عمل على اقتلاع أسبابها من الحياة، واستئصال جذورها من المجتمع، فليس يكفي الجائع أو المحروم أو العريان أن تلقي عليه درسا بليغا في خطر الحقد والحسد، وكل لحظة في حياته التعسة البائسة وحياة الناعمين المترفين من حوله، تلقنه دروسا عملية أخري كيف يحسد؟ وكيف يحقد؟ وكيف يغلي قلبه كراهية وغيظا ونقمة؟ ومن أجل ذلك فرض الإسلام الزكاة لييسر للعاطل العمل، ويضمن للعاجز العيش، ويقضي عن الغارم الدين، ويحمل ابن السبيل إلى أهله ووطنه فيشعر الناس أنهم أخوة بعضهم أولياء بعض، وأن مال الآخرين مال لهم عند الضرورة والحاجة، ويحس الفرد أن قوة أخيه قوة له إذا ضعف، وغنى أخيه مدد له إذا أعسر، وفي هذا الجو النقي يمتد ظل الإيمان بما يتبعه من حب و إيثار ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) رواه احمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس (58) فالزكاة طهارة لنفس الفقير من الحسد والضغن على ذلك الغني الكانز لمال الله عن عباد الله ( الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده ) سورة الهمزة آية 2و3 فمن شأن الإحسان أن يستميل قلب الإنسان كما أن من شأن الحرمان أن يملأ قلوب المحرومين بالبغضاء والأضغان، والناس إذا علموا في شخص رغبته في نفعهم، وسعيه في جلب الخير لهم، ودفع الضير عنهم أحبوه بالطبع، ومالت نفوسهم إليه لا محالة، جاء في الأثر ( جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها ) رواه ابن عدي في الكامل وأبو نعيم في الحيلة والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود مرفوعا بإسناد ضعيف0 كما إنهم إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله، وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرف إليهم من ذلك المال أكثر أمدوه بالدعاء، ولصارت تلك الدعوات سببا لبقاء ذلك الرجل في الخير، قال تعالى ( و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) سورة الرعد آية 17 وقال عليه الصلاة والسلام ( حصنوا أموالكم بالزكاة ) أبو داود في المراسيل ورواه الطبراني والبيهقي و غيرهما عن جماعة من الصحابة مرفوعا متصلا0 فالمزكي بزكاته لا يطهر ماله ويزكيه فحسب، إنما هو أيضا يطهر قلوب المحتاجين من فقراء المسلمين من الحسد وشروره، ويقارب بين قلوب المؤمنين فيحل التحاب محل البغضاء، والشكر محل الحسد، والتعاون محل التنافر والتناحر، ومن ثم فهي بذلك وقاية للمجتمع من عوامل الهدم والتفرقة والصراع والفتن الهوج، وهو ما تهدي إليه الآية الكريمة ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) سورة التوبة آية 103 كما إنها سببا في تواجد المجتمع المتكافل المتضامن المتآخي المتحاب، الذي ينطبق عليه قول الله عز وجل في سورة التوبة آية 71 ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله ) (59)

وفوق ذلك كله، فإن للزكاة أهداف وآثار في تحقيق المثل العليا التي تعيش بها ولها الأمة المسلمة، وفي رعاية مقومات الأمة الروحية التي يقوم عليها بناؤها وكيانها وتتميز شخصيتها، فالأمة بمقوماتها الروحية والحسية معا، ولا قيمة للمقومات الحسية في بناء الأمة ودعم كيانها بدون المقومات الروحية، لذا نرى الإسلام يحفل بالمقومات الروحية ويجعل الإنفاق من مال الجماعة على رعايتها ودعمها فريضة لازمة، وقد أصل الإسلام تلك المقومات الروحية في ثلاثة أصول أشارت إليها آية مصارف الزكاة 0الأول منها توفير الحرية لكافة أفراد المجتمع وفي هذا المقام ينص على فرضية فك الرقاب أي تحرير الأرقاء من ذل العبودية، بسهم مقرر من أموال المسلمين، وقد جاء هذا الحق في آية الزكاة في قوله تعالى ( وفي الرقاب ) والثاني منها بعث همم الأفراد إلى بذل المكرمات التي تحقق للمجتمع منافع أدبية أو حسية، أو ترد عنه مكروها يوشك أن يقع، ففي الأفراد طاقات لا حد لها في حب الخير، والاستعداد لمختلف الخدمات الاجتماعية، وتشجيع هذه الطاقات وهذه الهمم فيهم واجب، وعلى الجماعة أن تتعهد تلك الطاقات في نفوس أفرادها بما ينبهها ويثيرها وينميها، لا أن تترك للإهمال والجمود، يوهن قواها ويطمس ينابيعها، فقد يكون أحد هؤلاء بصدد مكرمة يبذل فيها ماله كله، ليدفع عن أمته بابا من الشر يوشك أن يهز أمنها، فإذا تركنه يواجه ثمرة عمله الذي قد يؤدي به إلى الفقر، فلن يعود إلى مروءة أخرى، إذا أتيح له أن ينهض من عثرته، ولن يقتدي به أحد، ولذا فالحق والعدل يقضيان بأن يكون لمثل هذا الذي غرم ما غرم نصيب في مال الجماعة، أو أن يكون في هذا المال سهم لإطلاق همم ذوي المروءة، وتشجيع حوافز الخير فيهم، فلا يضام أحدهم بالفقر، على ما أسلف للأمة من خير، وهذا ما قدره الإسلام وقضي به الحق سبحانه في آية الصدقات ( والغارمين ) والثالث منها رعاية العقائد والتعاليم التي نزلت لتزكية مبادئ الفطرة في الإنسان، وبخاصة إحكام الصلة بالله وتبصير الفرد بغايته من الحياة وبطوره الأخروي الذي هو صائر إليه، وهو ما جاء في قوله تعالى في الآية نفسها ( وفي سبيل الله ) وأخص ما كان في سبيل الله هو ما كان في صيانة العقيدة والدفاع عنها والتمكين لها وامتداد سلطانها
وبرعاية هذه الأصول الثلاثة تكون الزكاة قد قامت بدورها في تثبيت القيم العليا والمقومات المعنوية الأصلية التي يحرص عليها المجتمع المسلم بل يقوم عليها كيانه، وبهذا يتحقق التكامل والتساند في الحياة الإسلامية وفي كافة النظم الإسلامية، فالزكاة وأن كانت نظاما ماليا في الظاهر إلا أنها لا تنفصل عن العقيدة ولا عن العبادة، ولا عن القيم والأخلاق ولا عن السياسة والجهاد ولا عن مشكلات الفرد والمجتمع والحياة والأحياء (60)









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.65 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.02 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.47%)]