
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء العاشر
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (542)
صــ 131 إلى صــ 145
القول في تأويل قوله عز ذكره ( ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم )
قال أبو جعفر : يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تزال يا محمد تطلع من اليهود الذين أنبأتك نبأهم ، من نقضهم ميثاقي ، ونكثهم [ ص: 131 ] عهدي ، مع أيادي عندهم ، ونعمتي عليهم على مثل ذلك من الغدر والخيانة "إلا قليلا منهم" ، إلا قليلا منهم [ لم يخونوا ] .
و"الخائنة" في هذا الموضع : الخيانة ، وضع - وهو اسم - موضع المصدر ، كما قيل : "خاطئة" ، للخطيئة و"قائلة" للقيلولة .
وقوله : "إلا قليلا منهم" استثناء من "الهاء والميم" اللتين في قوله : "على خائنة منهم" .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
11589 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال : على خيانة وكذب وفجور .
11590 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعز : " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " قال : هم يهود ، مثل الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل حائطهم . [ ص: 132 ]
11591 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
11592 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد وعكرمة قوله : "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" من يهود ، مثل الذي هموا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم .
وقال بعض القائلين : معنى ذلك : ولا تزال تطلع على خائن منهم ، قال : والعرب تزيد "الهاء" في آخر المذكر كقولهم : "هو راوية للشعر" ، و"رجل علامة" ، وأنشد :
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغل الإصبع
[ ص: 133 ] فقال : "خائنة" ، وهو يخاطب رجلا .
قال أبو جعفر : والصواب من التأويل في ذلك القول الذي رويناه عن أهل التأويل . لأن الله عنى بهذه الآية القوم من يهود بني النضير الذين هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريين ، فأطلعه الله عز ذكره على ما قد هموا به . ثم قال جل ثناؤه بعد تعريفه أخبار أوائلهم ، وإعلامه منهج أسلافهم ، وأن آخرهم على منهاج أولهم في الغدر والخيانة ، لئلا يكبر فعلهم ذلك على نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقال جل ثناؤه : ولا تزال تطلع من اليهود على خيانة وغدر ونقض عهد ولم يرد أنه لا يزال يطلع على رجل منهم خائن . وذلك أن الخبر ابتدئ به عن جماعتهم فقيل : "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" ، ثم قيل : "ولا تزال تطلع على خائنة منهم" ، فإذ كان الابتداء عن الجماعة ، فالختم بالجماعة أولى .
[ ص: 134 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ( 13 ) )
قال أبو جعفر : وهذا أمر من الله عز ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالعفو عن هؤلاء القوم الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود . يقول الله جل وعز له : اعف ، يا محمد ، عن هؤلاء اليهود الذين هموا بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل ، واصفح لهم عن جرمهم بترك التعرض لمكروههم ، فإني أحب من أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه .
وكان قتادة يقول : هذه منسوخة . ويقول : نسختها آية "براءة" : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) الآية [ سورة التوبة : 29 ] .
11593 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "فاعف عنهم واصفح" ، قال : نسختها : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ) .
11594 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج بن المنهال قال : حدثنا همام ، عن قتادة : "فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين" ، ولم يؤمر يومئذ بقتالهم ، فأمره الله عز ذكره أن يعفو عنهم ويصفح . ثم نسخ ذلك في"براءة" فقال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [ سورة التوبة : 29 ] ، وهم أهل الكتاب ، فأمر الله [ ص: 135 ] جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم حتى يسلموا أو يقروا بالجزية .
11595 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا عبدة بن سليمان قال : قرأت على ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، نحوه .
قال أبو جعفر : والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانه ، غير أن الناسخ الذي لا شك فيه من الأمر ، هو ما كان نافيا كل معاني خلافه الذي كان قبله ، فأما ما كان غير ناف جميعه ، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جل وعز أو من رسوله صلى الله عليه وسلم . وليس في قوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) دلالة على الأمر بنفي معاني الصفح والعفو عن اليهود .
وإذ كان ذلك كذلك ، وكان جائزا ، مع إقرارهم بالصغار ، وأدائهم الجزية بعد القتال ، الأمر بالعفو عنهم في غدرة هموا بها ، أو نكثة عزموا عليها ، ما لم ينصبوا حربا دون أداء الجزية ، ويمتنعوا من الأحكام اللازمتهم لم يكن واجبا أن يحكم لقوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) الآية ، بأنه ناسخ قوله : "فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين" .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به )
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : وأخذنا من النصارى الميثاق على طاعتي وأداء فرائضي ، واتباع رسلي ، والتصديق بهم ، فسلكوا في ميثاقي الذي أخذته عليهم منهاج الأمة الضالة من اليهود ، فبدلوا كذلك دينهم ، ونقضوه نقضهم ، وتركوا حظهم من ميثاقي الذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي ، وضيعوا أمري ، كما : -
11596 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به" ، نسوا كتاب الله بين أظهرهم ، وعهد الله الذي عهده إليهم ، وأمر الله الذي أمرهم به .
