
08-02-2025, 09:13 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,397
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ هُودٍ
المجلد العاشر
الحلقة( 368)
من صــ 211 الى صـ 225
(وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين (6)
سئل شيخ الإسلام عن الرزق: هل يزيد أو ينقص؟ وهل هو ما أكل أو ما ملكه العبد؟
فأجاب: الرزق نوعان:
أحدهما: ما علمه الله أنه يرزقه فهذا لا يتغير.
والثاني ما كتبه وأعلم به الملائكة فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب فإن العبد يأمر الله الملائكة أن تكتب له رزقا وإن وصل رحمه زاده الله على ذلك كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من سره أن يبسط له في رزقه. وينسأ له في أثره فليصل رحمه}. وكذلك عمر داود زاد ستين سنة فجعله الله مائة بعد أن كان أربعين.
ومن هذا الباب قول عمر: اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت.
ومن هذا الباب قوله تعالى عن نوح: {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} {يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى}. وشواهده كثيرة. والأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدره الله وكتبه فإن كان قد تقدم بأنه يرزق العبد بسعيه واكتسابه ألهمه السعي والاكتساب وذلك الذي قدره له بالاكتساب لا يحصل بدون الاكتساب وما قدره له بغير اكتساب كموت موروثه يأتيه به بغير اكتساب والسعي سعيان: سعي فيما نصب للرزق؛ كالصناعة والزراعة والتجارة. وسعي بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك؛ فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
فصل:
والرزق يراد به شيئان: أحدهما ما ينتفع به العبد.
والثاني: ما يملكه العبد فهذا الثاني هو المذكور في قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} وقوله: {وأنفقوا من ما رزقناكم} وهذا هو الحلال الذي ملكه الله إياه.
وأما الأول: فهو المذكور في قوله: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} وقوله صلى الله عليه وسلم {إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها} ونحو ذلك. والعبد قد يأكل الحلال والحرام فهو رزق بهذا الاعتبار؛ لا بالاعتبار الثاني وما اكتسبه ولم ينتفع به هو رزق بالاعتبار الثاني دون الأول. فإن هذا في الحقيقة مال وارثه لا ماله والله أعلم.
وسئل عن الخمر والحرام:
هل هو رزق الله للجهال؟ أم يأكلون ما قدر لهم؟.
فأجاب:
أن لفظ " الرزق " يراد به ما أباحه الله تعالى للعبد وملكه إياه ويراد به ما يتغذى به العبد. (فالأول كقوله: {وأنفقوا من ما رزقناكم} {ومما رزقناهم ينفقون} فهذا الرزق هو الحلال والمملوك لا يدخل فيه الخمر والحرام.
و (الثاني كقوله: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها}. والله تعالى يرزق البهائم ولا توصف بأنها تملك ولا بأنه أباح الله ذلك لها إباحة شرعية؛ فإنه لا تكليف على البهائم - وكذلك الأطفال والمجانين - لكن ليس بمملوك لها وليس بمحرم عليها وإنما المحرم بعض الذي يتغذى به العبد وهو من الرزق الذي علم الله أنه يتغذى به وقدر ذلك بخلاف ما أباحه وملكه كما في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح. قال: فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها}. والرزق الحرام مما قدره الله وكتبته الملائكة وهو مما دخل تحت مشيئة الله وخلقه وهو مع ذلك قد حرمه ونهى عنه فلفاعله من غضبه وذمه وعقوبته ما هو أهله - والله أعلم.
(وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ... (7)
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء} " فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تقدير خلق هذا العالم المخلوق في ستة أيام وكان حينئذ عرشه على الماء. كما أخبر بذلك القرآن والحديث المتقدم الذي رواه البخاري في صحيحه؛ عن عمران رضي الله عنه.
ومن هذا: الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب قال: وما أكتب.
قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة} " فهذا القلم خلقه لما أمره بالتقدير المكتوب قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان مخلوقا قبل خلق السموات والأرض وهو أول ما خلق من هذا العالم وخلقه بعد العرش كما دلت عليه النصوص وهو قول جمهور السلف كما ذكرت أقوال السلف في غير هذا الموضع.
(أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (17)
وقال:
فصل:
وقوله تعالى {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} وهذا يعم جميع من هو على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه. فالبينة العلم النافع والشاهد الذي يتلوه العمل الصالح وذلك يتناول الرسول ومن اتبعه إلى يوم القيامة فإن الرسول على بينة من ربه ومتبعيه على بينة من ربه. وقال في حق الرسول: {قل إني على بينة من ربي} وقال في حق المؤمنين: {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} فذكر هذا بعد أن ذكر الصنفين في أول السورة فقال: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم} {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم} الآيات. إلى قوله: {أفمن كان على بينة من ربه}.
وقال أبو الدرداء: لا تهلك أمة حتى يتبعوا أهواءهم ويتركوا ما جاءتهم به أنبياؤهم من البينات والهدى وقال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} فمن اتبعه يدعو إلى الله على بصيرة والبصيرة هي البينة. وقال: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} الآية. فالنور الذي يمشي في الناس هو البينة والبصيرة وقال: {الله نور السماوات والأرض} الآية. قال أبي بن كعب وغيره: هو مثل نور المؤمن وهو نوره الذي في قلب عبده المؤمن الناشئ عن العلم النافع والعمل الصالح. وذلك بينة من ربه.
وقال: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} فهذا النور الذي هو عليه وشرح الصدر للإسلام هو البينة من ربه وهو الهدى المذكور في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} واستعمل في هذا حرف الاستعلاء لأن القلب لا يستقر ولا يثبت إلا إذا كان عالما موقنا بالحق فيكون العلم والإيمان صبغة له ينصبغ بها كما قال: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة} ويصير مكانة له كما قال: {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون} والمكان والمكانة قد يراد به ما يستقر الشيء عليه وإن لم يكن محيطا به كالسقف مثلا وقد يراد به ما يحيط به.
فالمهتدون لما كانوا على هدى من ربهم ونور وبينة وبصيرة صار مكانة لهم استقروا عليها وقد تحيط بهم بخلاف الذين قال فيهم: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} فإن هذا ليس ثابتا مستقرا مطمئنا بل هو كالواقف على حرف الوادي وهو جانبه فقد يطمئن إذا أصابه خير وقد ينقلب على وجهه ساقطا في الوادي. وكذلك فرق بين من {أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان} وبين {من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم} وكذلك الذين كانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها وشواهد هذا كثير. فقد تبين أن الرسول ومن اتبعه على بينة من ربهم وبصيرة وهدى ونور وهو الإيمان الذي في قلوبهم والعلم والعمل الصالح ثم قال: {ويتلوه شاهد منه} والضمير في (منه عائد إلى الله تعالى أي: ويتلو هذا الذي هو على بينة من ربه شاهد من الله والشاهد من الله كما أن البينة التي هو عليها المذكورة من الله أيضا.
وأما قول من قال: " الشاهد " من نفس المذكور وفسره بلسانه أو بعلي بن أبي طالب فهذا ضعيف لأن كون شاهد الإنسان منه لا يقتضي أن يكون الشاهد صادقا فإنه مثل شهادة الإنسان لنفسه بخلاف ما إذا كان الشاهد من الله فإن الله يكون هو الشاهد وهذا كما قيل في قوله: {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} إنه علي فهذا ضعيف لأن شهادة قريب له قد اتبعه على دينه ولم يهتد إلا به لا تكون برهانا للصدق ولا حجة على الكفر بخلاف شهادة من عنده علم الكتاب الأول فإن هؤلاء شهادتهم برهان ورحمة كما قال في هذه السورة: {ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة} وقال: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} وقال: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} الآية.
وقال: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} وهذا الشاهد من الله هو القرآن.
ومن قال: إنه جبريل فجبريل لم يقل شيئا من تلقاء نفسه بل هو الذي بلغ القرآن عن الله وجبريل يشهد أن القرآن منزل من الله وأنه حق كما قال: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا} والذي قال هو جبريل. قال: يتلوه أي يقرؤه كما قال: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} أي إذا قرأه جبريل فاتبع ما قرأه. وقال: {علمه شديد القوى}.
