عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 18-02-2025, 05:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,603
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (10)
سُورَةُ الحجر
من صــ 36 الى صــ 45
الحلقة (415)




قوله تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فيه ثلاث مسائل :



الأولى : قال القاضي أبو بكر بن العربي : قال المفسرون بأجمعهم أقسم الله - تعالى - هاهنا بحياة محمد - صلى الله عليه وسلم - تشريفا له ، أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون . قلت : وهكذا قال القاضي عياض : أجمع أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - . وأصله ضم العين من العمر ولكنها فتحت لكثرة الاستعمال . ومعناه وبقائك يا محمد . وقيل وحياتك . وهذا نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف . قال أبو الجوزاء : ما أقسم الله بحياة أحد غير محمد - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه أكرم البرية عنده . قال ابن العربي : " ما الذي يمنع أن يقسم الله - سبحانه وتعالى - بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء ، وكل ما يعطيه الله - تعالى - للوط من فضل يؤتي ضعفيه من شرف لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه أكرم على الله منه ; أولا ترى أنه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم وأعطى ذلك لمحمد ، فإذا أقسم بحياة لوط فحياة محمد أرفع . ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكر لغير ضرورة " . قلت : ما قاله حسن ; فإنه كان يكون قسمه سبحانه بحياة محمد - صلى الله عليه وسلم - كلاما معترضا في قصة لوط . قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم في تفسيره : ويحتمل أن يقال : يرجع ذلك إلى قوم لوط ، أي كانوا في سكرتهم يعمهون . وقيل : لما وعظ لوط قومه وقال هؤلاء بناتي قالت الملائكة : يا لوط ، لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ولا يدرون ما يحل بهم صباحا . فإن قيل : فقد أقسم - تعالى - بالتين والزيتون وطور سينين ; فما في هذا ؟ قيل له : ما من شيء أقسم الله به إلا وذلك دلالة على فضله على ما يدخل في عداده ، فكذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون أفضل ممن هو في عداده . والعمر والعمر ( بضم العين وفتحها ) لغتان ومعناهما واحد ; إلا أنه لا يستعمل في القسم إلا بالفتح لكثرة الاستعمال . وتقول : عمرك الله ، أي أسأل الله تعميرك . ولعمرك رفع بالابتداء وخبره محذوف . المعنى لعمرك مما أقسم به .

[ ص: 37 ] الثانية : كره كثير من العلماء أن يقول الإنسان لعمري ; لأن معناه وحياتي . قال إبراهيم النخعي : يكره للرجل أن يقول لعمري ; لأنه حلف بحياة نفسه ، وذلك من كلام ضعفة الرجال . ونحو هذا قال مالك : إن المستضعفين من الرجال والمؤنثين يقسمون بحياتك وعيشك ، وليس من كلام أهل الذكران ، وإن كان الله سبحانه أقسم به في هذه القصة ، فذلك بيان لشرف المنزلة والرفعة لمكانه ، فلا يحمل عليه سواه ولا يستعمل في غيره . وقال ابن حبيب : ينبغي أن يصرف لعمرك في الكلام لهذه الآية . وقال قتادة : هو من كلام العرب . قال ابن العربي : وبه أقول ، لكن الشرع قد قطعه في الاستعمال ورد القسم إليه .

قلت . القسم ب " لعمرك ولعمري " ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها كثير .

قال النابغة :
لعمري وما عمري علي بهين لقد نطقت بطلا علي الأقارع


آخر :
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد


آخر :


أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان


آخر :


إذا رضيت علي بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها


وقال بعض أهل المعاني : لا يجوز هذا ; لأنه لا يقال لله عمر ، وإنما هو - تعالى - أزلي . ذكره الزهراوي .

