
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (9)
سُورَةُ الرعد
من صــ 276 الى صــ 285
الحلقة (405)
قوله تعالى : الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب قوله تعالى : الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم ابتداء وخبره . وقيل : معناه لهم طوبى ، ف " طوبى " رفع بالابتداء ، ويجوز أن يكون موضعه نصبا على تقدير : جعل لهم طوبى ، ويعطف عليه " وحسن مآب " على الوجهين المذكورين ، فترفع أو تنصب . وذكر عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن أبي يزيد البكالي عن عتبة بن [ ص: 276 ] عبد السلمي قال : ( جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الجنة وذكر الحوض فقال : فيها فاكهة ؟ قال : نعم شجرة تدعى طوبى قال : يا رسول الله ! أي شجر أرضنا تشبه ؟ قال لا تشبه شيئا من شجر أرضك ، أأتيت الشام هناك شجرة تدعى الجوزة تنبت على ساق ويفترش أعلاها . قال : يا رسول الله ! فما عظم أصلها ؟ ! قال : لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما . وذكر الحديث ، وقد كتبناه بكماله في أبواب الجنة من كتاب " التذكرة " ، والحمد لله . وذكر ابن المبارك قال : أخبرنا معمر عن الأشعث عن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : في الجنة شجرة يقال لها طوبى ; يقول الله تعالى لها : تفتقي لعبدي عما شاء ; فتفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما شاء ، وتفتق عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما شاء ، وعن النجائب والثياب . وذكر ابن وهب من حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة الباهلي قال : طوبى شجرة في الجنة ليس منها دار إلا وفيها غصن منها ، ولا طير حسن إلا هو فيها ، ولا ثمرة إلا هي منها ; وقد قيل : إن أصلها في قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة ، ثم تنقسم فروعها على منازل أهل الجنة ، كما انتشر منه العلم والإيمان على جميع أهل الدنيا . وقال ابن عباس : طوبى لهم فرح لهم وقرة عين ; وعنه أيضا أن طوبى اسم الجنة بالحبشية ; وقاله سعيد بن جبير . الربيع بن أنس : هو البستان بلغة الهند ; قال القشيري : إن صح هذا فهو وفاق بين اللغتين . وقال قتادة : طوبى لهم حسنى لهم . عكرمة : نعمى لهم . إبراهيم النخعي : خير لهم ، وعنه أيضا كرامة من الله لهم . الضحاك : غبطة لهم . النحاس : وهذه الأقوال متقاربة ; لأن طوبى فعلى من الطيب ; أي العيش الطيب لهم ; وهذه الأشياء ترجع إلى الشيء الطيب . وقال الزجاج : طوبى فعلى من الطيب ، وهي الحالة المستطابة لهم ; والأصل طيبى ، فصارت الياء واوا لسكونها وضم ما قبلها ، كما قالوا : موسر وموقن . قلت : والصحيح أنها شجرة ; للحديث المرفوع الذي ذكرناه ، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي ; ذكره أبو عمر في التمهيد ، ومنه نقلناه ; وذكره أيضا الثعلبي في تفسيره ; وذكر أيضا [ ص: 277 ] المهدوي والقشيري عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة ومن أراد زيادة على هذه الأخبار فليطالع الثعلبي . وقال ابن عباس : طوبى شجرة في الجنة أصلها في دار علي ، وفي دار كل مؤمن منها غصن . وقال أبو جعفر محمد بن علي : ( سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى : طوبى لهم وحسن مآب قال : شجرة أصلها في داري وفروعها في الجنة ثم سئل عنها مرة أخرى فقال : شجرة أصلها في دار علي وفروعها في الجنة . فقيل له : يا رسول الله ! سئلت عنها فقلت : أصلها في داري وفروعها في الجنة ثم سئلت عنها فقلت : أصلها في دار علي وفروعها في الجنة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن داري ودار علي غدا في الجنة واحدة في مكان واحد وعنه - صلى الله عليه وسلم - : هي شجرة أصلها في داري وما من دار من دوركم إلا مدلى فيها غصن منها وحسن مآب آب إذا رجع . وقيل : تقدير الكلام الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله وعملوا الصالحات طوبى لهم .
قوله تعالى : كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب
قوله تعالى : كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم أي أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء من قبلك ; قاله الحسن . وقيل : شبه الإنعام على من أرسل إليه محمد - عليه السلام - بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله .
لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك يعني القرآن .
