
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (547)
صــ 206 إلى صــ 220
11714 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته تؤمه هابيل ، وأمر هابيل أن ينكح أخته تؤمه قابيل ، فسلم لذلك هابيل ورضي ، وأبى قابيل [ ص: 206 ] ذلك وكره ، تكرما عن أخت هابيل ، ورغب بأخته عن هابيل ، وقال : نحن ولادة الجنة ، وهما من ولادة الأرض ، وأنا أحق بأختي! ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول : كانت أخت قابيل من أحسن الناس ، فضن بها عن أخيه وأرادها لنفسه . فالله أعلم أي ذلك كان فقال له أبوه : يا بني إنها لا تحل لك! فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه ، فقال له أبوه : يا بني فقرب قربانا ، ويقرب أخوك هابيل قربانا ، فأيكما قبل الله قربانه فهو أحق بها . وكان قابيل على بذر الأرض ، وكان هابيل على رعاية الماشية ، فقرب قابيل قمحا وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه وبعضهم يقول : قرب بقرة فأرسل الله جل وعز نارا بيضاء فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله .
11715 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي فيما ذكر ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وكان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية ، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر . حتى ولد له ابنان يقال لهما : قابيل ، وهابيل . وكان قابيل صاحب زرع ، وكان [ ص: 207 ] هابيل صاحب ضرع . وكان قابيل أكبرهما ، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل . وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل ، فأبى عليه وقال : هي أختي ، ولدت معي ، وهي أحسن من أختك ، وأنا أحق أن أتزوجها! فأمره أبوه أن يزوجها هابيل ، فأبى . وإنهما قربا قربانا إلى الله أيهما أحق بالجارية ، كان آدم يومئذ قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها ، قال الله عز ذكره لآدم : يا آدم ، هل تعلم أن لي بيتا في الأرض؟ قال : اللهم لا! قال : فإن لي بيتا بمكة فأته . فقال آدم للسماء : "احفظي ولدي بالأمانة" ، فأبت . وقال للأرض ، فأبت . وقال للجبال فأبت . وقال لقابيل ، فقال : نعم ، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك . فلما انطلق آدم ، قربا قربانا ، وكان قابيل يفخر عليه فقال : أنا أحق بها منك ، هي أختي ، وأنا أكبر منك ، وأنا وصي والدي! فلما قربا ، قرب هابيل جذعة سمينة ، وقرب قابيل حزمة سنبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ، ففركها فأكلها . فنزلت النار فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي! فقال هابيل : إنما يتقبل الله من المتقين .
11716 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " ، ذكر لنا أنهما هابيل ، وقابيل . فأما هابيل ، فكان صاحب ماشية ، فعمد إلى خير ماشيته فتقرب بها ، فنزلت عليه نار فأكلته ، وكان القربان إذا تقبل منهم ، نزلت عليه نار فأكلته . وإذا رد عليهم أكلته الطير والسباع وأما قابيل ، فكان صاحب زرع ، فعمد إلى أردإ زرعه فتقرب به ، فلم تنزل عليه النار ، فحسد أخاه عند ذلك فقال : لأقتلنك! قال : إنما يتقبل الله من المتقين .
11717 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا [ ص: 208 ] معمر ، عن قتادة في قوله : " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " ، قال : هما هابيل ، وقابيل ، قال : كان أحدهما صاحب زرع ، والآخر صاحب ماشية ، فجاء أحدهما بخير ماله ، وجاء الآخر بشر ماله . فجاءت النار فأكلت قربان أحدهما ، وهو هابيل ، وتركت قربان الآخر ، فحسده فقال : لأقتلنك!
11718 - حدثنا سفيان قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : " إذ قربا قربانا " ، قال : قرب هذا زرعا ، وذا عناقا ، فتركت النار الزرع وأكلت العناق .
وقال آخرون : اللذان قربا قربانا ، وقص الله عز ذكره قصصهما في هذه الآية : رجلان من بني إسرائيل ، لا من ولد آدم لصلبه .
