
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (557)
صــ 371 إلى صــ 385
[ ص: 371 ] فأما الدية إذا اختارها المجروح ثم عفا عنها ، فلم يقض عليه بحد ذنبه ، فيكون ممن دخل في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وقوله : " فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته " . ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك ، الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : "فمن تصدق بدم " ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل .
وقد يجوز أن يكون القائلون إنه عنى بذلك الجارح ، أرادوا المعنى الذي ذكر عن عروة بن الزبير الذي : -
12102 - حدثني به الحارث بن محمد قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : إذا أصاب رجل رجلا ولا يعلم المصاب من أصابه ، فاعترف له المصيب ، فهو كفارة للمصيب . قال : وكان مجاهد يقول عند هذا : أصاب عروة بن الزبير عين إنسان عند الركن فيما يستلمون ، فقال له : يا هذا ، أنا عروة بن الزبير ، فإن كان بعينك بأس فأنا بها !
وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعل على غير عمد ، ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه ، فعفا له المصاب بذلك عن حقه قبله ، فلا تبعة له حينئذ قبل المصيب في الدنيا ولا في الآخرة . لأن الذي كان وجب له قبله مال لا قصاص ، وقد أبرأه منه : فإبراؤه منه ، كفارة للمبرأ من حقه [ ص: 372 ] الذي كان له أخذه به ، فلا طلبة له بسبب ذلك قبله في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه إلى من أصابه ، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به ، فيكون بفعله آثما يستحق به العقوبة من ربه ، لأن الله عز وجل قد وضع الجناح عن عباده فيما أخطأوا فيه ولم يتعمدوه من أفعالهم ، فقال في كتابه : ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ) . [ سورة الأحزاب : 5 ]
و"التصدق " في هذا الموضع بالدم العفو عنه .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ( 45 ) )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوراة من قود النفس القاتلة قصاصا بالنفس المقتولة ظلما . ولم يفقأ عين الفاقئ بعين المفقوء ظلما ، قصاصا ممن أمره الله به بذلك في كتابه ، ولكن أقاد من بعض ولم يقد من [ ص: 373 ] بعض ، أو قتل في بعض اثنين بواحد ، فإن من يفعل ذلك من "الظالمين " يعني : ممن جار عن حكم الله ، ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعا .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ( 46 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "وقفينا على آثارهم " ، أتبعنا . يقول : أتبعنا عيسى ابن مريم على آثار النبيين الذين أسلموا من قبلك يا محمد ، فبعثناه نبيا مصدقا لكتابنا الذي أنزلناه إلى موسى من قبله أنه حق ، وأن العمل بما لم ينسخه الإنجيل منه فرض واجب"وآتيناه الإنجيل " ، يقول : وأنزلنا إليه كتابنا الذي اسمه "الإنجيل " "فيه هدى ونور " يقول : في الإنجيل "هدى " ، وهو بيان ما جهله الناس من حكم الله في زمانه "ونور " ، يقول : وضياء من عمى الجهالة " ومصدقا لما بين يديه " ، يقول : أوحينا إليه ذلك وأنزلناه إليه بتصديق ما كان قبله من كتب الله التي كان أنزلها على كل أمة أنزل إلى نبيها كتاب للعمل بما أنزل إلى نبيهم في ذلك الكتاب ، من تحليل ما حلل ، وتحريم ما حرم
"وهدى وموعظة " ، يقول : أنزلنا الإنجيل إلى عيسى مصدقا للكتب التي قبله ، وبيانا لحكم الله الذي ارتضاه لعباده المتقين في زمان عيسى ، "وموعظة " ، لهم يقول : وزجرا لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبه من الأعمال ، وتنبيها لهم عليه .
[ ص: 374 ] و"المتقون " ، هم الذين خافوا الله وحذروا عقابه ، فاتقوه بطاعته فيما أمرهم ، وحذروه بترك ما نهاهم عن فعله . وقد مضى البيان عن ذلك بشواهده قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ( 47 ) )
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة قوله : "وليحكم أهل الإنجيل" .
