
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (9)
سُورَةُ الرعد
من صــ 246 الى صــ 255
الحلقة (402)
قوله تعالى : وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون
فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : وفي الأرض قطع متجاورات في الكلام حذف ; المعنى :
[ ص: 246 ] وفي الأرض قطع متجاورات وغير متجاورات ; كما قال : سرابيل تقيكم الحر والمعنى : وتقيكم البرد ، ثم حذف لعلم السامع . والمتجاورات المدن وما كان عامرا ، وغير متجاورات الصحاري وما كان غير عامر .
الثانية : قوله تعالى : " متجاورات " أي قرى متدانيات ، ترابها واحد ، وماؤها واحد ، وفيها زروع وجنات ، ثم تتفاوت في الثمار والتمر ; فيكون البعض حلوا ، والبعض حامضا ; والغصن الواحد من الشجرة قد يختلف الثمر فيه من الصغر والكبر واللون والمطعم ، وإن انبسط الشمس والقمر على الجميع على نسق واحد ; وفي هذا أدل دليل على وحدانيته وعظم صمديته ، والإرشاد لمن ضل عن معرفته ; فإنه نبه سبحانه بقوله : يسقى بماء واحد على أن ذلك كله ليس إلا بمشيئته وإرادته ، وأنه مقدور بقدرته ; وهذا أدل دليل على بطلان القول بالطبع ; إذ لو كان ذلك بالماء والتراب والفاعل له الطبيعة لما وقع الاختلاف . وقيل : وجه الاحتجاج أنه أثبت التفاوت بين البقاع ; فمن تربة عذبة ، ومن تربة سبخة مع تجاورهما ; وهذا أيضا من دلالات كمال قدرته ; جل وعز تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا .
الثالثة : ذهبت الكفرة - لعنهم الله - إلى أن كل حادث يحدث بنفسه لا من صانع ; وادعوا ذلك في الثمار الخارجة من الأشجار ، وقد أقروا بحدوثها ، وأنكروا محدثها ، وأنكروا الأعراض . وقالت فرقة بحدوث الثمار لا من صانع ، وأثبتوا للأعراض فاعلا ; والدليل على أن الحادث لا بد له من محدث أنه يحدث في وقت ، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر ; فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به ، لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه ; وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أن اختصاصه به لأجل مخصص خصصه به ، ولولا تخصيصه إياه به لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده ; واستيفاء هذا في علم الكلام .
الرابعة : قوله تعالى : وجنات من أعناب وقرأ الحسن " وجنات " بكسر التاء ، على التقدير : وجعل فيها جنات ، فهو محمول على قوله : " وجعل فيها رواسي " . ويجوز أن تكون مجرورة على الحمل على " كل " التقدير : ومن كل الثمرات ، ومن جنات . الباقون " جنات " بالرفع على تقدير : وبينهما جنات .
" وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان " بالرفع . ابن كثير وأبو عمرو وحفص عطفا على الجنات ; أي على تقدير : وفي الأرض زرع ونخيل . وخفضها الباقون نسقا على الأعناب ; فيكون الزرع والنخيل من الجنات ; ويجوز أن يكون معطوفا على " كل " حسب ما تقدم في " وجنات " . وقرأ مجاهد والسلمي وغيرهما " صنوان " بضم الصاد ، [ ص: 247 ] الباقون بالكسر ; وهما لغتان ; وهما جمع صنو ، وهي النخلات والنخلتان ، يجمعهن أصل واحد ، وتتشعب منه رءوس فتصير نخيلا ; نظيرها قنوان ، واحدها قنو وروى أبو إسحاق عن البراء قال : الصنوان المجتمع ، وغير الصنوان المتفرق ; النحاس : وكذلك هو في اللغة ; يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر صنوان . والصنو المثل ; ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : عم الرجل صنو أبيه . ولا فرق فيها بين التثنية والجمع ولا بالإعراب ; فتعرب نون الجمع ، وتكسر نون التثنية ; قال الشاعر :
العلم والحلم خلتا كرم للمرء زين إذا هما اجتمعا صنوان لا يستتم حسنهما
إلا بجمع ذا وذاك معا
الخامسة : قوله تعالى : " يسقى بماء واحد " كصالح بني آدم وخبيثهم ; أبوهم واحد ; قاله النحاس والبخاري . وقرأ عاصم وابن عامر : يسقى بالياء ، أي يسقى ذلك كله . وقرأ الباقون بالتاء ، لقوله : جنات واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة ; قال أبو عمرو : والتأنيث أحسن .
