
17-02-2025, 10:07 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (558)
صــ 386 إلى صــ 400
وقال آخرون : بل عنى بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقالوا : إنما معنى الكلام : قد جعلنا الكتاب الذي أنزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 386 ] أيها الناس ، لكلكم ، أي لكل من دخل في الإسلام وأقر بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه لي نبي " شرعة ومنهاجا " .
ذكر من قال ذلك :
12129 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " قال : سنة ، "ومنهاجا " ، السبيل "لكلكم " ، من دخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد جعل الله له شرعة ومنهاجا . يقول : القرآن ، هو له شرعة ومنهاج .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : معناه : لكل أهل ملة منكم ، أيها الأمم جعلنا شرعة ومنهاجا .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لقوله : ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) ولو كان عنى بقوله : " لكل جعلنا منكم " ، أمة محمد ، وهم أمة واحدة ، لم يكن لقوله : "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " ، وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة معنى مفهوم . ولكن معنى ذلك على ما جرى به الخطاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أنه ذكر ما كتب على بني إسرائيل في التوراة ، وتقدم إليهم بالعمل بما فيها ، ثم ذكر أنه قفى بعيسى ابن مريم على آثار الأنبياء قبله ، وأنزل عليه الإنجيل ، وأمر من بعثه إليه بالعمل بما فيه . ثم ذكر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وأخبره أنه أنزل إليه الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ، وأمره بالعمل بما فيه ، والحكم بما أنزل إليه فيه دون ما في سائر الكتب غيره ، وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعة غير شرائع الأنبياء والأمم قبله الذين قص عليهم قصصهم ، وإن كان دينه ودينهم - في توحيد الله ، والإقرار بما جاءهم به من عنده ، والانتهاء إلى أمره ونهيه - واحدا ، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكم واحد منهم ولأمته فيما أحل لهم وحرم عليهم .
[ ص: 387 ] وبنحو الذي قلنا في"الشرعة " و"المنهاج " من التأويل ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
12130 - حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا مسعر ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " قال : سنة وسبيلا .
12131 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " ، قال : سنة وسبيلا .
12132 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان وإسرائيل وأبيه ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
12133 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو يحيى الرازي ، عن أبي سنان ، عن أبي إسحاق ، عن يحيى بن وثاب قال : سألت ابن عباس عن قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " ، قال : سنة وسبيلا .
12134 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : " شرعة ومنهاجا " ، قال : سنة وسبيلا .
12135 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن مطرف عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني تميم ، عن ابن عباس ، بمثله .
[ ص: 388 ] 12136 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
12137 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " يعني : سبيلا وسنة .
12138 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين قال : سمعت الحسن يقول : "الشرعة " ، السنة .
12139 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد قال : سنة وسبيلا .
12140 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : "شرعة ومنهاجا " ، قال : "الشرعة " ، السنة " ومنهاجا " ، قال : السبيل .
12141 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
12142 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " ، يقول : سبيلا وسنة .
12143 - حدثني المثنى قال ، حدثنا الحوضي قال ، حدثنا شعبة قال ، حدثنا أبو إسحاق قال : سمعت رجلا من بني تميم ، عن ابن عباس ، بنحوه .
12144 - حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن المفضل قال ، [ ص: 389 ] حدثنا أسباط ، عن السدي : "شرعة ومنهاجا " ، يقول : سبيلا وسنة .
12145 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : السنة والسبيل .
12146 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " ، يقول : سبيلا وسنة .
12147 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، أخبرني عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "شرعة ومنهاجا " ، قال : سبيلا وسنة .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم ) "
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ولو شاء ربكم لجعل شرائعكم واحدة ، ولم يجعل لكل أمة شريعة ومنهاجا غير شرائع الأمم الأخر ومنهاجهم ، فكنتم تكونون أمة واحدة لا تختلف شرائعكم ومنهاجكم ، ولكنه تعالى ذكره يعلم ذلك ، فخالف بين شرائعكم ليختبركم ، فيعرف المطيع منكم من العاصي ، والعامل بما أمره في الكتاب الذي أنزله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من المخالف .