الثالثة : قد مضى الكلام فيما يحلف به وما لا يجوز الحلف به في " المائدة " ، وذكرنا هناك قول أحمد بن حنبل فيمن أقسم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لزمته الكفارة . قال ابن خويز منداد : من جوز الحلف بغير الله - تعالى - مما يجوز تعظيمه بحق من الحقوق فليس يقول إنها يمين تتعلق بها كفارة ; إلا أنه من قصد الكذب كان ملوما ; لأنه في الباطن مستخف بما وجب عليه تعظيمه . قالوا : وقوله - تعالى - لعمرك أي وحياتك . وإذا أقسم الله - تعالى - بحياة نبيه فإنما أراد بيان [ ص: 38 ] التصريح لنا أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته . وعلى مذهب مالك معنى قوله : لعمرك والتين والزيتون . والطور وكتاب مسطور والنجم إذا هوى والشمس وضحاها لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد كل هذا معناه : وخالق التين والزيتون ، وبرب الكتاب المسطور ، وبرب البلد الذي حللت به ، وخالق عيشك وحياتك ، وحق محمد ; فاليمين والقسم حاصل به سبحانه لا بالمخلوق . قال ابن خويز منداد : ومن جوز اليمين بغير الله - تعالى - تأول قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحلفوا بآبائكم وقال : إنما نهى عن الحلف بالآباء الكفار ، ألا ترى أنه قال لما حلفوا بآبائهم : ( للجبل عند الله أكرم من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية ) . ومالك حمل الحديث على ظاهره . قال ابن خويز منداد : واستدل أيضا من جوز ذلك بأن أيمان المسلمين جرت منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا أن يحلفوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى أن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا حاكم أحدهم صاحبه قال : احلف لي بحق ما حواه هذا القبر ، وبحق ساكن هذا القبر ، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك بالحرم والمشاعر العظام ، والركن والمقام والمحراب وما يتلى فيه .

قوله تعالى : فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل قوله تعالى : فأخذتهم الصيحة مشرقين نصب على الحال ، أي وقت شروق الشمس . يقال : أشرقت الشمس أي أضاءت ، وشرقت إذا طلعت . وقيل : هما لغتان بمعنى . وأشرق القوم أي دخلوا في وقت شروق الشمس . مثل أصبحوا وأمسوا ، وهو المراد في الآية . وقيل : أراد شروق الفجر . وقيل : أول العذاب كان عند الصبح وامتد إلى شروق الشمس ، فكان تمام الهلاك عند ذلك . والله أعلم .

والصيحة العذاب . وتقدم ذكر سجيل

قوله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين [ ص: 39 ] فيه مسألتان :

الأولى : قوله - تعالى - : للمتوسمين روى الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ) من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( للمتفرسين ) وهو قول مجاهد . وروى أبو عيسى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله - ثم قرأ - إن في ذلك لآيات للمتوسمين . قال : هذا حديث غريب . وقال مقاتل وابن زيد : للمتوسمين للمتفكرين . الضحاك : للنظارين . قال الشاعر :


أوكلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلى عريفهم يتوسم


وقال قتادة : للمعتبرين . قال زهير :
وفيهن ملهى للصديق ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم


وقال أبو عبيدة : للمتبصرين ، والمعنى متقارب . وروى الترمذي الحكيم من حديث ثابت عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن لله - عز وجل - عبادا يعرفون الناس بالتوسم . قال العلماء : التوسم تفعل من الوسم ، وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها . يقال : توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسم ذلك فيه ; ومنه قول عبد الله بن رواحة للنبي - صلى الله عليه وسلم - :
إني توسمت فيك الخير أعرفه الله يعلم أني ثابت البصر


آخر :
توسمته لما رأيت مهابة عليه وقلت المرء من آل هاشم


[ ص: 40 ] واتسم الرجل إذا جعل لنفسة علامة يعرف بها . وتوسم الرجل طلب كلأ النسمي . وأنشد :


