عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 17-02-2025, 10:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (557)
صــ 371 إلى صــ 385






[ ص: 371 ] فأما الدية إذا اختارها المجروح ثم عفا عنها ، فلم يقض عليه بحد ذنبه ، فيكون ممن دخل في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وقوله : " فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته " . ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك ، الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : "فمن تصدق بدم " ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل .

وقد يجوز أن يكون القائلون إنه عنى بذلك الجارح ، أرادوا المعنى الذي ذكر عن عروة بن الزبير الذي : -

12102 - حدثني به الحارث بن محمد قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : إذا أصاب رجل رجلا ولا يعلم المصاب من أصابه ، فاعترف له المصيب ، فهو كفارة للمصيب . قال : وكان مجاهد يقول عند هذا : أصاب عروة بن الزبير عين إنسان عند الركن فيما يستلمون ، فقال له : يا هذا ، أنا عروة بن الزبير ، فإن كان بعينك بأس فأنا بها !

وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعل على غير عمد ، ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه ، فعفا له المصاب بذلك عن حقه قبله ، فلا تبعة له حينئذ قبل المصيب في الدنيا ولا في الآخرة . لأن الذي كان وجب له قبله مال لا قصاص ، وقد أبرأه منه : فإبراؤه منه ، كفارة للمبرأ من حقه [ ص: 372 ] الذي كان له أخذه به ، فلا طلبة له بسبب ذلك قبله في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه إلى من أصابه ، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به ، فيكون بفعله آثما يستحق به العقوبة من ربه ، لأن الله عز وجل قد وضع الجناح عن عباده فيما أخطأوا فيه ولم يتعمدوه من أفعالهم ، فقال في كتابه : ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ) . [ سورة الأحزاب : 5 ]

و"التصدق " في هذا الموضع بالدم العفو عنه .

القول في تأويل قوله عز ذكره ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ( 45 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوراة من قود النفس القاتلة قصاصا بالنفس المقتولة ظلما . ولم يفقأ عين الفاقئ بعين المفقوء ظلما ، قصاصا ممن أمره الله به بذلك في كتابه ، ولكن أقاد من بعض ولم يقد من [ ص: 373 ] بعض ، أو قتل في بعض اثنين بواحد ، فإن من يفعل ذلك من "الظالمين " يعني : ممن جار عن حكم الله ، ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعا .

القول في تأويل قوله عز ذكره ( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ( 46 ) )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وقفينا على آثارهم " ، أتبعنا . يقول : أتبعنا عيسى ابن مريم على آثار النبيين الذين أسلموا من قبلك يا محمد ، فبعثناه نبيا مصدقا لكتابنا الذي أنزلناه إلى موسى من قبله أنه حق ، وأن العمل بما لم ينسخه الإنجيل منه فرض واجب"وآتيناه الإنجيل " ، يقول : وأنزلنا إليه كتابنا الذي اسمه "الإنجيل " "فيه هدى ونور " يقول : في الإنجيل "هدى " ، وهو بيان ما جهله الناس من حكم الله في زمانه "ونور " ، يقول : وضياء من عمى الجهالة " ومصدقا لما بين يديه " ، يقول : أوحينا إليه ذلك وأنزلناه إليه بتصديق ما كان قبله من كتب الله التي كان أنزلها على كل أمة أنزل إلى نبيها كتاب للعمل بما أنزل إلى نبيهم في ذلك الكتاب ، من تحليل ما حلل ، وتحريم ما حرم

"وهدى وموعظة " ، يقول : أنزلنا الإنجيل إلى عيسى مصدقا للكتب التي قبله ، وبيانا لحكم الله الذي ارتضاه لعباده المتقين في زمان عيسى ، "وموعظة " ، لهم يقول : وزجرا لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبه من الأعمال ، وتنبيها لهم عليه .

[ ص: 374 ] و"المتقون " ، هم الذين خافوا الله وحذروا عقابه ، فاتقوه بطاعته فيما أمرهم ، وحذروه بترك ما نهاهم عن فعله . وقد مضى البيان عن ذلك بشواهده قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته .

القول في تأويل قوله عز ذكره ( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ( 47 ) )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : "وليحكم أهل الإنجيل" .