" ونفضل بعضها على بعض في الأكل " ولم يقل بعضه . وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما " ويفضل " بالياء ردا على قوله : " يدبر الأمر " و " يفصل " و " يغشي " الباقون بالنون على معنى : ونحن نفضل . وروى جابر بن عبد الله قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لعلي - رضي الله عنه - : الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الأرض قطع متجاورات حتى بلغ قوله : يسقى بماء واحد و " الأكل " الثمر . قال ابن عباس : يعني الحلو والحامض والفارسي والدقل . وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في قوله تعالى : " ونفضل بعضها على بعض في الأكل " قال : الفارسي والدقل والحلو والحامض ) ذكره الثعلبي . قال الحسن : المراد بهذه الآية المثل ; ضربه الله تعالى لبني آدم ، أصلهم واحد ، وهم مختلفون في الخير والشر . والإيمان والكفر ، كاختلاف الثمار التي تسقى بماء واحد ; ومنه قول الشاعر :
الناس كالنبت والنبت ألوان منها شجر الصندل والكافور والبان
[ ص: 248 ] ومنها شجر ينضح طول الدهر قطران
" إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " أي لعلامات لمن كان له قلب يفهم عن الله تعالى .
قوله تعالى : وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
قوله تعالى : وإن تعجب فعجب قولهم أي إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعدما كنت عندهم الصادق الأمين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث ; والله تعالى لا يتعجب ، ولا يجوز عليه التعجب ; لأنه تغير النفس بما تخفى أسبابه ، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون . وقيل المعنى : أي إن عجبت يا محمد من إنكارهم الإعادة مع إقرارهم بأني خالق السماوات والأرض والثمار المختلفة من الأرض الواحدة فقولهم عجب يعجب منه الخلق ; لأن الإعادة في معنى الابتداء . وقيل : الآية في منكري الصانع ; أي إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بد له من مغير فهو محل التعجب ; ونظم الآية يدل على الأول والثاني ; لقوله : أئذا كنا ترابا أي أنبعث إذا كنا ترابا ؟ !
" أئنا لفي خلق جديد " وقرئ " إنا " .
و " الأغلال " جمع غل ; وهو طوق تشد به اليد إلى العنق ، أي يغلون يوم القيامة ; بدليل قوله : إذ الأغلال في أعناقهم إلى قوله : ثم في النار يسجرون . وقيل : الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم .
قوله : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد
قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة أي لفرط إنكارهم وتكذيبهم يطلبون العذاب ; قيل هو قولهم : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء . [ ص: 249 ] قال قتادة : طلبوا العقوبة قبل العافية ; وقد حكم سبحانه بتأخير العقوبة عن هذه الأمة إلى يوم القيامة . وقيل : قبل الحسنة أي قبل الإيمان الذي يرجى به الأمان والحسنات .
و " المثلات " ; الواحدة مثلة . وروي عن الأعمش أنه قرأ " المثلات " بضم الميم وإسكان الثاء ; وهذا جمع مثلة ، ويجوز " المثلات " تبدل من الضمة فتحة لثقلها ، وقيل : يؤتى بالفتحة عوضا من الهاء . وروي عن الأعمش أنه قرأ " المثلات " بفتح الميم وإسكان الثاء ; فهذا جمع مثلة ، ثم حذف الضمة لثقلها ; ذكره جميعه النحاس - رحمه الله - . وعلى قراءة الجماعة واحده مثلة ، نحو صدقة وصدقة ; وتميم تضم الثاء والميم جميعا ، واحدها على لغتهم مثلة ، بضم الميم وجزم الثاء ; مثل : غرفة وغرفات ، والفعل منه مثلت به أمثل مثلا ، بفتح الميم وسكون الثاء .