و"الابتلاء" : هو الاختبار ، وقد أبنت ذلك بشواهده فيما مضى قبل .
وقوله : "فيما آتاكم " ، يعني : فيما أنزل عليكم من الكتب ، كما : -
[ ص: 390 ] 12148 - حدثنا القاسم ، قال ، حدثنا الحسين ، قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ) قال عبد الله بن كثير : لا أعلمه إلا قال ، ليبلوكم فيما آتاكم من الكتب .
فإن قال قائل : وكيف قال : " ليبلوكم فيما آتاكم " ، ومن المخاطب بذلك؟ وقد ذكرت أن المعني بقوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " نبينا مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممهم ، والذين قبل نبينا صلى الله عليه وسلم على حدة؟
قيل : إن الخطاب وإن كان لنبينا صلى الله عليه وسلم : فإنه قد أريد به الخبر عن الأنبياء قبله وأممهم . ولكن العرب من شأنها إذا خاطبت إنسانا وضمت إليه غائبا ، فأرادت الخبر عنه ، أن تغلب المخاطب ، فيخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب ، فلذلك قال تعالى ذكره : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ( 48 ) )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فبادروا أيها الناس ، إلى الصالحات من الأعمال ، والقرب إلى ربكم ، بإدمان العمل بما في كتابكم الذي أنزله إلى [ ص: 391 ] نبيكم ، فإنه إنما أنزله امتحانا لكم وابتلاء ، ليتبين المحسن منكم من المسيء ، فيجازي جميعكم على عمله جزاءه عند مصيركم إليه ، فإن إليه مصيركم جميعا ، فيخبر كل فريق منكم بما كان يخالف فيه الفرق الأخرى ، فيفصل بينهم بفصل القضاء ، وتبين المحق مجازاته إياه بجناته ، من المسيء بعقابه إياه بالنار ، فيتبين حينئذ كل حزب عيانا ، المحق منهم من المبطل .
فإن قال قائل : أولم ينبئنا ربنا في الدنيا قبل مرجعنا إليه ما نحن فيه مختلفون؟
قيل : إنه بين ذلك في الدنيا بالرسل والأدلة والحجج ، دون الثواب والعقاب عيانا ، فمصدق بذلك ومكذب . وأما عند المرجع إليه ، فإنه ينبئهم بذلك بالمجازاة التي لا يشكون معها في معرفة المحق والمبطل ، ولا يقدرون على إدخال اللبس معها على أنفسهم . فكذلك خبره تعالى ذكره أنه ينبئنا عند المرجع إليه بما كنا فيه نختلف في الدنيا . وإنما معنى ذلك : إلى الله مرجعكم جميعا ، فتعرفون المحق حينئذ من المبطل منكم ، كما : -
12149 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن حباب ، عن أبي سنان قال : سمعت الضحاك يقول : " فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا " ، قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، البر والفاجر .
[ ص: 392 ]
القول في تأويل قوله عز ذكره ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون ( 49 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " ، وأنزلنا إليك ، يا محمد ، الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ، وأن احكم بينهم ف"أن " في موضع نصب ب"التنزيل" .
ويعني بقوله : "بما أنزل الله " ، بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه .
وأما قوله : "ولا تتبع أهواءهم " ، فإنه نهي من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهواء اليهود الذين احتكموا إليه في قتيلهم وفاجريهم ، وأمر منه له بلزوم العمل بكتابه الذي أنزله إليه .
وقوله : " واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واحذر ، يا محمد ، هؤلاء اليهود الذين جاءوك محتكمين إليك "أن يفتنوك " ، فيصدوك عن بعض ما أنزل الله إليك من حكم كتابه ، فيحملوك على ترك العمل به واتباع أهوائهم .