فقرأته قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين : "وليحكم " بتسكين "اللام " ، على وجه الأمر من الله لأهل الإنجيل : أن يحكموا بما أنزل الله فيه من أحكامه . وكأن من قرأ ذلك كذلك ، أراد : وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه فيكون في الكلام محذوف ، ترك استغناء بما ذكر عما حذف .

وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : ( وليحكم أهل الإنجيل ) بكسر"اللام " ، من "ليحكم " ، بمعنى : كي يحكم أهل الإنجيل . وكأن معنى من قرأ ذلك كذلك : وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، كي يحكم أهله بما فيه من حكم الله .

والذي نقول به في ذلك ، أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، فبأي ذلك قرأ قارئ فمصيب فيه الصواب .

[ ص: 375 ] وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابا على نبي من أنبيائه إلا ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه ، ولم ينزله عليهم إلا وقد أمرهم بالعمل بما فيه ، فللعمل بما فيه أنزله ، وأمرا بالعمل بما فيه أنزله . فكذلك الإنجيل ، إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ، فللعمل بما فيه أنزله على عيسى ، وأمرا بالعمل به أهله أنزله عليه . فسواء قرئ على وجه الأمر بتسكين "اللام " ، أو قرئ على وجه الخبر بكسرها ، لاتفاق معنييهما .

وأما ما ذكر عن أبي بن كعب من قراءته ذلك ( وأن ليحكم ) على وجه الأمر ، فذلك مما لم يصح به النقل عنه . ولو صح أيضا ، لم يكن في ذلك ما يوجب أن تكون القراءة بخلافه محظورة ، إذ كان معناها صحيحا ، وكان المتقدمون من أئمة القرأة قد قرأوا بها .

وإذ كان الأمر في ذلك على ما بينا ، فتأويل الكلام إذا قرئ بكسر"اللام " من "ليحكم" : وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ، وكي يحكم أهل الإنجيل بما أنزلنا فيه ، فبدلوا حكمه وخالفوه ، فضلوا بخلافهم إياه إذ لم يحكموا بما أنزل الله فيه وخالفوه " فأولئك هم الفاسقون " ، يعني : الخارجين عن أمر الله فيه ، المخالفين له فيما أمرهم ونهاهم في كتابه .

فأما إذا قرئ بتسكين "اللام " ، فتأويله : وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزلنا [ ص: 376 ] فيه ، فلم يطيعونا في أمرنا إياهم بما أمرناهم به فيه ، ولكنهم خالفوا أمرنا ، فالذين خالفوا أمرنا الذي أمرناهم به فيه ، هم الفاسقون .

وكان ابن زيد يقول : "الفاسقون " ، في هذا الموضع وفي غيره ، هم الكاذبون .

12103 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " ، قال : ومن لم يحكم من أهل الإنجيل أيضا بذلك " فأولئك هم الفاسقون " ، قال : الكاذبون . بهذا قال . وقال ابن زيد : كل شيء في القرآن إلا قليلا "فاسق " فهو كاذب . وقرأ قول الله : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ ) [ سورة الحجرات : 6 ] قال : " الفاسق " ، ههنا ، كاذب .

وقد بينا معنى"الفسق " بشواهده فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

[ ص: 377 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه )

قال أبو جعفر : وهذا خطاب من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم . يقول تعالى ذكره : أنزلنا إليك ، يا محمد ، "الكتاب " ، وهو القرآن الذي أنزله عليه ويعني بقوله : "بالحق " بالصدق ، ولا كذب فيه ، ولا شك أنه من عند الله "مصدقا لما بين يديه من الكتاب " ، يقول : أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التي أنزلها إلى أنبيائه

"ومهيمنا عليه " ، يقول : أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد مصدقا للكتب قبله ، وشهيدا عليها أنها حق من عند الله ، أمينا عليها ، حافظا لها .

وأصل "الهيمنة " ، الحفظ والارتقاب . يقال ، إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده : " قد هيمن فلان عليه ، فهو يهيمن هيمنة ، وهو عليه مهيمن" .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، إلا أنهم اختلفت عباراتهم عنه .

فقال بعضهم : معناه : شهيدا .

ذكر من قال ذلك :

12103 م - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "ومهيمنا عليه " ، يقول : شهيدا .

12104 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "ومهيمنا عليه " ، قال : شهيدا عليه .