11597 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قالت النصارى مثل ما قالت اليهود ، ونسوا حظا مما ذكروا به . [ ص: 136 ]
القول في تأويل قوله عز ذكره ( فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "فأغرينا بينهم" حرشنا بينهم وألقينا ، كما تغري الشيء بالشيء .
يقول جل ثناؤه : لما ترك هؤلاء النصارى ، الذين أخذت ميثاقهم بالوفاء بعهدي ، حظهم مما عهدت إليهم من أمري ونهيي ، أغريت بينهم العداوة والبغضاء .
ثم اختلف أهل التأويل في صفة "إغراء الله عز ذكره بينهم العداوة ، والبغضاء " . [ ص: 137 ]
فقال بعضهم : كان إغراؤه بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم .
ذكر من قال ذلك :
11598 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن إبراهيم النخعي في قوله : "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء" ، قال : هذه الأهواء المختلفة والتباغض ، فهو الإغراء .
11599 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب قال : سمعت النخعي يقول : "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء" ، قال : أغرى بعضهم ببعض بخصومات بالجدال في الدين .
11600 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني هشيم قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن إبراهيم النخعي والتيمي ، قوله : "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء" ، قال : ما أرى "الإغراء" في هذه الآية إلا الأهواء المختلفة وقال معاوية بن قرة : الخصومات في الدين تحبط الأعمال .
وقال آخرون : بل ذلك هو العداوة التي بينهم والبغضاء .
ذكر من قال ذلك :
11601 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " الآية ، إن القوم لما تركوا كتاب الله ، وعصوا رسله ، وضيعوا فرائضه ، وعطلوا حدوده ، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة بأعمالهم أعمال السوء ، ولو أخذ القوم كتاب الله وأمره ، ما افترقوا ولا تباغضوا .
قال أبو جعفر : وأولى التأولين في ذلك عندنا بالحق تأويل من قال : "أغرى بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم" ، كما قال إبراهيم النخعي ، لأن عداوة النصارى [ ص: 138 ] بينهم ، إنما هي باختلافهم في قولهم في المسيح ، وذلك أهواء ، لا وحي من الله .
واختلف أهل التأويل في المعني ب"الهاء والميم" اللتين في قوله : "فأغرينا بينهم" .
فقال بعضهم : عنى بذلك اليهود والنصارى . فمعنى الكلام على قولهم وتأويلهم : فأغرينا بين اليهود والنصارى ، لنسيانهم حظا مما ذكروا به .
ذكر من قال ذلك :
11602 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وقال في النصارى أيضا : "فنسوا حظا مما ذكروا به" ، فلما فعلوا ذلك ، أغرى الله عز وجل بينهم وبين اليهود العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة .
11603 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " ، قال : هم اليهود والنصارى . قال ابن زيد : كما تغري بين اثنين من البهائم .
11604 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء" ، قال : اليهود والنصارى .
11605 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
11606 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة قال : هم اليهود والنصارى ، أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة .
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك النصارى وحدها . وقالوا : معنى ذلك : فأغرينا بين النصارى ، عقوبة لها بنسيانها حظا مما ذكرت به . قالوا : وعليها عادت [ ص: 139 ] "الهاء والميم" في"بينهم" ، دون اليهود .
ذكر من قال ذلك :
11607 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : إن الله عز ذكره تقدم إلى بني إسرائيل : أن لا تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا وعلموا الحكمة ، ولا تأخذوا عليها أجرا ، فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم ، فأخذوا الرشوة في الحكم ، وجاوزوا الحدود ، فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله : ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) [ سورة المائدة : 64 ] ، وقال في النصارى : "فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" .
قال أبو جعفر : وأولى التأولين بالآية عندي ما قاله الربيع بن أنس ، وهو أن المعني بالإغراء بينهم النصارى ، في هذه الآية خاصة ، وأن "الهاء والميم" عائدتان على النصارى دون اليهود ، لأن ذكر "الإغراء" في خبر الله عن النصارى ، بعد تقضي خبره عن اليهود ، وبعد ابتدائه خبره عن النصارى ، فلأن يكون ذلك معنيا به النصارى خاصة أولى من أن يكون معنيا به الحزبان جميعا ، لما ذكرنا .