وأصبحن كالدوم النواعم غدوة على وجهة من ظاعن متوسم


وقال ثعلب : الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك . وأصل التوسم التثبت والتفكر ; مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره ، وذلك يكون بجودة القريحة وحدة الخاطر وصفاء الفكر . زاد غيره : وتفريغ القلب من حشو الدنيا ، وتطهيره من أدناس المعاصي وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا . روى نهشل عن ابن عباس للمتوسمين قال : لأهل الصلاح والخير . وزعمت الصوفية أنها كرامة . وقيل : بل هي استدلال بالعلامات ، ومن العلامات ما يبدو ظاهرا لكل أحد وبأول نظرة ، ومنها ما يخفى فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادئ النظر . قال الحسن : المتوسمون هم الذين يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار ; فهذا من الدلائل الظاهرة . ومثله قول ابن عباس ، : ( ما سألني أحد عن شيء إلا عرفت أفقيه هو أو غير فقيه ) . وروي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما : أراه نجارا ، وقال الآخر : بل حدادا ، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأل فقال : كنت نجارا وأنا اليوم حداد . وروي عن جندب بن عبد الله البجلي أنه أتى على رجل يقرأ القرآن فوقف فقال : من سمع سمع الله به ، ومن راءى راءى الله به . فقلنا له : كأنك عرضت بهذا الرجل ، فقال : إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم ويخرج غدا حروريا ; فكان رأس الحرورية ، واسمه مرداس . وروي عن الحسن البصري أنه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال : هذا سيد فتيان البصرة إن لم يحدث ، فكان من أمره من القدر ما كان ، حتى هجره عامة إخوانه . وقال لأيوب : هذا سيد فتيان أهل البصرة ، ولم يستثن . وروي عن الشعبي أنه قال لداود الأزدي وهو يماريه : إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك ، وكان كذلك . وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دخل عليه قوم من مذحج فيهم الأشتر ، فصعد فيه النظر وصوبه وقال : أيهم هذا ؟ قالوا : مالك بن الحارث . فقال : ما له قاتله الله ! إني لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا ; فكان منه في الفتنة ما كان . وروي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - : أن أنس بن مالك دخل عليه ، وكان قد مر بالسوق فنظر إلى امرأة ، فلما نظر إليه قال عثمان : ( يدخل أحدكم علي وفي عينيه أثر الزنا ! فقال له أنس : أوحيا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال لا ولكن برهان وفراسة وصدق ) . ومثله كثير عن الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم أجمعين - .

الثانية : قال أبو بكر بن العربي : " إذا ثبت أن التوسم والتفرس من مدارك المعاني فإن [ ص: 41 ] ذلك لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس . وقد كان قاضي القضاة الشامي المالكي ببغداد أيام كوني بالشام يحكم بالفراسة في الأحكام ، جريا على طريق إياس بن معاوية أيام كان قاضيا ، وكان شيخنا فخر الإسلام أبو بكر الشاشي صنف جزءا في الرد عليه ، كتبه لي بخطه وأعطانيه ، وذلك صحيح ; فإن مدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا وليست الفراسة منها

قوله تعالى : وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين

قوله تعالى : وإنها يعني قرى قوم لوط .

لبسبيل مقيم أي على طريق قومك يا محمد إلى الشام .

إن في ذلك لآية للمؤمنين أي لعبرة للمصدقين .

وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين يريد قوم شعيب ، كانوا أصحاب غياض ورياض وشجر مثمر . والأيكة : الغيضة ، وهي جماعة الشجر ، والجمع الأيك . ويروى أن شجرهم كان دوما وهو المقل . قال النابغة :
تجلو بقادمتي حمامة أيكة بردا أسف لثاته بالإثمد


وقيل : الأيكة اسم القرية . وقيل اسم البلدة . وقال أبو عبيدة : الأيكة وليكة مدينتهم ، بمنزلة بكة من مكة . وتقدم خبر شعيب وقومه .

وإنهما لبإمام مبين أي بطريق واضح في نفسه ، يعني مدينة قوم لوط وبقعة أصحاب الأيكة يعتبر بهما من يمر عليهما .