وهم يكفرون بالرحمن قال مقاتل وابن جريج : نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا أن يكتبوا كتاب الصلح ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو والمشركون : ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب ; اكتب باسمك اللهم ، وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون ; فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي : اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال مشركو قريش : لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك وصددناك لقد ظلمناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ; فقال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 278 ] دعنا نقاتلهم ; فقال : لا ولكن اكتب ما يريدون فنزلت . وقال ابن عباس : نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن فنزلت . قل هو ربي لا إله إلا هو
قل هو ربي لا إله إلا هو قل لهم يا محمد : الذي أنكرتم . هو ربي لا إله إلا هو ولا معبود سواه ; هو واحد بذاته ; وإن اختلفت أسماء صفاته .
عليه توكلت واعتمدت ووثقت . وإليه متاب أي مرجعي غدا ، واليوم أيضا عليه توكلت ووثقت ، رضا بقضائه ، وتسليما لأمره . وقيل : سمع أبو جهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو في الحجر ويقول : ( يا الله يا رحمن ) فقال : كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إلهين ; فنزلت هذه الآية ، ونزل . قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن .
قوله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد
قوله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال هذا متصل بقول : لولا أنزل عليه آية من ربه . وذلك أن نفرا من مشركي مكة فيهم أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية المخزوميان جلسوا خلف الكعبة ، ثم أرسلوا إلى رسول الله فأتاهم ; فقال له عبد الله : إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن ، فأذهبها عنا حتى تنفسح ; فإنها أرض ضيقة ، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا ، حتى نغرس ونزرع ; فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه ، وسخر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا وحوائجنا ، ثم نرجع من يومنا ; فقد كان سليمان سخرت له الريح كما زعمت ; فلست بأهون على ربك من سليمان بن داود ، وأحي لنا قصيا جدك ، أو من شئت أنت من موتانا نسأله ; أحق ما تقول أنت أم باطل ؟ فإن عيسى كان يحيي الموتى ، ولست بأهون على الله منه ; فأنزل الله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الآية ; قال معناه الزبير بن العوام ومجاهد وقتادة والضحاك ; [ ص: 279 ] والجواب محذوف تقديره : لكان هذا القرآن ، لكن حذف إيجازا ، لما في ظاهر الكلام من الدلالة عليه ; كما قال امرؤ القيس :
فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا
يعني لهان علي ; هذا معنى قول قتادة ; قال : لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم . وقيل : الجواب متقدم ، وفي الكلام تقديم وتأخير ; أي وهم يكفرون بالرحمن لو أنزلنا القرآن وفعلنا بهم ما اقترحوا . الفراء : يجوز أن يكون الجواب لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن . الزجاج : ولو أن قرآنا إلى قوله : الموتى لما آمنوا ، والجواب المضمر هنا ما أظهر في قوله : " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة " إلى قوله : " ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " .
بل لله الأمر جميعا أي هو المالك لجميع الأمور ، الفاعل لما يشاء منها ، فليس ما تلتمسونه مما يكون بالقرآن ، إنما يكون بأمر الله .
قوله تعالى : أفلم ييأس الذين آمنوا قال الفراء قال الكلبي : " ييأس " بمعنى يعلم ، لغة النخع ; وحكاه القشيري عن ابن عباس ; أي أفلم يعلموا ; وقاله الجوهري في الصحاح . وقيل : هو لغة هوازن ; أي أفلم يعلم ; عن ابن عباس ومجاهد والحسن . وقال أبو عبيدة : أفلم يعلموا ويتبينوا ، وأنشد في ذلك أبو عبيدة لمالك بن عوف النصري :
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
ييسرونني من الميسر ، وقد تقدم في " البقرة " ويروى يأسرونني من الأسر . وقال رباح بن عدي :
ألم ييئس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
في كتاب الرد " أني أنا ابنه " وكذا ذكره الغزنوي : ألم يعلم ; والمعنى على هذا : أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات . وقيل : هو من اليأس المعروف ; أي أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار ، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم ; لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات طمعا في إيمان الكفار . وقرأ علي وابن عباس : " أفلم يتبين الذين آمنوا " من البيان . قال القشيري : وقيل لابن عباس المكتوب " أفلم ييئس " قال : أظن الكاتب كتبها وهو ناعس ; أي زاد بعض الحروف حتى صار [ ص: 280 ] ييئس . قال أبو بكر الأنباري : روي عن عكرمة عن ابن أبي نجيح أنه قرأ - " أفلم يتبين الذين آمنوا " وبها احتج من زعم أنه الصواب في التلاوة ; وهو باطل عن ابن عباس ، لأن مجاهدا وسعيد بن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس ، على ما هو في المصحف بقراءة أبي عمرو وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس ; ثم إن معناه : أفلم يتبين ; فإن كان مراد الله تحت اللفظة التي خالفوا بها الإجماع فقراءتنا تقع عليها ، وتأتي بتأويلها ، وإن أراد الله المعنى الآخر الذي اليأس فيه ليس من طريق العلم فقد سقط مما أوردوا ; وأما سقوطه يبطل القرآن ، ولزوم أصحابه البهتان . " أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " " أن " مخففة من الثقيلة ، أي أنه لو يشاء الله " لهدى الناس جميعا " وهو يرد على القدرية وغيرهم .