فإن قال قائل : وما العداوة التي بين النصارى ، فتكون مخصوصة بمعنى ذلك؟ [ ص: 140 ] قيل : ذلك عداوة النسطورية واليعقوبية ، الملكية ، والملكية النسطورية واليعقوبية . وليس الذي قاله من قال : "معني بذلك إغراء الله بين اليهود والنصارى " ببعيد ، غير أن هذا أقرب عندي ، وأشبه بتأويل الآية ، لما ذكرنا .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ( 14 ) )
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : اعف عن هؤلاء الذين هموا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك واصفح ، فإن الله عز وجل من وراء الانتقام منهم ، وسينبئهم الله عند ورودهم عليه في معادهم بما كانوا في الدنيا يصنعون من نقضهم ميثاقه ، ونكثهم عهده ، وتبديلهم كتابه ، وتحريفهم أمره ونهيه ، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير )
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره لجماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أهل الكتاب" من اليهود والنصارى "قد جاءكم رسولنا" ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، كما : - [ ص: 141 ]
11608 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا " ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : " يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب " ، يقول : يبين لكم محمد رسولنا كثيرا مما كنتم تكتمونه الناس ولا تبينونه لهم مما في كتابكم . وكان مما يخفونه من كتابهم فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس رجم الزانيين المحصنين .
وقيل : إن هذه الآية نزلت في تبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك للناس من إخفائهم ذلك من كتابهم .
ذكر من قال ذلك :
11609 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يحيى بن واضح قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : من كفر بالرجم ، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب . قوله : " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب " ، فكان الرجم مما أخفوا . .
11610 - حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه ، أخبرنا علي بن الحسن قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله . . [ ص: 142 ]
11611 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة في قوله : " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم " ، إلى قوله : "صراط مستقيم" ، قال : إن نبي الله أتاه اليهود يسألونه عن الرجم ، واجتمعوا في بيت ، قال : أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا ، فقال : أنت أعلمهم؟ قال : سل عما شئت ، قال ، "أنت أعلمهم؟" قال : إنهم ليزعمون ذلك! قال : فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى ، والذي رفع الطور ، وناشده بالمواثيق التي أخذت عليهم ، حتى أخذه أفكل ، فقال : إن نساءنا نساء حسان ، فكثر فينا القتل ، فاختصرنا أخصورة ، فجلدنا مائة ، وحلقنا الرءوس ، وخالفنا بين الرءوس إلى الدواب . أحسبه قال الإبل ، قال : فحكم عليهم بالرجم ، فأنزل الله فيهم : "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم" ، الآية وهذه الآية : ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) [ ص: 143 ] [ سورة البقرة : 76 ] .
وقوله : "ويعفو عن كثير" يعني بقوله : "ويعفو" ، ويترك أخذكم بكثير مما كنتم تخفون من كتابكم الذي أنزله الله إليكم ، وهو التوراة ، فلا تعملون به حتى يأمره الله بأخذكم به . .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ( 15 ) )
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب : "قد جاءكم" ، يا أهل التوراة والإنجيل"من الله نور" ، يعني بالنور ، محمدا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به الحق ، وأظهر به الإسلام ، ومحق به الشرك ، فهو نور لمن استنار به يبين الحق . ومن إنارته الحق تبيينه لليهود كثيرا مما كانوا يخفون من الكتاب .
وقوله : "وكتاب مبين" ، يقول : جل ثناؤه : قد جاءكم من الله تعالى النور الذي أنار لكم به معالم الحق ، "وكتاب مبين" ، يعني كتابا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم : من توحيد الله ، وحلاله وحرامه ، وشرائع دينه ، وهو القرآن الذي أنزله [ ص: 144 ] على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، يبين للناس جميع ما بهم الحاجة إليه من أمر دينهم ، ويوضحه لهم ، حتى يعرفوا حقه من باطله .
القول في تأويل قوله عز ذكره ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام )
قال أبو جعفر : يعني عز ذكره : يهدي بهذا الكتاب المبين الذي جاء من الله جل جلاله ويعني بقوله : "يهدي به الله" يرشد به الله ويسدد به ، و"الهاء" في قوله : "به" عائدة على"الكتاب" "من اتبع رضوانه" ، يقول : من اتبع رضى الله .
واختلف في معنى"الرضى" من الله جل وعز .
فقال بعضهم : الرضى منه بالشيء" القبول له والمدح والثناء . قالوا : فهو قابل الإيمان ، ومزك له ، ومثن على المؤمن بالإيمان ، وواصف الإيمان بأنه نور وهدى وفصل .
وقال آخرون : معنى"الرضى" من الله جل وعز معنى مفهوم ، هو [ ص: 145 ] خلاف السخط ، وهو صفة من صفاته على ما يعقل من معاني : "الرضى" الذي هو خلاف السخط ، وليس ذلك بالمدح ، لأن المدح والثناء قول ، وإنما يثنى ويمدح ما قد رضي . قالوا : فالرضى معنى ، و"الثناء" و"المدح" معنى ليس به .
ويعني بقوله : "سبل السلام" ، طرق السلام و"السلام" ، هو الله عز ذكره .
11612 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "من اتبع رضوانه سبل السلام" ، سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه ، وابتعث به رسله ، وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملا إلا به ، لا اليهودية ، ولا النصرانية ، ولا المجوسية .