وإن ربك لذو مغفرة أي لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا ، وعن المذنبين إذا تابوا . وقال ابن عباس : أرجى آية في كتاب الله تعالى وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم . " وإن ربك لشديد العقاب " إذا أصروا على الكفر . وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال : لما نزلت : وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه لما هنأ أحدا عيش ولولا عقابه ووعيده وعذابه لاتكل كل أحد .
قوله تعالى : ويقول الذين كفروا لولا أي هلا " أنزل عليه آية من ربه " . لما اقترحوا الآيات وطلبوها قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : " إنما أنت منذر " أي معلم . " ولكل قوم هاد " أي نبي يدعوهم إلى الله . وقيل : الهادي الله ; أي عليك الإنذار ، والله هادي كل قوم إن أراد هدايتهم .
قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال
فيه ثمان مسائل :
الأولى : قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى أي من ذكر وأنثى ، صبيح وقبيح ، صالح وطالح ; وقد تقدم في سورة " الأنعام " أن الله سبحانه منفرد بعلم الغيب وحده لا شريك [ ص: 250 ] له ; وذكرنا هناك حديث البخاري عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : مفاتيح الغيب خمس الحديث . وفيه لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله .
واختلف العلماء في تأويل قوله : وما تغيض الأرحام وما تزداد فقال قتادة : المعنى ما تسقط قبل التسعة الأشهر ، وما تزداد فوق التسعة ; وكذلك قال ابن عباس . وقال مجاهد : إذا حاضت المرأة في حملها كان ذلك نقصانا في ولدها ; فإن زادت على التسعة كان تماما لما نقص ; وعنه : الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم ، والزيادة ما تزداد منه . وقيل : الغيض والزيادة . يرجعان إلى الولد ، كنقصان إصبع أو غيرها ، وزيادة إصبع أو غيرها . وقيل : الغيض انقطاع دم الحيض . " وما تزداد " بدم النفاس بعد الوضع .
الثانية : في هذه الآية دليل على أن الحامل تحيض ; وهو مذهب مالك والشافعي في أحد قوليه . وقال عطاء والشعبي وغيرهما : لا تحيض ; وبه قال أبو حنيفة ; ودليله الآية . قال ابن عباس في تأويلها : إنه حيض الحبالى ، وكذلك روي عن عكرمة ومجاهد ; وهو قول عائشة ، وأنها كانت تفتي النساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة ; والصحابة إذ ذاك متوافرون ، ولم ينكر منهم أحد عليها ، فصار كالإجماع ; قاله ابن القصار . وذكر أن رجلين ، تنازعا ولدا ، فترافعا إلى عمر - رضي الله عنه - فعرضه على القافة ، فألحقه القافة بهما ، فعلاه عمر بالدرة ، وسأل نسوة من قريش فقال : انظرن ما شأن هذا الولد ؟ فقلن : إن الأول خلا بها وخلاها ، فحاضت على الحمل ، فظنت أن عدتها انقضت ; فدخل بها الثاني ، فانتعش الولد بماء الثاني ; فقال عمر : الله أكبر ! وألحقه بالأول ، ولم يقل إن الحامل لا تحيض ، ولا قال ذلك أحد من الصحابة ; فدل أنه إجماع ، والله أعلم . واحتج المخالف بأن قال لو كانت الحامل تحيض ، وكان ما تراه المرأة من الدم حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض ; وهو إجماع وروي عن مالك في كتاب محمد ما يقتضي أنه ليس بحيض .
الثالثة : في هذه الآية دليل على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر وأكثر ، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر ، وأن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر .
الرابعة : وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة ; ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك ، وأظنه في كتاب ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها ; حكاه ابن عطية .
[ ص: 251 ] الخامسة : واختلف العلماء في أكثر الحمل ; فروى ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت : يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل ; ذكره الدارقطني . وقالت جميلة بنت سعد - أخت عبيد بن سعد ، وعن الليث بن سعد - إن أكثره ثلاث سنين . وعن الشافعي أربع سنين ; وروي عن مالك في إحدى روايتيه ، والمشهور عنه خمس سنين ; وروي عنه لا حد له ، ولو زاد على العشرة الأعوام ; وهي الرواية الثالثة عنه . وعن الزهري ست وسبع . قال أبو عمر : ومن الصحابة من يجعله إلى سبع ; والشافعي : مدة الغاية منها أربع سنين . والكوفيون يقولون : سنتان لا غير . ومحمد بن عبد الحكم يقول : سنة لا أكثر . وداود يقول : تسعة أشهر ، لا يكون عنده حمل أكثر منها . قال أبو عمر : وهذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد ، والرد إلى ما عرف من أمر النساء وبالله التوفيق . روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال : قلت لمالك بن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت : لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل ، فقال : سبحان الله ! من يقول هذا ؟ ! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان ، تحمل وتضع في أربع سنين ، امرأة صدق ، وزوجها رجل صدق ; حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة ، تحمل كل بطن أربع سنين . وذكره عن المبارك بن مجاهد قال : مشهور عندنا كانت امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين ، وكانت تسمى حاملة الفيل . وروى أيضا قال : بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل فقال : يا أبا يحيى ! ادع لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد ; فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال : ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء ! ثم قرأ ، ثم دعا ، ثم قال : اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها الساعة ، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاما ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أم الكتاب ، ورفع مالك يده ، ورفع الناس أيديهم ، وجاء الرسول إلى الرجل فقال : أدرك امرأتك ، فذهب الرجل ، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط ، ابن أربع سنين ، قد استوت أسنانه ، ما قطعت سراره ; وروي أيضا أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ! إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى ; فشاور عمر الناس في رجمها ، فقال معاذ بن جبل : يا أمير المؤمنين ! إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل ; فاتركها حتى تضع ، فتركها ، فوضعت غلاما قد خرجت ثنيتاه ; فعرف الرجل الشبه فقال : ابني ورب الكعبة ! ; فقال [ ص: 252 ] عمر : عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ ; لولا معاذ لهلك عمر . وقال الضحاك : وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين ، فولدتني وقد خرجت سني . ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتين ، وقيل : ثلاث سنين . ويقال : إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين ، فماتت به وهو يضطرب اضطرابا شديدا ، فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه . وقال حماد بن سلمة : إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين . وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين ، وقد طلعت سنه فسمي ضحاكا . وقال عباد بن العوام : ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاما شعره إلى منكبيه ، فمر به طير فقال : كش .
السادسة : قال ابن خويز منداد : أقل الحيض والنفاس وأكثره وأقل الحمل وأكثره مأخوذ من طريق الاجتهاد ; لأن علم ذلك استأثر الله به ، فلا يجوز أن يحكم في شيء منه إلا بقدر ما أظهره لنا ، ووجد ظاهرا في النساء نادرا أو معتادا ; ولما وجدنا امرأة قد حملت أربع سنين وخمس سنين حكمنا بذلك ، والنفاس والحيض لما لم نجد فيه أمرا مستقرأ رجعنا فيه إلى ما يوجد في النادر منهن .