ومن قال: الشاهد لسانه وجعل الضمير المذكور عائدا على القرآن ولم يذكر لأنه جعل البينة هي القرآن ولو كانت البينة هي القرآن لما احتاج إلى ذلك وقد قال: على بينة من ربه فقد ذكر أن القرآن من الله وقد علم أنه نزل به جبريل على محمد وكلاهما بلغه وقرأه فقوله: {ويتلوه} جبريل أو محمد تكرير لا فائدة فيه ولهذا لم يذكر مثل ذلك في القرآن.
وأيضا فكونه على القرآن لم نجد لذلك نظيرا في القرآن فإن القرآن كلام الله واحد لا يكون عليه وإذا كان المراد على الإيمان بالقرآن والعمل به فهذا الذي ذكرناه: أن البينة هي الإيمان بما جاء به الرسول وهو إخباره أنه رسول الله وأن الله أنزل القرآن عليه. ولما أنزلت هذه السورة وهي مكية لم يكن قد نزل من القرآن قبلها إلا بعضه وكان المأمور به حينئذ هو الإيمان بما نزل منه فمن آمن حينئذ بذلك ومات على ذلك كان من أهل الجنة.
وأيضا فتسمية جبريل شاهدا لا نظير له في القرآن وكذلك تسمية لسان الرسول شاهدا وتسمية علي شاهدا لا يوجد مثل ذلك في الكتاب والسنة بخلاف شهادة الله فإن الله أخبر بشهادته لرسوله في غير موضع وسمى ما أنزله شهادة منه في قوله: {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} فدل على أن كلام الله الذي أنزله وأخبر فيه بما أخبر شهادة منه.
وهو سبحانه يحكم ويشهد ويفتي ويقص ويبشر ويهدي بكلامه ويصف كلامه بأنه يحكم ويفتي ويقص ويهدي ويبشر وينذر كما قال: {قل الله يفتيكم فيهن} {قل الله يفتيكم في الكلالة} وقال: {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون} وقال: {نحن نقص عليك أحسن القصص} وقال: {قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين} وقال: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}. وكذلك سمى الرسول هاديا فقال: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} كما سماه بشيرا ونذيرا وسمى القرآن بشيرا ونذيرا فكذلك لما كان هو يشهد للرسول والمؤمنين بكلامه الذي أنزله وكان كلامه شهادة منه: كان كلامه شاهدا منه كما كان يحكم ويفتي ويقص ويبشر وينذر.
ولما قيل لعلي بن أبي طالب حكمت مخلوقا قال: ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن. فإن الذي يحكم به القرآن هو حكم الله والذي يشهد به القرآن هو شهادة الله عز وجل. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم - وقد كان إماما وأخذ التفسير عن أبيه زيد وكان زيد إماما فيه ومالك وغيره أخذوا عنه التفسير وأخذه عنه عبد الله ابن وهب صاحب مالك وأصبغ بن الفرج الفقيه. قال - في قوله تعالى {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} : قال رسول الله: " كان على بينة من ربه " والقرآن يتلوه شاهد أيضا؛ لأنه من الله. وقد ذكر الزجاج فيما ذكره من الأقوال: ويتلو رسول الله القرآن وهو شاهد من الله.
وقال أبو العالية: {أفمن كان على بينة من ربه} هو محمد {ويتلوه شاهد منه} القرآن قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية ومجاهد وأبي صالح وإبراهيم وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي وخصيف وابن عيينة نحو ذلك. وهذا الذي قالوه صحيح؛ ولكن لا يقتضي ذلك أن المتبعين له ليسوا على بينة من ربهم؛ بل هم على بينة من ربهم. وقد قال الحسن البصري: {أفمن كان على بينة من ربه} قال: المؤمن على بينة من ربه ورواه ابن أبي حاتم وروي عن الحسين بن علي {ويتلوه شاهد منه} يعني محمدا شاهد من الله؛ وهي تقتضي أن يكون الذي على البينة من شهد له.
وقول القائل: من قال هو محمد كقول من قال هو جبريل؛ فإن كلاهما بلغ القرآن والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس فاصطفى جبريل من الملائكة واصطفى محمدا من الناس. وقال في جبريل: {إنه لقول رسول كريم} وقال في محمد: {إنه لقول رسول كريم} وكلاهما رسول من الله؛ كما قال {حتى تأتيهم البينة} {رسول من الله يتلو صحفا مطهرة} {فيها كتب قيمة} فكلاهما رسول من الله بلغ ما أرسل به وهو يشهد أن ما جاء به هو كلام الله وأما شهادتهم بما شهد به القرآن فهذا قدر مشترك بين كل من آمن بالقرآن فإنه يشهد بكل ما شهد به القرآن؛ لكونه آمن به سواء كان قد بلغه أو لم يبلغه.