قوله تعالى : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أي داهية تفجؤهم بكفرهم وعتوهم ، ويقال : قرعه أمر إذا أصابه ، والجمع قوارع ; والأصل في القرع الضرب ; قال :
أفنى تلادي وما جمعت من نشب قرع القواقيز أفواه الأباريق
أي لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد ، أو من قتل أو من أسر أو جدب ، أو غير ذلك من العذاب والبلاء ; كما نزل بالمستهزئين ، وهم رؤساء المشركين . وقال عكرمة عن ابن عباس : القارعة النكبة . وقال ابن عباس أيضا وعكرمة : القارعة الطلائع والسرايا التي كان ينفذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم . أو تحل أي القارعة . قريبا من دارهم قاله قتادة والحسن . وقال ابن عباس : أو تحل أنت قريبا من دارهم . وقيل : نزلت الآية بالمدينة ; أي لا تزال تصيبهم القوارع فتنزل بساحتهم أو بالقرب منهم كقرى المدينة ومكة .
" حتى يأتي وعد الله " في فتح مكة ; قاله مجاهد وقتادة وقيل : نزلت بمكة ; أي تصيبهم القوارع ، وتخرج عنهم إلى المدينة يا محمد ، فتحل قريبا من دارهم ، أو تحل بهم محاصرا لهم ; وهذه المحاصرة لأهل الطائف ، ولقلاع خيبر ، ويأتي وعد الله بالإذن لك في قتالهم وقهرهم . وقال الحسن : وعد الله يوم القيامة .
قوله تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق
[ ص: 281 ] قوله تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم تقدم معنى الاستهزاء في " البقرة " ومعنى الإملاء في " آل عمران " أي سخر بهم ، وأزري عليهم ; فأمهلت الكافرين مدة ليؤمن من كان في علمي أنه يؤمن منهم ; فلما حق القضاء أخذتهم بالعقوبة .
فكيف كان عقاب أي فكيف رأيتم ما صنعت بهم ، فكذلك أصنع بمشركي قومك .
قوله تعالى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ليس هذا القيام القيام الذي هو ضد القعود ، بل هو بمعنى التولي لأمور الخلق ; كما يقال : قام فلان بشغل كذا ; فإنه قائم على كل نفس بما كسبت أي يقدرها على الكسب ، ويخلقها ويرزقها ويحفظها ويجازيها على عملها ; فالمعنى : أنه حافظ لا يغفل ، والجواب محذوف ; والمعنى : أفمن هو حافظ لا يغفل كمن يغفل . وقيل : أفمن هو قائم أي عالم ; قاله الأعمش . قال الشاعر :
فلولا رجال من قريش أعزة سرقتم ثياب البيت والله قائم
أي عالم ; فالله عالم بكسب كل نفس . وقيل : المراد بذلك الملائكة الموكلون ببني آدم ، عن الضحاك .
وجعلوا حال ; أي أوقد جعلوا ، أو عطف على استهزئ أي استهزءوا وجعلوا ; أي سموا لله شركاء يعني أصناما جعلوها آلهة . قل سموهم أي قل لهم يا محمد : سموهم أي بينوا أسماءهم ، على جهة التهديد ; أي إنما يسمون : اللات والعزى ومناة وهبل .
أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض " أم " استفهام توبيخ ، أي أتنبئونه ; وهو على التحقيق عطف على استفهام متقدم في المعنى ; لأن قوله : سموهم معناه : ألهم أسماء الخالقين . أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ؟ . وقيل : المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه .
أم بظاهر من القول يعلمه ؟ فإن قالوا : بباطن لا يعلمه أحالوا ، وإن قالوا : بظاهر يعلمه فقل لهم : سموهم ; فإذا سموهم اللات والعزى فقل لهم : إن الله لا يعلم لنفسه شريكا . وقيل : أم تنبئونه عطف على قوله : أفمن هو قائم أي أفمن هو قائم ، أم تنبئون الله بما لا يعلم ; أي أنتم تدعون لله شريكا ، والله لا يعلم لنفسه شريكا ; أفتنبئونه بشريك له في [ ص: 282 ] الأرض وهو لا يعلمه ! وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك في غير الأرض لأنهم ادعوا له شركاء في الأرض . ومعنى أم بظاهر من القول : الذي أنزل الله على أنبيائه . وقال قتادة : معناه بباطل من القول ; ومنه قول الشاعر :
أعيرتنا ألبانها ولحومها وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر
أي باطل . وقال الضحاك : بكذب من القول . ويحتمل خامسا - أن يكون الظاهر من القول حجة يظهرونها بقولهم ; ويكون معنى الكلام : أتخبرونه بذلك مشاهدين ، أم تقولون محتجين .
بل زين للذين كفروا مكرهم أي دع هذا ! بل زين للذين كفروا مكرهم قيل : استدراك . على هذا الوجه ، أي ليس لله شريك ، لكن زين للذين كفروا مكرهم . وقرأ ابن عباس ومجاهد " بل زين للذين كفروا مكرهم " مسمى الفاعل ، وعلى قراءة الجماعة فالذي زين للكافرين مكرهم الله تعالى ، وقيل : الشيطان . ويجوز أن يسمى الكفر مكرا ; لأن مكرهم بالرسول كان كفرا .
وصدوا عن السبيل أي صدهم الله ; وهي قراءة حمزة والكسائي . الباقون بالفتح ; أي صدوا غيرهم ; واختاره أبو حاتم ، اعتبارا بقوله : ويصدون عن سبيل الله وقوله : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام . وقراءة الضم أيضا حسنة في " زين " و " صدوا " لأنه معلوم أن الله فاعل ، ذلك في مذهب أهل السنة ; ففيه إثبات القدر ، وهو اختيار أبي عبيد . وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة - " وصدوا " بكسر الصاد ; وكذلك . " هذه بضاعتنا ردت إلينا " بكسر الراء أيضا على ما لم يسم فاعله ; وأصلها صددوا ورددت ، فلما أدغمت الدال الأولى في الثانية نقلت حركتها على ما قبلها فانكسر .
" ومن يضلل الله " بخذلانه .
فما له من هاد أي موفق ; وفي هذا إثبات قراءة الكوفيين ومن تابعهم ; لقوله : ، ومن يضلل الله فكذلك قوله : " وصدوا " . ومعظم القراء يقفون على الدال من غير الياء ; وكذلك " وال " و " واق " ; لأنك تقول في الرجل : هذا قاض ووال وهاد ، فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين . وقرئ " فما له من هادي " و " والي " و " واقي " بالياء ; وهو على لغة من يقول : هذا داعي وواقي بالياء ; لأن حذف الياء في حالة الوصل لالتقائها مع التنوين ، وقد أمنا هذا في الوقف ; فردت الياء فصار هادي ووالي وواقي . وقال الخليل في نداء قاض : يا قاضي بإثبات الياء ; إذ لا تنوين مع النداء ، كما لا تنوين في نحو الداعي والمتعالي .
[ ص: 283 ] قوله تعالى : " لهم عذاب في الحياة الدنيا " أي للمشركين الصادين : بالقتل والسبي والإسار ، وغير ذلك من الأسقام والمصائب .
ولعذاب الآخرة أشق أي أشد ; من قولك : شق علي كذا يشق .
وما لهم من الله من واق أي مانع يمنعهم من عذابه ولا دافع . و " من " زائدة .
قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار
قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون اختلف النحاة في رفع " مثل " فقال سيبويه : ارتفع بالابتداء والخبر محذوف ; والتقدير : وفيما يتلى عليكم مثل الجنة . وقال الخليل : ارتفع بالابتداء وخبره تجري من تحتها الأنهار أي صفة الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ; كقولك : قولي يقوم زيد ; فقولي مبتدأ ، ويقوم زيد خبره ; والمثل بمعنى الصفة موجود ; قال الله تعالى : ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل وقال : ولله المثل الأعلى أي الصفة العليا ; وأنكره أبو علي وقال : لم يسمع مثل بمعنى الصفة ; إنما معناه الشبه ; ألا تراه يجري مجراه في مواضعه ومتصرفاته ، كقولهم : مررت برجل مثلك ; كما تقول : مررت برجل شبهك ; قال : ويفسد أيضا من جهة المعنى ; لأن مثلا إذا كان معناه صفة كان تقدير الكلام : صفة الجنة التي فيها أنهار ، وذلك غير مستقيم ; لأن الأنهار في الجنة نفسها لا صفتها وقال الزجاج : مثل الله - عز وجل - لنا ما غاب عنا بما نراه ; والمعنى : مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ; وأنكرهأبو علي فقال : لا يخلو المثل على قوله أن يكون الصفة أو الشبه ، وفي كلا الوجهين لا يصح ما قاله ; لأنه إذا كان بمعنى الصفة لم يصح ، لأنك إذا قلت : صفة الجنة جنة ، فجعلت الجنة خبرا لم يستقم ذلك ; لأن الجنة لا تكون الصفة ، وكذلك أيضا شبه الجنة جنة ; ألا ترى أن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين ، وهو حدث ; والجنة غير حدث ; فلا يكون الأول الثاني . وقال الفراء : المثل مقحم للتأكيد ; والمعنى : الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ; والعرب تفعل ذلك كثيرا بالمثل ; كقوله : ليس كمثله شيء : أي ليس هو كشيء . وقيل التقدير : صفة الجنة التي وعد [ ص: 284 ] المتقون صفة جنة تجري من تحتها الأنهار وقيل معناه : شبه الجنة التي وعد المتقون في الحسن والنعمة والخلود كشبه النار في العذاب والشدة والخلود ; قاله مقاتل .
أكلها دائم لا ينقطع ; وفي الخبر : إذا أخذت ثمرة عادت مكانها أخرى وقد بيناه في " التذكرة " . وظلها أي وظلها كذلك ; فحذف ; أي ثمرها لا ينقطع ، وظلها لا يزول ; وهذا رد على الجهمية في زعمهم أن نعيم الجنة يزول ويفنى .
تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار أي عاقبة أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها .
قوله تعالى : والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب
قوله تعالى : والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك أي بعض من أوتي الكتاب يفرح بالقرآن ، كابن سلام وسلمان ، والذين جاءوا من الحبشة ; فاللفظ عام ، والمراد الخصوص . وقال قتادة : هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يفرحون بنور القرآن ; وقاله مجاهد وابن زيد . وعن مجاهد أيضا أنهم مؤمنو أهل الكتاب . وقيل : هم جماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى يفرحون بنزول القرآن لتصديقه كتبهم . وقال أكثر العلماء : كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في أول ما أنزل ، فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة ; فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ; فأنزل الله تعالى : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى فقالت قريش : ما بال محمد يدعو إلى إله واحد فأصبح اليوم يدعو إلهين ، الله والرحمن ! والله ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب ; فنزلت : وهم بذكر الرحمن هم كافرون وهم يكفرون بالرحمن ففرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن ; فأنزل الله تعالى : والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك .
ومن الأحزاب يعني مشركي مكة ، ومن لم يؤمن من اليهود والنصارى والمجوس . وقيل : هم العرب المتحزبون على النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : ومن أعداء المسلمين من ينكر بعض ما في القرآن ; لأن فيهم من كان يعترف ببعض الأنبياء ، وفيهم من كان يعترف بأن الله خالق السماوات والأرض .
قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به [ ص: 285 ] قراءة الجماعة بالنصب عطفا على " أعبد " . وقرأ أبو خالد بالرفع على الاستئناف أي أفرده بالعبادة وحده لا شريك له ، وأتبرأ عن المشركين ، ومن قال : المسيح ابن الله وعزير ابن الله ، ومن اعتقد التشبيه كاليهود .
إليه أدعو أي إلى عبادته أدعو الناس .
وإليه مآب أي أرجع في أموري كلها .
قوله تعالى : وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق
قوله تعالى : وكذلك أنزلناه حكما عربيا أي وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الأحزاب كذلك أنزلناه حكما عريبا ; وإذا وصفه بذلك لأنه أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو عربي ، فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا . وقيل نظم الآية : وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا إليك القرآن حكما عربيا ، أي بلسان العرب ; ويريد بالحكم ما فيه من الأحكام . وقيل : أراد بالحكم العربي القرآن كله ; لأنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم .
ولئن اتبعت أهواءهم أي أهواء المشركين في عبادة ما دون الله ، وفي التوجيه إلى غير الكعبة .
بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي أي ناصر ينصرك . ولا واق يمنعك من عذابه ; والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد الأمة .