وقوله : " فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " ، يقول تعالى ذكره : فإن تولى هؤلاء اليهود الذين اختصموا إليك عنك ، فتركوا العمل بما حكمت به [ ص: 393 ] عليهم وقضيت فيهم " فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " ، يقول : فاعلم أنهم لم يتولوا عن الرضى بحكمك وقد قضيت بالحق ، إلا من أجل أن الله يريد أن يتعجل عقوبتهم في عاجل الدنيا ببعض ما قد سلف من ذنوبهم " وإن كثيرا من الناس لفاسقون " ، يقول : وإن كثيرا من اليهود "لفاسقون " ، يقول : لتاركو العمل بكتاب الله ، ولخارجون عن طاعته إلى معصيته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الرواية عن أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
12150 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد ، وابن صوريا وشأس بن قيس ، بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد ، لعلنا نفتنه عن دينه! فأتوه فقالوا : يا محمد ، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وأنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا ، وأن بيننا وبين قومنا خصومة ، فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن لك ونصدقك ! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله فيهم : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " ، إلى قوله : " لقوم يوقنون " .
12151 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " ، قال : أن يقولوا : " في [ ص: 394 ] التوراة كذا " ، وقد بينا لك ما في التوراة . وقرأ ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ) [ سورة المائدة : 45 ] ، بعضها ببعض .
12152 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : دخل المجوس مع أهل الكتاب في هذه الآية : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ( 50 ) )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : أيبغي هؤلاء اليهود الذين احتكموا إليك ، فلم يرضوا بحكمك ، إذ حكمت فيهم بالقسط "حكم الجاهلية " ، يعني : أحكام عبدة الأوثان من أهل الشرك ، وعندهم كتاب الله فيه بيان حقيقة الحكم الذي حكمت به فيهم ، وأنه الحق الذي لا يجوز خلافه .
ثم قال تعالى ذكره موبخا لهؤلاء الذين أبوا قبول حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ولهم من اليهود ، ومستجهلا فعلهم ذلك منهم : ومن هذا الذي هو أحسن حكما ، أيها اليهود ، من الله تعالى ذكره عند من كان يوقن بوحدانية الله ، ويقر بربوبيته؟ يقول تعالى ذكره : أي حكم أحسن من حكم الله ، إن كنتم موقنين أن لكم ربا ، وكنتم أهل توحيد وإقرار به؟
[ ص: 395 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال مجاهد .
12153 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " أفحكم الجاهلية يبغون " ، قال : يهود .
12154 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أفحكم الجاهلية يبغون " ، يهود .
12155 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا شيخ ، عن مجاهد : " أفحكم الجاهلية يبغون " ، قال : يهود .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعني بهذه الآية ، وإن كان مأمورا بذلك جميع المؤمنين .
فقال بعضهم : عنى بذلك عبادة بن الصامت ، وعبد الله بن أبي ابن سلول ، في براءة عبادة من حلف اليهود ، وفي تمسك عبد الله بن أبي ابن سلول بحلف اليهود ، بعد ما ظهرت عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأخبره الله أنه إذا تولاهم وتمسك بحلفهم : أنه منهم في براءته من الله ورسوله كبراءتهم منهما .
ذكر من قال ذلك :
12156 - حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت أبي ، عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن لي موالي من يهود كثير [ ص: 396 ] عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية موالي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن أبي : يا أبا الحباب ، ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه؟ قال : قد قبلت . فأنزل الله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض " إلى قوله : " فترى الذين في قلوبهم مرض " .
12157 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثني عثمان بن عبد الرحمن ، عن الزهري قال : لما انهزم أهل بدر ، قال المسلمون لأوليائهم من يهود : آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر ! فقال مالك بن صيف : غركم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال!! أما لو أمررنا العزيمة أن نستجمع عليكم ، لم يكن لكم يد أن تقاتلونا! فقال عبادة : يا رسول الله ، إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم ، كثيرا سلاحهم ، شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبي : لكني لا أبرأ من ولاء يهود ، إني رجل لا بد لي منهم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا حباب ، أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة ، فهو لك دونه ؟ قال : إذا أقبل ! فأنزل الله تعالى ذكره : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض " إلى أن بلغ إلى قوله : " والله يعصمك من الناس " .
12158 - حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس قال ، حدثنا ابن إسحاق قال ، [ ص: 397 ] حدثني والدي إسحاق بن يسار ، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم ، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد بني عوف بن الخزرج ، له من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وقال : يا رسول الله ، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم! ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في"المائدة" : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض " ، الآية .