ذكر من قال ذلك :
11719 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن قال : كان الرجلان اللذان في القرآن ، اللذان قال الله : " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " ، من بني إسرائيل ، ولم يكونا ابني آدم لصلبه ، وإنما كان القربان في بني إسرائيل ، وكان آدم أول من مات .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب أن اللذين قربا القربان كانا ابني آدم لصلبه ، لا من ذريته من بني إسرائيل . وذلك أن الله عز وجل يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة ، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن تقريب القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم ، دون الملائكة والشياطين [ ص: 209 ] وسائر الخلق غيرهم . فإذ كان معلوما ذلك عندهم ، فمعقول أنه لو لم يكن معنيا ب"ابني آدم" اللذين ذكرهما الله في كتابه ابناه لصلبه لم يفدهم بذكره جل جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم . وإذ كان غير جائز أن يخاطبهم خطابا لا يفيدهم به معنى ، فمعلوم أنه عنى ب"ابني آدم" ، [ ابني آدم لصلبه ] ، لا بني بنيه الذين بعد منه نسبهم ، مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل على أنهما كانا ابني آدم لصلبه ، وفي عهد آدم وزمانه ، وكفى بذلك شاهدا .
وقد ذكرنا كثيرا ممن نص عنه القول بذلك ، وسنذكر كثيرا ممن لم يذكر إن شاء الله .
11720 - حدثنا مجاهد بن موسى قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : حدثنا حسام بن المصك ، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد قال : لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة حزينا لا يضحك ، ثم أتي فقيل له : حياك الله وبياك! فقال : "بياك" ، أضحكك .
11721 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن غياث بن إبراهيم ، عن أبي إسحاق الهمداني قال : قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه : لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم ، فقال :
تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم
وقل بشاشة الوجه المليح
[ ص: 210 ]
فأجيب آدم عليه السلام :
أبا هابيل قد قتلا جميعا وصار الحي كالميت الذبيح
وجاء بشرة قد كان منها على خوف فجاء بها يصيح
قال أبو جعفر : وأما القول في تقريبهما ما قربا ، فإن الصواب فيه من القول أن يقال : إن الله عز ذكره أخبر عباده عنهما أنهما قد قربا ، ولم يخبر أن تقريبهما ما قربا كان عن أمر الله إياهما به ، ولا عن غير أمره . وجائز أن يكون كان عن أمر الله إياهما بذلك وجائز أن يكون عن غير أمره . غير أنه أي ذلك كان ، فلم يقربا ذلك إلا طلب قربة إلى الله إن شاء الله .
وأما تأويل قوله : "قال لأقتلنك" ، فإن معناه : قال الذي لم يتقبل منه قربانه ، للذي تقبل منه قربانه : "لأقتلنك" ، فترك ذكر "المتقبل قربانه" ، و"المردود عليه قربانه" استغناء بما قد جرى من ذكرهما عن إعادته . وكذلك ترك ذكر "المتقبل قربانه" مع قوله : " قال إنما يتقبل الله من المتقين " .
وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس .
11722 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "قال لأقتلنك" ، فقال له أخوه : ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين . [ ص: 211 ]
11723 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " إنما يتقبل الله من المتقين " ، قال يقول : إنك لو اتقيت الله في قربانك تقبل منك ، جئت بقربان مغشوش بأشر ما عندك ، وجئت أنا بقربان طيب بخير ما عندي . قال : وكان قال : يتقبل الله منك ولا يتقبل مني!
ويعني بقوله : "من المتقين" ، من الذين اتقوا الله وخافوه بأداء ما كلفهم من فرائضه ، واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته .
وقد قال جماعة من أهل التأويل : "المتقون" في هذا الموضع الذين اتقوا الشرك .
ذكر من قال ذلك :
11724 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قوله : " إنما يتقبل الله من المتقين " ، الذين يتقون الشرك .
وقد بينا معنى "القربان" فيما مضى وأنه "الفعلان" من قول القائل : "قرب" ، كما "الفرقان" "الفعلان" من "فرق" ، و"العدوان" من "عدا" .
وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمتنا كالصدقات ، والزكوات فينا غير أن قرابينهم كان يعلم المتقبل منها وغير المتقبل فيما ذكر بأكل النار ما تقبل منها ، وترك النار ما لم يتقبل منها . و"القربان" في أمتنا الأعمال الصالحة من الصلاة ، والصيام ، والصدقة على أهل المسكنة ، وأداء الزكاة المفروضة . ولا سبيل [ ص: 212 ] لها إلى العلم في عاجل بالمتقبل منها والمردود .
وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري ، أنه حين حضرته الوفاة بكى ، فقيل له : ما يبكيك؟ فقد كنت وكنت! فقال : يبكيني أني أسمع الله يقول : " إنما يتقبل الله من المتقين " .
11725 - حدثني بذلك محمد بن عمر المقدمي قال : حدثني سعيد بن عامر ، عن همام ، عمن ذكره ، عن عامر .
وقد قال بعضهم : قربان المتقين الصلاة .
11726 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن عمران بن سليمان ، عن عدي بن ثابت قال : كان قربان المتقين الصلاة .
[ ص: 213 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ( 28 ) )
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن المقتول من ابني آدم أنه قال لأخيه لما قال له أخوه القاتل : لأقتلنك : والله" لئن بسطت إلي يدك " ، يقول : مددت إلي يدك " لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك " ، يقول : ما أنا بماد يدي إليك " لأقتلك " .
وقد اختلف في السبب الذي من أجله قال المقتول ذلك لأخيه ، ولم يمانعه ما فعل به . فقال بعضهم : قال ذلك إعلاما منه لأخيه القاتل أنه لا يستحل قتله ، ولا بسط يده إليه بما لم يأذن الله جل وعز له به .
ذكر من قال ذلك :
11727 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا عوف ، عن أبي المغيرة ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : وايم الله ، إن كان المقتول لأشد الرجلين ، ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه .
11728 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك " ، ما أنا بمنتصر ، ولأمسكن يدي عنك . [ ص: 214 ]
وقال آخرون : لم يمنعه مما أراد من قتله ، وقال ما قال له مما قص الله في كتابه : [ إلا ] أن الله عز ذكره فرض عليهم أن لا يمتنع من أريد قتله ممن أراد ذلك منه .
ذكر من قال ذلك :
11729 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا رجل سمع مجاهدا يقول في قوله : " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " ، قال مجاهد : كان كتب عليهم ، إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عز ذكره قد كان حرم عليهم قتل نفس بغير نفس ظلما ، وأن المقتول قال لأخيه : " ما أنا بباسط يدي إليك إن بسطت إلي يدك " ، لأنه كان حراما عليه من قتل أخيه مثل الذي كان حراما على أخيه القاتل من قتله . فأما الامتناع من قتله حين أراد قتله فلا دلالة على أن القاتل حين أراد قتله وعزم عليه ، كان المقتول عالما بما هو عليه عازم منه ومحاول من قتله ، فترك دفعه عن نفسه . بل قد ذكر جماعة من أهل العلم أنه قتله غيلة ، اغتاله وهو نائم ، فشدخ رأسه بصخرة . فإذ كان ذلك ممكنا ، ولم يكن في الآية دلالة على أنه كان مأمورا بترك منع أخيه من قتله ، يكن جائزا ادعاء ما ليس في الآية ، إلا ببرهان يجب تسليمه .
وأما تأويل قوله : " إني أخاف الله رب العالمين " فإنه : إني أخاف الله في بسط يدي إليك إن بسطتها لقتلك " رب العالمين " ، يعني : مالك الخلائق كلها أن يعاقبني على بسط يدي إليك .
[ ص: 215 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ( 29 ) )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : معناه : إني أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي ، وإثمك في معصيتك الله ، وغير ذلك من معاصيك .
ذكر من قال ذلك :
11730 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في حديثه ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، يقول : إثم قتلي ، إلى إثمك الذي في عنقك" فتكون من أصحاب النار " .
11731 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، يقول : بقتلك إياي ، وإثمك قبل ذلك .
11732 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، قال : بإثم قتلي وإثمك .
11733 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يقول : إني أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي ، تبوء بهما جميعا .
11734 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز ، عن سفيان ، عن [ ص: 216 ] منصور ، عن مجاهد : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، يقول : إني أريد أن تبوء بقتلك إياي "وإثمك" ، قال : بما كان منك قبل ذلك .
11735 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال : حدثني عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قوله : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، قال : أما "إثمك" ، فهو الإثم الذي عمل قبل قتل النفس يعني أخاه ، وأما "إثمه" ، فقتله أخاه .