قوله تعالى : ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين الحجر ينطلق على معان : منها حجر الكعبة . ومنها الحرام ; قال الله - تعالى - : وحجرا محجورا أي حراما محرما . والحجر العقل ; قال الله - تعالى - : لذي حجر والحجر حجر القميص ; والفتح أفصح . والحجر الفرس الأنثى . والحجر ديار ثمود ، وهو المراد هنا ، أي المدينة ; قاله الأزهري . قتادة : وهي ما بين مكة وتبوك ، وهو الوادي الذي فيه ثمود . [ ص: 42 ] الطبري : هي أرض بين الحجاز والشام ، وهم قوم صالح . وقال : " المرسلين " وهو صالح وحده ، ولكن من كذب نبيا فقد كذب الأنبياء كلهم ; لأنهم على دين واحد في الأصول فلا يجوز التفريق بينهم . وقيل : كذبوا صالحا ومن تبعه ومن تقدمه من النبيين أيضا . والله أعلم

روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها . فقالوا : قد عجنا واستقينا . فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهريقوا الماء وأن يطرحوا ذلك العجين .

وفي الصحيح عن ابن عمر أن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحجر أرض ثمود ، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين ، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تردها الناقة . وروي أيضا عن ابن عمر قال : مررنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحجر فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ثم زجر فأسرع .

قلت : ففي هذه الآية التي بين الشارع حكمها وأوضح أمرها ثمان مسائل ، استنبطها العلماء واختلف في بعضها الفقهاء ،

فأولها : كراهة دخول تلك المواضع ، وعليها حمل بعض العلماء دخول مقابر الكفار ; فإن دخل الإنسان شيئا من تلك المواضع والمقابر فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاعتبار والخوف والإسراع . وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تدخلوا أرض بابل فإنها ملعونة .

[ مسألة ] . أمر النبي بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به لأجل أنه ماء سخط ، فلم يجز الانتفاع به فرارا من سخط الله . وقال اعلفوه الإبل .

قلت : وهكذا حكم الماء النجس وما يعجن به .

وثانيها : قال مالك : إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم ; إذ لا تكليف عليها ; وكذلك قال ، في العسل النجس : إنه يعلفه النحل .

وثالثها : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعلف ما عجن بهذا الماء الإبل ، ولم يأمر بطرحه كما أمر في لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر ; فدل على أن لحم الحمر [ ص: 43 ] أشد في التحريم وأغلظ في التنجيس . وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكسب الحجام أن يعلف الناضح والرقيق ، ولم يكن ذلك لتحريم ولا تنجيس . قال الشافعي : ولو كان حراما لم يأمره أن يطعمه رقيقه ; لأنه متعبد فيه كما تعبد في نفسه .

ورابعها : في أمره - صلى الله عليه وسلم - بعلف الإبل العجين دليل على جواز حمل الرجل النجاسة إلى كلابه ليأكلوها ; خلافا لمن منع ذلك من أصحابنا وقال : تطلق الكلاب عليها ولا يحملها إليهم .

وخامسها : أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يستقوا من بئر الناقة دليل على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين ، وإن تقادمت أعصارهم وخفيت آثارهم ; كما أن في الأول دليلا على بغض أهل الفساد وذم ديارهم وآثارهم . هذا ، وإن كان التحقيق أن الجمادات غير مؤاخذات ، لكن المقرون بالمحبوب محبوب ، والمقرون بالمكروه المبغوض مبغوض ; كما قال كثير :


أحب لحبها السودان حتى أحب لحبها سود الكلاب


وكما قال آخر :


أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما تلك الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا




وسادسها : منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع وقال : لا تجوز الصلاة فيها لأنها دار سخط وبقعة غضب . قال ابن العربي : فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله - صلى الله عليه وسلم - : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فلا يجوز التيمم بترابها ولا الوضوء من مائها ولا الصلاة فيها . وقد روى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلى في سبع مواطن : في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق ، وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق بيت الله . وفي الباب عن أبي مرثد وجابر وأنس : حديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي ، وقد تكلم في [ ص: 44 ] زيد بن جبيرة من قبل حفظه . وقد زاد علماؤنا : الدار المغصوبة والكنيسة والبيعة والبيت الذي فيه تماثيل ، والأرض المغصوبة أو موضعا تستقبل فيه نائما أو وجه رجل أو جدارا عليه نجاسة . قال ابن العربي : ومن هذه المواضع ما منع لحق الغير ، ومنه ما منع لحق الله - تعالى - ، ومنه ما منع لأجل النجاسة المحققة أو لغلبتها ; فما منع لأجل النجاسة إن فرش فيه ثوب طاهر كالحمام والمقبرة فيها أو إليها فإن ذلك جائز في المدونة . وذكر أبو مصعب عنه الكراهة . وفرق علماؤنا بين المقبرة القديمة والجديدة لأجل النجاسة ، وبين مقبرة المسلمين والمشركين ; لأنها دار عذاب وبقعة سخط كالحجر . وقال مالك في المجموعة : لا يصلي في أعطان الإبل وإن فرش ثوبا ; كأنه رأى لها علتين : الاستتار بها ونفارها فتفسد على المصلي صلاته ، فإن كانت واحدة فلا بأس ; كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ; في الحديث الصحيح . وقال مالك : لا يصلى على بساط فيه تماثيل إلا من ضرورة . وكره ابن القاسم الصلاة إلى القبلة فيها تماثيل ، وفي الدار المغصوبة ، فإن فعل أجزأه وذكر بعضهم عن مالك أن الصلاة في الدار المغصوبة لا تجزئ . قال ابن العربي : وذلك عندي بخلاف الأرض . فإن الدار لا تدخل إلا بإذن ، والأرض وإن كانت ملكا فإن المسجدية فيها قائمة لا يبطلها الملك .

قلت : الصحيح - إن شاء الله - الذي يدل عليه النظر والخبر أن الصلاة بكل موضع طاهر جائزة صحيحة . وما روي من قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذا واد به شيطان وقد رواه معمر عن الزهري فقال : واخرجوا عن الموضع الذي أصابتكم فيه الغفلة . وقول علي : نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة . وقوله - عليه السلام - حين مر بالحجر من ثمود : لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ونهيه عن الصلاة في معاطن الإبل إلى ذلك مما في هذا الباب ، فإنه مردود إلى الأصول المجتمع عليها والدلائل الصحيح مجيئها . قال الإمام الحافظ أبو عمر : المختار عندنا في هذا الباب أن ذلك الوادي وغيره من بقاع الأرض جائز أن يصلى فيها كلها ما لم تكن فيها نجاسة متيقنة تمنع من ذلك ، ولا معنى لاعتلال من اعتل بأن [ ص: 45 ] موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان ، وموضع ملعون لا يجب أن تقام فيه الصلاة ، وكل ما روي في هذا الباب من النهي عن الصلاة في المقبرة وبأرض بابل وأعطان الإبل وغير ذلك مما في هذا المعنى ، كل ذلك عندنا منسوخ ومدفوع لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - مخبرا : إن ذلك من فضائله ومما خص به ، وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص . قال - صلى الله عليه وسلم - : أوتيت خمسا - وقد روي ستا ، وقد روي ثلاثا وأربعا ، وهي تنتهي إلى أزيد من تسع ، قال فيهن - لم يؤتهن أحد قبلي بعثت إلى الأحمر والأسود ونصرت بالرعب وجعلت أمتي خير الأمم وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأوتيت الشفاعة وبعثت بجوامع الكلم وبينا أنا نائم أوتيت بمفاتيح الأرض فوضعت في يدي وأعطيت الكوثر . وختم بي النبيون رواه جماعة من الصحابة . وبعضهم يذكر بعضها ، ويذكر بعضهم ما لم يذكر غيره ، وهي صحاح كلها . وجائز على فضائله الزيادة وغير جائز فيها النقصان ; ألا ترى أنه كان عبدا قبل أن يكون نبيا ثم كان نبيا قبل أن يكون رسولا ; وكذلك روي عنه . وقال : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ثم نزلت ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . وسمع رجلا يقول : يا خير البرية ; فقال : ذاك إبراهيم وقال : لا يقولن أحدكم أنا خير من يونس بن متى وقال : السيد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - ثم قال بعد ذلك كله : أنا سيد ولد آدم ولا [ ص: 46 ] فخر .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.58 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.52%)]