[ ص: 378 ] 12105 - حدثني بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب " ، يقول : الكتب التي خلت قبله"ومهيمنا عليه " ، أمينا وشاهدا على الكتب التي خلت قبله .

12106 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : "ومهيمنا عليه " ، مؤتمنا على القرآن ، وشاهدا ومصدقا وقال ابن جريج : وقال آخرون : القرآن أمين على الكتب فيما إذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمر ، إن كان في القرآن فصدقوا ، وإلا فكذبوا .

وقال بعضهم معناه : أمين عليه .

ذكر من قال ذلك :

12107 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن وحدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا وكيع جميعا ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : "ومهيمنا عليه " ، قال : مؤتمنا عليه .

12108 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس في قوله : " ومهيمنا عليه " ، قال : مؤتمنا عليه .

12109 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .

12110 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، بإسناده عن ابن عباس مثله .

12111 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن عطية قال : حدثنا إسرائيل ، [ ص: 379 ] عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .

12112 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس مثله .

12113 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من تميم ، عن ابن عباس ، مثله .

12114 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "ومهيمنا عليه " ، قال : والمهيمن الأمين : قال : القرآن أمين على كل كتاب قبله .

12115 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب " ، وهو القرآن ، شاهد على التوراة والإنجيل ، مصدقا لهما "ومهيمنا عليه " ، يعني : أمينا عليه ، يحكم على ما كان قبله من الكتب .

12116 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن قيس ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : "ومهيمنا عليه " ، قال : مؤتمنا عليه .

12117 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني تميم ، عن ابن عباس : "ومهيمنا عليه " ، قال : مؤتمنا عليه .

[ ص: 380 ] 12118 - حدثني المثنى قال ، حدثنا يحيى الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .

12119 - حدثنا هناد قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان وإسرائيل ، عن علي بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير : "ومهيمنا عليه " قال : مؤتمنا على ما قبله من الكتب .

12120 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء قال : سألت الحسين عن قوله : " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه " ، قال : مصدقا لهذه الكتب ، وأمينا عليها . وسئل عنها عكرمة وأنا أسمع فقال : مؤتمنا عليه .

وقال آخرون : معنى"المهيمن " ، المصدق .

ذكر من قال ذلك :

12121 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ومهيمنا عليه " ، قال : مصدقا عليه . كل شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زبور ، فالقرآن مصدق على ذلك . وكل شيء ذكر الله في القرآن ، فهو مصدق عليها وعلى ما حدث عنها أنه حق .

وقال آخرون : عنى بقوله : " مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه " ، نبي الله صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

12122 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن [ ص: 381 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ومهيمنا عليه " ، محمد صلى الله عليه وسلم ، مؤتمن على القرآن .

12123 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ومهيمنا عليه " ، قال : محمد صلى الله عليه وسلم ، مؤتمن على القرآن .

قال أبو جعفر : فتأويل الكلام على ما تأوله مجاهد : وأنزلنا الكتاب مصدقا الكتب قبله إليك ، مهيمنا عليه فيكون قوله : "مصدقا " حالا من "الكتاب " وبعضا منه ، ويكون "التصديق " من صفة "الكتاب " ، و"المهيمن " حالا من "الكاف " التي في"إليك " ، وهي كناية عن ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم ، و"الهاء " في قوله : "عليه " ، عائدة على الكتاب .

وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب ، بل هو خطأ . وذلك أن "المهيمن " عطف على"المصدق " ، فلا يكون إلا من صفة ما كان "المصدق " صفة له . ولو كان معنى الكلام ما روي عن مجاهد ، لقيل : وأنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب مهيمنا عليه " لأنه لم يتقدم من صفة "الكاف " التي في"إليك " بعدها شيء يكون"مهيمنا عليه " عطفا عليه ، وإنما عطف به على "المصدق " ، لأنه من صفة "الكتاب " الذي من صفته "المصدق" . [ ص: 382 ]

فإن ظن ظان أن "المصدق " على قول مجاهد وتأويله هذا من صفة "الكاف " التي في "إليك " ، فإن قوله : "لما بين يديه من الكتاب " ، يبطل أن يكون تأويل ذلك كذلك ، وأن يكون "المصدق " من صفة "الكاف " التي في "إليك" . لأن "الهاء " في قوله : "بين يديه " ، كناية اسم غير المخاطب ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم في قوله"إليك" . ولو كان "المصدق " من صفة "الكاف " لكان الكلام : وأنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديك من الكتاب ، ومهيمنا عليه ، فيكون معنى الكلام حينئذ كذلك .