وكأن قائلي هذه المقالة وجهوا تأويل قوله : "إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، إلى : إني أريد أن تبوء بإثم قتلي ، فحذف " القتل " ، واكتفى بذكر " الإثم " ، إذ كان مفهوما معناه عند المخاطبين به .
وقال آخرون : معنى ذلك : إني أريد أن تبوء بخطيئتي ، فتتحمل وزرها ، وإثمك في قتلك إياي . وهذا قول وجدته عن مجاهد ، وأخشى أن يكون غلطا ، لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبل .
ذكر من قال ذلك :
11736 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، يقول : إني أريد أن تكون عليك خطيئتي ودمي ، فتبوء بهما جميعا .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن تأويله : إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله : " إني [ ص: 217 ] أريد أن تبوء بإثمي " وأما معنى : " وإثمك " فهو إثمه بغير قتله ، وذلك معصيته الله جل ثناؤه في أعمال سواه .
وإنما قلنا ذلك هو الصواب ، لإجماع أهل التأويل عليه . لأن الله عز ذكره قد أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه . وإذا كان ذلك حكمه في خلقه ، فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذا بها القاتل ، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه ، دون ما ركبه قتيله .
فإن قال قائل : أو ليس قتل المقتول من بني آدم كان معصية لله من القاتل؟ قيل : بلى ، وأعظم بها معصية!
فإن قال : فإذا كان لله جل وعز معصية ، فكيف جاز أن يريد ذلك منه المقتول ، ويقول : " إني أريد أن تبوء بإثمي " ، وقد ذكرت أن تأويل ذلك : إني أريد أن تبوء بإثم قتلي؟ [ قيل ] معناه : إني أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني ، لأني لا أقتلك ، فإن أنت قتلتني ، فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك إياي . وهو إذا قتله فهو لا محالة باء به في حكم الله ، فإرادته ذلك غير موجبة له الدخول في الخطإ .
ويعني بقوله : " فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " ، يقول : فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم ، ووقود النار المخلدين فيها " وذلك جزاء الظالمين " ، يقول : والنار ثواب التاركين طريق الحق ، الزائلين عن قصد [ ص: 218 ] السبيل ، المتعدين ما جعل لهم إلى ما لم يجعل لهم .
وهذا يدل على أن الله عز ذكره قد كان أمر ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض ، ووعد وأوعد . ولولا ذلك ما قال المقتول للقاتل : "فتكون من أصحاب النار" بقتلك إياي ، ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين . فكان مجاهد يقول : علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار ، عليه في الصيف حظيرة من نار ، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج .
11737 - حدثنا بذلك القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج قال مجاهد ذلك قال : وقال عبد الله بن عمرو : وإنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب ، عليه شطر عذابهم .
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحو ما روي عن عبد الله بن عمرو ، خبر .
11738 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، وحدثنا سفيان قال : حدثنا جرير ، وأبو معاوية ح ، وحدثنا هناد قال : حدثنا أبو معاوية ، ووكيع جميعا ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ، ذلك بأنه أول من سن القتل .
11739 - حدثنا سفيان قال : حدثنا أبي ح ، وحدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن جميعا ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه . [ ص: 219 ]
11740 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن حسن بن صالح ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم النخعي قال : ما من مقتول يقتل ظلما ، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفل منه .
11741 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم ، أنه حدث عن عبد الله بن عمرو : أنه كان يقول : إن أشقى الناس رجلا لابن آدم الذي قتل أخاه ، ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شيء ، وذلك أنه أول من سن القتل .
قال أبو جعفر : وهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مبين عن أن القول الذي قاله الحسن في ابني آدم اللذين ذكرهما الله في هذا الموضع أنهما ليسا بابني آدم لصلبه ، ولكنهما رجلان من بني إسرائيل وأن القول الذي حكي عنه أن أول من مات آدم ، وأن القربان الذي كانت [ ص: 220 ] النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل خطأ ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا القاتل الذي قتل أخاه : أنه أول من سن القتل . وقد كان لا شك القتل قبل إسرائيل ، فكيف قبل ذريته؟! فخطأ من القول أن يقال : أول من سن القتل رجل من بني إسرائيل .
وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال : "هو ابن آدم لصلبه" ، لأنه أول من سن القتل ، فأوجب الله له من العقوبة ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