وقال آخرون : بل عني بذلك قوم من المؤمنين كانوا هموا حين نالهم بأحد من أعدائهم من المشركين ما نالهم أن يأخذوا من اليهود عصما ، فنهاهم الله عن ذلك ، وأعلمهم أن من فعل ذلك منهم فهو منهم .
ذكر من قال ذلك :
12159 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ، قال : لما كانت وقعة أحد ، اشتد على طائفة من الناس ، وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار ، فقال رجل لصاحبه : أما أنا فألحق بدهلك اليهودي ، فآخذ منه أمانا وأتهود معه ، فإني أخاف أن تدال علينا اليهود . وقال الآخر : أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض [ ص: 398 ] الشأم ، فآخذ منه أمانا وأتنصر معه ، فأنزل الله تعالى ذكره ينهاهما : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين " .
وقال آخرون : بل عني بذلك أبو لبابة بن عبد المنذر ، في إعلامه بني قريظة إذ رضوا بحكم سعد : أنه الذبح .
ذكر من قال ذلك :
12160 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر ، من الأوس وهو من بني عمرو بن عوف فبعثه إلى قريظة حين نقضت العهد ، فلما أطاعوا له بالنزول ، أشار إلى حلقه : الذبح الذبح .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرهم ، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليا من دون الله ورسوله والمؤمنين ، فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين ، وأن الله ورسوله منه بريئان . وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرجلين اللذين ذكر السدي أن أحدهما هم باللحاق بدهلك اليهودي ، والآخر بنصراني بالشأم ولم [ ص: 399 ] يصح بواحد من هذه الأقوال الثلاثة خبر تثبت بمثله حجة ، فيسلم لصحته القول بأنه كما قيل .
فإذ كان ذلك كذلك ، فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عم ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه . غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهودا أو نصارى خوفا على نفسه من دوائر الدهر ، لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك ، وذلك قوله : ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ) الآية .
وأما قوله : " بعضهم أولياء بعض " ، فإنه عنى بذلك : أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين ، ويد واحدة على جميعهم ، وأن النصارى كذلك ، بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم معرفا بذلك عباده المؤمنين : أن من كان لهم أو لبعضهم وليا ، فإنما هو وليهم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين ، كما اليهود والنصارى لهم حرب . فقال تعالى ذكره للمؤمنين : فكونوا أنتم أيضا بعضكم أولياء بعض ، ولليهودي والنصراني حربا كما هم لكم حرب ، وبعضهم لبعض أولياء ، لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحرب ، ومنهم البراءة ، وأبان قطع ولايتهم .
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " ، ومن يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين ، فإنه منهم . يقول : فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين ، فهو من أهل دينهم وملتهم ، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض . وإذا رضيه ورضي دينه ، فقد عادى ما خالفه وسخطه ، وصار حكمه حكمه ، ولذلك حكم من حكم من أهل العلم لنصارى بني تغلب في ذبائحهم ونكاح نسائهم وغير ذلك من أمورهم ، بأحكام نصارى بني إسرائيل ، لموالاتهم إياهم ، ورضاهم بملتهم ، ونصرتهم لهم عليها ، وإن كانت أنسابهم لأنسابهم مخالفة ، وأصل دينهم لأصل دينهم مفارقا .
وفي ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما نقول ، من أن كل من كان يدين بدين فله حكم أهل ذلك الدين ، كانت دينونته به قبل مجيء الإسلام أو بعده . إلا أن يكون مسلما من أهل ديننا انتقل إلى ملة غيرها ، فإنه لا يقر على ما دان به فانتقل إليه ، ولكن يقتل لردته عن الإسلام ومفارقته دين الحق ، إلا أن يرجع قبل القتل إلى الدين الحق وفساد ما خالفه من قول من زعم : أنه لا يحكم بحكم أهل الكتابين لمن دان بدينهم ، إلا أن يكون إسرائيليا أو منتقلا إلى دينهم من غيرهم قبل نزول الفرقان . فأما من دان بدينهم بعد نزول الفرقان ، ممن لم يكن منهم ، ممن خالف نسبه نسبهم وجنسه جنسهم ، فإنه حكمه لحكمهم مخالف .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|