السابعة : قال ابن العربي : نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر الحمل تسعة أشهر ; وهذا ما لم ينطق به قط إلا مالكي ، وهم الطبائعيون الذين يزعمون أن مدبر الحمل في الرحم الكواكب السبعة ; تأخذه شهرا شهرا ، ويكون الشهر الرابع منها للشمس ; ولذلك يتحرك ويضطرب ، وإذا تكامل التداول في السبعة الأشهر بين الكواكب السبعة عاد في الشهر الثامن إلى زحل ، فيبقله ببرده ; فيا ليتني تمكنت من مناظرتهم أو مقاتلتهم ! ما بال المرجع بعد تمام الدور يكون إلى زحل دون غيره ؟ الله أخبركم بهذا أم على الله تفترون ؟ ! وإذا جاز أن يعود إلى اثنين منها لم لا يجوز أن يعود التدبير إلى ثلاث أو أربع ، أو يعود إلى جميعها مرتين أو ثلاثا ؟ ! ما هذا التحكم بالظنون الباطلة على الأمور الباطنة ! .
الثامنة : قوله تعالى : وكل شيء عنده بمقدار يعني من النقصان والزيادة . ويقال : بمقدار قدر خروج الولد من بطن أمه ، وقدر مكثه في بطنها إلى خروجه . وقال قتادة : في الرزق والأجل . والمقدار القدر ; وعموم الآية يتناول كل ذلك ، والله سبحانه أعلم . [ ص: 253 ] قلت : هذه الآية تمدح الله سبحانه وتعالى بها بأنه عالم الغيب والشهادة
أي هو عالم بما غاب عن الخلق ، وبما شهدوه . فالغيب مصدر بمعنى الغائب . والشهادة مصدر بمعنى الشاهد ; فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب ، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق ، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد ; فأما أهل الطب الذين يستدلون بالأمارات والعلامات فإن قطعوا بذلك فهو كفر ، وإن قالوا إنها تجربة تركوا وما هم عليه ، ولم يقدح ذلك في الممدوح ; فإن العادة يجوز انكسارها ، والعلم لا يجوز تبدله . و " الكبير " الذي كل شيء دونه . " المتعال " عما يقول المشركون ، المستعلي على كل شيء بقدرته وقهره ; وقد ذكرناهما في شرح الأسماء مستوفى ، والحمد لله .
قوله تعالى : سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار قوله تعالى : سواء منكم من أسر القول ومن جهر به إسرار القول : ما حدث به المرء نفسه ، والجهر ما حدث به غيره ; والمراد بذلك أن الله سبحانه يعلم ما أسره الإنسان من خير وشر ، كما يعلم ما جهر به من خير وشر . و " منكم " يحتمل أن يكون وصفا ل " سواء " التقدير : سر من أسر وجهر من جهر سواء منكم ; ويجوز أن يتعلق ب " سواء " على معنى : يستوي منكم ، كقولك : مررت بزيد . ويجوز أن يكون على تقدير : سر من أسر منكم وجهر من جهر منكم . ويجوز أن يكون التقدير : ذو سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ، كما تقول : عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل . وقيل : سواء أي مستو ، فلا يحتاج إلى تقدير حذف مضاف .
ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار أي يستوي في علم الله السر والجهر ، والظاهر في الطرقات ، والمستخفي في الظلمات . وقال الأخفش وقطرب : المستخفي بالليل الظاهر ; ومنه خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته ; وأخفيت الشيء أي استخرجته ; ومنه قيل للنباش : المختفي . وقال امرؤ القيس :
خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب
والسارب المتواري ، أي الداخل سربا ; ومنه قولهم : انسرب الوحشي إذا دخل في كناسه . وقال ابن عباس : مستخف مستتر ، وسارب ظاهر . مجاهد : مستخف [ ص: 254 ] بالمعاصي ، وسارب ظاهر . وقيل : معنى سارب ذاهب ; قال الكسائي : سرب يسرب سربا وسروبا إذا ذهب ; وقال الشاعر :
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده فهو سارب
أي ذاهب . وقال أبو رجاء : السارب الذاهب على وجهه في الأرض ; قال الشاعر :
أنى سربت وكنت غير سروب
وقال القتبي : سارب بالنهار أي منصرف في حوائجه بسرعة ; من قولهم : انسرب الماء . وقال الأصمعي : خل سربه أي طريقه .