القول في تأويل قوله عز ذكره ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق )

قال أبو جعفر : وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهل الملل بكتابه الذي أنزله إليه ، وهو القرآن الذي خصه بشريعته . يقول تعالى ذكره : احكم يا محمد ، بين أهل الكتاب والمشركين بما أنزل إليك من كتابي وأحكامي في كل ما احتكموا فيه إليك ، من الحدود والجروح والقود والنفوس ، فارجم الزاني المحصن ، واقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة ظلما ، وافقأ العين بالعين ، واجدع الأنف بالأنف ، فإني أنزلت إليك القرآن مصدقا في ذلك ما بين يديه من الكتب ، ومهيمنا عليه رقيبا ، يقضي على ما قبله من سائر الكتب قبله ، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين [ ص: 383 ] يقولون : إن أوتيتم الجلد في الزاني المحصن دون الرجم ، وقتل الوضيع بالشريف إذا قتله ، وترك قتل الشريف بالوضيع إذا قتله فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا عن الذي جاءك من عند الله من الحق ، وهو كتاب الله الذي أنزله إليك . يقول له : اعمل بكتابي الذي أنزلته إليك إذا احتكموا إليك فاخترت الحكم عليهم ، ولا تتركن العمل بذلك اتباعا منك أهواءهم ، وإيثارا لها على الحق الذي أنزلته إليك في كتابي ، كما : -

12124 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فاحكم بينهم بما أنزل الله " ، يقول : بحدود الله " ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق " .

12125 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن عامر ، عن مسروق : أنه كان يحلف اليهودي والنصراني بالله ، ثم قرأ : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) [ سورة المائدة : 49 ] ، وأنزل الله : ( ألا تشركوا به شيئا ) [ سورة الأنعام : 151 ] .

القول في تأويل قوله عز ذكره ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لكل قوم منكم جعلنا شرعة .

[ ص: 384 ] و"الشرعة " هي "الشريعة " بعينها ، تجمع "الشرعة " "شرعا " ، "والشريعة " "شرائع" . ولو جمعت "الشرعة " "شرائع " ، كان صوابا ، لأن معناها ومعنى "الشريعة " واحد ، فيردها عند الجمع إلى لفظ نظيرها . وكل ما شرعت فيه من شيء فهو "شريعة" . ومن ذلك قيل : لشريعة الماء "شريعة " ، لأنه يشرع منها إلى الماء . ومنه سميت شرائع الإسلام"شرائع " ، لشروع أهله فيه . ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشيء : "هم شرع " ، سواء .

وأما"المنهاج " ، فإن أصله : الطريق البين الواضح ، يقال منه : "هو طريق نهج ، ومنهج " ، بين ، كما قال الراجز :


من يك في شك فهذا فلج ماء رواء وطريق نهج


ثم يستعمل في كل شيء كان بينا واضحا سهلا .

فمعنى الكلام : لكل قوم منكم جعلنا طريقا إلى الحق يؤمه ، وسبيلا واضحا يعمل به .

[ ص: 385 ] ثم اختلف أهل التأويل في المعني بقوله : " لكل جعلنا منكم" .

فقال بعضهم : عنى بذلك أهل الملل المختلفة ، أي : أن الله جعل لكل ملة شريعة ومنهاجا .

ذكر من قال ذلك :

12126 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " يقول : سبيلا وسنة . والسنن مختلفة : للتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ، يحل الله فيها ما يشاء ، ويحرم ما يشاء بلاء ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه . ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره : التوحيد والإخلاص لله ، الذي جاءت به الرسل .

12127 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " ، قال : الدين واحد ، والشريعة مختلفة .

12128 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن هاشم قال أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي قال : الإيمان منذ بعث الله تعالى ذكره آدم صلى الله عليه وسلم : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، لكل قوم ما جاءهم من شرعة أو منهاج ، فلا يكون المقر تاركا ، ولكنه مطيع .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.34 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.71 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.68%)]