ولهذا كان إيمان الرسول بما جاء به غير تبليغه له وهو مأمور بهذا وبهذا وله أجر على هذا وهذا كما قال: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} ولهذا كان يقول أشهد أني عبد الله ورسوله فشهادة جبريل ومحمد بما شهد به القرآن من جهة إيمانهما به لا من جهة كونهما مرسلين به فإن الإرسال به يتضمن شهادتهما أن الله قاله وقد يرسل غير رسول بشيء فيشهد الرسول أن هذا كلام المرسل وإن لم يكن المرسل صادقا ولا حكيما؛ ولكن علم أن جبريل ومحمدا يعلمان أن الله صادق حكيم فهما يشهدان بما شهد الله به.
وكذلك الملائكة والمؤمنون يشهدون بأن ما قاله الله فهو حق وأن الله صادق حكيم لا يخبر إلا بصدق ولا يأمر إلا بعدل {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا}. فقد تبين أن شهادة جبريل ومحمد هي شهادة القرآن وشهادة القرآن هي شهادة الله تعالى والقرآن شاهد من الله وهذا الشاهد يوافق ويتبع ذلك الذي على بينة من ربه؛ فإن البينة والبصيرة والنور والهدى الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون قد شهد القرآن المنزل من الله بأن ذلك حق. {ويتلوه} معناه يتبعه كما قال: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} أي يتبعونه حق اتباعه وقال: {والقمر إذا تلاها} أي تبعها وهذا قفاه إذا تبعه. وقد قال: {ولا تقف ما ليس لك به علم} فهذا الشاهد يتبع الذي على بينة من ربه فيصدقه ويزكيه ويؤيده ويثبته كما قال: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا} وقال: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} وقال: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه}.
وقد سمى الله القرآن سلطانا في غير موضع فإذا كان السلطان المنزل من الله يتبع هذا المؤمن كان ذلك مما يوجب قوته وتسلطه علما وعملا وقال: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}{وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا} الآية. وقال جندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا فهم كانوا يتعلمون الإيمان ثم يتعلمون القرآن. وقال بعضهم في قوله: {نور على نور} قال: نور القرآن على نور الإيمان كما قال: {ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} وقال السدي في قوله: {نور على نور} نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه.
فتبين أن قوله: {أفمن كان على بينة من ربه} يعني هدى الإيمان {ويتلوه شاهد منه} أي من الله يعني القرآن شاهد من الله يوافق الإيمان ويتبعه وقال: {يتلوه} لأن الإيمان هو المقصود؛ لأنه إنما يراد بإنزال القرآن الإيمان وزيادته.
ولهذا كان الإيمان بدون قراءة القرآن ينفع صاحبه ويدخل به الجنة والقرآن بلا إيمان لا ينفع في الآخرة؛ بل صاحبه منافق؛ كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها} ". ولهذا جعل الإيمان " بينة " وجعل القرآن شاهدا؛ لأن البينة من البيان و " البينة " هي السبيل البينة وهي الطريق البينة الواضحة وهي أيضا ما يبين بها الحق فهي بينة في نفسها مبينة لغيرها وقد تفسر بالبيان وهي الدلالة والإرشاد؛ فتكون كالهدى كما يقال: فلان على هدى وعلى علم؛ فيفسر بمعنى المصدر والصفة والفاعل.
ومنه قوله: {أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} أي بيان ما فيها أو يبين ما فيها أو الأمر البين فيها وقد سمى الرسول بينة كما قال: {حتى تأتيهم البينة} {رسول من الله} فإنه يبين الحق والمؤمن على سبيل بينة ونور من ربه والشاهد المقصود به شهادته للمشهود له فهو يشهد للمؤمن بما هو عليه وجعل الإيمان من الله كما جعل الشاهد من الله لأن الله أنزل الإيمان في جذر قلوب الرجال كما في الصحيحين عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " {إن الله أنزل الإيمان في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة} ".
وأيضا: فالإيمان ما قد أمر الله به.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|