فقرأته قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين : "وليحكم " بتسكين "اللام " ، على وجه الأمر من الله لأهل الإنجيل : أن يحكموا بما أنزل الله فيه من أحكامه . وكأن من قرأ ذلك كذلك ، أراد : وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه فيكون في الكلام محذوف ، ترك استغناء بما ذكر عما حذف .
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : ( وليحكم أهل الإنجيل ) بكسر"اللام " ، من "ليحكم " ، بمعنى : كي يحكم أهل الإنجيل . وكأن معنى من قرأ ذلك كذلك : وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، كي يحكم أهله بما فيه من حكم الله .
والذي نقول به في ذلك ، أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، فبأي ذلك قرأ قارئ فمصيب فيه الصواب .
[ ص: 375 ] وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابا على نبي من أنبيائه إلا ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه ، ولم ينزله عليهم إلا وقد أمرهم بالعمل بما فيه ، فللعمل بما فيه أنزله ، وأمرا بالعمل بما فيه أنزله . فكذلك الإنجيل ، إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ، فللعمل بما فيه أنزله على عيسى ، وأمرا بالعمل به أهله أنزله عليه . فسواء قرئ على وجه الأمر بتسكين "اللام " ، أو قرئ على وجه الخبر بكسرها ، لاتفاق معنييهما .
وأما ما ذكر عن أبي بن كعب من قراءته ذلك ( وأن ليحكم ) على وجه الأمر ، فذلك مما لم يصح به النقل عنه . ولو صح أيضا ، لم يكن في ذلك ما يوجب أن تكون القراءة بخلافه محظورة ، إذ كان معناها صحيحا ، وكان المتقدمون من أئمة القرأة قد قرأوا بها .
وإذ كان الأمر في ذلك على ما بينا ، فتأويل الكلام إذا قرئ بكسر"اللام " من "ليحكم" : وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ، وكي يحكم أهل الإنجيل بما أنزلنا فيه ، فبدلوا حكمه وخالفوه ، فضلوا بخلافهم إياه إذ لم يحكموا بما أنزل الله فيه وخالفوه " فأولئك هم الفاسقون " ، يعني : الخارجين عن أمر الله فيه ، المخالفين له فيما أمرهم ونهاهم في كتابه .
فأما إذا قرئ بتسكين "اللام " ، فتأويله : وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزلنا [ ص: 376 ] فيه ، فلم يطيعونا في أمرنا إياهم بما أمرناهم به فيه ، ولكنهم خالفوا أمرنا ، فالذين خالفوا أمرنا الذي أمرناهم به فيه ، هم الفاسقون .
وكان ابن زيد يقول : "الفاسقون " ، في هذا الموضع وفي غيره ، هم الكاذبون .
12103 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " ، قال : ومن لم يحكم من أهل الإنجيل أيضا بذلك " فأولئك هم الفاسقون " ، قال : الكاذبون . بهذا قال . وقال ابن زيد : كل شيء في القرآن إلا قليلا "فاسق " فهو كاذب . وقرأ قول الله : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ ) [ سورة الحجرات : 6 ] قال : " الفاسق " ، ههنا ، كاذب .
وقد بينا معنى"الفسق " بشواهده فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
[ ص: 377 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه )
قال أبو جعفر : وهذا خطاب من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم . يقول تعالى ذكره : أنزلنا إليك ، يا محمد ، "الكتاب " ، وهو القرآن الذي أنزله عليه ويعني بقوله : "بالحق " بالصدق ، ولا كذب فيه ، ولا شك أنه من عند الله "مصدقا لما بين يديه من الكتاب " ، يقول : أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التي أنزلها إلى أنبيائه
"ومهيمنا عليه " ، يقول : أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد مصدقا للكتب قبله ، وشهيدا عليها أنها حق من عند الله ، أمينا عليها ، حافظا لها .
وأصل "الهيمنة " ، الحفظ والارتقاب . يقال ، إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده : " قد هيمن فلان عليه ، فهو يهيمن هيمنة ، وهو عليه مهيمن" .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، إلا أنهم اختلفت عباراتهم عنه .
فقال بعضهم : معناه : شهيدا .
ذكر من قال ذلك :
12103 م - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "ومهيمنا عليه " ، يقول : شهيدا .
12104 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "ومهيمنا عليه " ، قال : شهيدا عليه .