قوله تعالى : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال
قوله تعالى : " له معقبات " أي لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار ; فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار . وقال : معقبات والملائكة ذكران لأنه جمع معقبة ; يقال : ملك معقب ، وملائكة معقبة ، ثم معقبات جمع الجمع . وقرأ بعضهم - " له معاقيب من بين يديه ومن خلفه " . ومعاقيب جمع معقب ; وقيل للملائكة معقبة على لفظ الملائكة وقيل : أنث لكثرة ذلك منهم ; نحو نسابة وعلامة وراوية ; قاله الجوهري وغيره . والتعقب العود بعد البدء ; قال الله تعالى : ولى مدبرا ولم يعقب أي لم يرجع ; وفي الحديث : معقبات لا يخيب قائلهن - أو - فاعلهن فذكر التسبيح والتحميد والتكبير . قال أبو الهيثم : سمين " معقبات " لأنهن عادت مرة بعد مرة ، فعل من عمل عملا ثم عاد إليه فقد عقب . والمعقبات من الإبل اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعتركات على الحوض ; فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها [ ص: 255 ] أخرى .
وقوله : من بين يديه أي المستخفي بالليل والسارب بالنهار .
يحفظونه من أمر الله اختلف في هذا الحفظ ; فقيل : يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء المضرة ، لطفا منه به ، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبينه ; قاله ابن عباس وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - . قال أبو مجلز : جاء رجل من مراد إلى علي فقال : احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك ; فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه ما لم يقدر ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله ، وإن الأجل حصن حصينة ; وعلى هذا ، يحفظونه من أمر الله أي بأمر الله وبإذنه ; ف " من " بمعنى الباء ; وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض . وقيل : من بمعنى عن ; أي يحفظونه عن أمر الله ، وهذا قريب من الأول ; أي حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم ; وهذا قول الحسن ; تقول : كسوته عن عري ومن عري ; ومنه قوله - عز وجل - : أطعمهم من جوع أي عن جوع . وقيل : يحفظونه من ملائكة العذاب ، حتى لا تحل به عقوبة ; لأن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر ، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة ، وتزول عنهم الحفظة المعقبات . وقيل : يحفظونه من الجن ; قال كعب : لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن وملائكة العذاب من أمر الله ; وخصهم بأن قال : من أمر الله لأنهم غير معاينين ; كما قال : قل الروح من أمر ربي أي ليس مما تشاهدونه أنتم . وقال الفراء : في الكلام تقديم وتأخير ، تقديره ، له معقبات من أمر الله من بين يديه ومن خلفه يحفظونه ، وهو مروي عن مجاهد وابن جريج والنخعي ; وعلى أن ملائكة العذاب والجن من أمر الله لا تقديم فيه ولا تأخير . وقال ابن جريج : إن المعنى يحفظون عليه عمله ; فحذف المضاف . وقال قتادة : يكتبون أقواله وأفعاله . ويجوز إذا كانت المعقبات الملائكة أن تكون الهاء في له لله - عز وجل - كما ذكرنا ; ويجوز أن تكون للمستخفي ، فهذا قول . وقيل : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - أي أن الملائكة تحفظه من أعدائه ; وقد جرى ذكر الرسول في قوله :لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر أي سواء منكم من أسر القول ومن جهر به في أنه لا يضر النبي - صلى الله عليه وسلم - بل له معقبات يحفظونه - عليه السلام - ; ويجوز أن يرجع هذا إلى جميع الرسل ; لأنه قد قال : ولكل قوم هاد أي يحفظون الهادي من بين يديه ومن خلفه . وقول رابع : أن المراد بالآية السلاطين والأمراء الذين لهم قوم من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم ; فإذا جاء [ ص: 256 ] أمر الله لم يغنوا عنهم من الله شيئا ; قاله ابن عباس وعكرمة ; وكذلك قال الضحاك : هو السلطان المتحرس من أمر الله ، المشرك .