[ ص: 378 ] 12105 - حدثني بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب " ، يقول : الكتب التي خلت قبله"ومهيمنا عليه " ، أمينا وشاهدا على الكتب التي خلت قبله .
12106 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : "ومهيمنا عليه " ، مؤتمنا على القرآن ، وشاهدا ومصدقا وقال ابن جريج : وقال آخرون : القرآن أمين على الكتب فيما إذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمر ، إن كان في القرآن فصدقوا ، وإلا فكذبوا .
وقال بعضهم معناه : أمين عليه .
ذكر من قال ذلك :
12107 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن وحدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا وكيع جميعا ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : "ومهيمنا عليه " ، قال : مؤتمنا عليه .
12108 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس في قوله : " ومهيمنا عليه " ، قال : مؤتمنا عليه .
12109 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
12110 - حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، بإسناده عن ابن عباس مثله .
12111 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن عطية قال : حدثنا إسرائيل ، [ ص: 379 ] عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
12112 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس مثله .
12113 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من تميم ، عن ابن عباس ، مثله .
12114 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "ومهيمنا عليه " ، قال : والمهيمن الأمين : قال : القرآن أمين على كل كتاب قبله .
12115 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي ، قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب " ، وهو القرآن ، شاهد على التوراة والإنجيل ، مصدقا لهما "ومهيمنا عليه " ، يعني : أمينا عليه ، يحكم على ما كان قبله من الكتب .
12116 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن قيس ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : "ومهيمنا عليه " ، قال : مؤتمنا عليه .
12117 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني تميم ، عن ابن عباس : "ومهيمنا عليه " ، قال : مؤتمنا عليه .
[ ص: 380 ] 12118 - حدثني المثنى قال ، حدثنا يحيى الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
12119 - حدثنا هناد قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان وإسرائيل ، عن علي بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير : "ومهيمنا عليه " قال : مؤتمنا على ما قبله من الكتب .
12120 - حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء قال : سألت الحسين عن قوله : " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه " ، قال : مصدقا لهذه الكتب ، وأمينا عليها . وسئل عنها عكرمة وأنا أسمع فقال : مؤتمنا عليه .
وقال آخرون : معنى"المهيمن " ، المصدق .
ذكر من قال ذلك :
12121 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ومهيمنا عليه " ، قال : مصدقا عليه . كل شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زبور ، فالقرآن مصدق على ذلك . وكل شيء ذكر الله في القرآن ، فهو مصدق عليها وعلى ما حدث عنها أنه حق .
وقال آخرون : عنى بقوله : " مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه " ، نبي الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
12122 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن [ ص: 381 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ومهيمنا عليه " ، محمد صلى الله عليه وسلم ، مؤتمن على القرآن .
12123 - حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ومهيمنا عليه " ، قال : محمد صلى الله عليه وسلم ، مؤتمن على القرآن .
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام على ما تأوله مجاهد : وأنزلنا الكتاب مصدقا الكتب قبله إليك ، مهيمنا عليه فيكون قوله : "مصدقا " حالا من "الكتاب " وبعضا منه ، ويكون "التصديق " من صفة "الكتاب " ، و"المهيمن " حالا من "الكاف " التي في"إليك " ، وهي كناية عن ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم ، و"الهاء " في قوله : "عليه " ، عائدة على الكتاب .
وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب ، بل هو خطأ . وذلك أن "المهيمن " عطف على"المصدق " ، فلا يكون إلا من صفة ما كان "المصدق " صفة له . ولو كان معنى الكلام ما روي عن مجاهد ، لقيل : وأنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب مهيمنا عليه " لأنه لم يتقدم من صفة "الكاف " التي في"إليك " بعدها شيء يكون"مهيمنا عليه " عطفا عليه ، وإنما عطف به على "المصدق " ، لأنه من صفة "الكتاب " الذي من صفته "المصدق" . [ ص: 382 ]
فإن ظن ظان أن "المصدق " على قول مجاهد وتأويله هذا من صفة "الكاف " التي في "إليك " ، فإن قوله : "لما بين يديه من الكتاب " ، يبطل أن يكون تأويل ذلك كذلك ، وأن يكون "المصدق " من صفة "الكاف " التي في "إليك" . لأن "الهاء " في قوله : "بين يديه " ، كناية اسم غير المخاطب ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم في قوله"إليك" . ولو كان "المصدق " من صفة "الكاف " لكان الكلام : وأنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديك من الكتاب ، ومهيمنا عليه ، فيكون معنى الكلام حينئذ كذلك .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق )
قال أبو جعفر : وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهل الملل بكتابه الذي أنزله إليه ، وهو القرآن الذي خصه بشريعته . يقول تعالى ذكره : احكم يا محمد ، بين أهل الكتاب والمشركين بما أنزل إليك من كتابي وأحكامي في كل ما احتكموا فيه إليك ، من الحدود والجروح والقود والنفوس ، فارجم الزاني المحصن ، واقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة ظلما ، وافقأ العين بالعين ، واجدع الأنف بالأنف ، فإني أنزلت إليك القرآن مصدقا في ذلك ما بين يديه من الكتب ، ومهيمنا عليه رقيبا ، يقضي على ما قبله من سائر الكتب قبله ، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين [ ص: 383 ] يقولون : إن أوتيتم الجلد في الزاني المحصن دون الرجم ، وقتل الوضيع بالشريف إذا قتله ، وترك قتل الشريف بالوضيع إذا قتله فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا عن الذي جاءك من عند الله من الحق ، وهو كتاب الله الذي أنزله إليك . يقول له : اعمل بكتابي الذي أنزلته إليك إذا احتكموا إليك فاخترت الحكم عليهم ، ولا تتركن العمل بذلك اتباعا منك أهواءهم ، وإيثارا لها على الحق الذي أنزلته إليك في كتابي ، كما : -
12124 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فاحكم بينهم بما أنزل الله " ، يقول : بحدود الله " ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق " .
12125 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن عامر ، عن مسروق : أنه كان يحلف اليهودي والنصراني بالله ، ثم قرأ : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) [ سورة المائدة : 49 ] ، وأنزل الله : ( ألا تشركوا به شيئا ) [ سورة الأنعام : 151 ] .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : لكل قوم منكم جعلنا شرعة .
[ ص: 384 ] و"الشرعة " هي "الشريعة " بعينها ، تجمع "الشرعة " "شرعا " ، "والشريعة " "شرائع" . ولو جمعت "الشرعة " "شرائع " ، كان صوابا ، لأن معناها ومعنى "الشريعة " واحد ، فيردها عند الجمع إلى لفظ نظيرها . وكل ما شرعت فيه من شيء فهو "شريعة" . ومن ذلك قيل : لشريعة الماء "شريعة " ، لأنه يشرع منها إلى الماء . ومنه سميت شرائع الإسلام"شرائع " ، لشروع أهله فيه . ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشيء : "هم شرع " ، سواء .
وأما"المنهاج " ، فإن أصله : الطريق البين الواضح ، يقال منه : "هو طريق نهج ، ومنهج " ، بين ، كما قال الراجز :
من يك في شك فهذا فلج ماء رواء وطريق نهج
ثم يستعمل في كل شيء كان بينا واضحا سهلا .
فمعنى الكلام : لكل قوم منكم جعلنا طريقا إلى الحق يؤمه ، وسبيلا واضحا يعمل به .
[ ص: 385 ] ثم اختلف أهل التأويل في المعني بقوله : " لكل جعلنا منكم" .
فقال بعضهم : عنى بذلك أهل الملل المختلفة ، أي : أن الله جعل لكل ملة شريعة ومنهاجا .
ذكر من قال ذلك :
12126 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " يقول : سبيلا وسنة . والسنن مختلفة : للتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ، يحل الله فيها ما يشاء ، ويحرم ما يشاء بلاء ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه . ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره : التوحيد والإخلاص لله ، الذي جاءت به الرسل .
12127 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " ، قال : الدين واحد ، والشريعة مختلفة .
12128 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن هاشم قال أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي قال : الإيمان منذ بعث الله تعالى ذكره آدم صلى الله عليه وسلم : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، لكل قوم ما جاءهم من شرعة أو منهاج ، فلا يكون المقر تاركا ، ولكنه مطيع .
