عرض مشاركة واحدة
  #365  
قديم 07-02-2025, 07:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,397
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يُونُسَ
المجلد العاشر
الحلقة( 365)

من صــ 166 الى صـ 180




ومعلوم أن الله قد جازى خلقا على أعمالهم في الدنيا بخير وشر كما جازى قوم نوح وعاد وثمود وفرعون؛ وكما جازى الأنبياء وأتباعهم ولم يقل مسلم إن لقاء هذه الأمور في الدنيا لقاء الله ولو قال قائل إن لقاء الله جزاء مخصوص وهو الجنة مثلا أو النار لقيل له ليس في لفظ هذا لقاء مخصوص ولا دليل عليه وليس هو بأولى من أن يقال لقاء الله تعالى لقاء بعض ملائكته أو بعض الشياطين وأمثال ذلك من التحكمات الموجودة في الدنيا والآخرة؛ إذ ليس دلالة اللفظ على تعيين هذا بأولى من دلالته على تعيين هذا فبطل ذلك. الوجه السابع: أن " لقاء الله " لم يستعمل في لقاء غيره لا حقيقة ولا مجازا ولا استعمل لقاء زيد في لقاء غيره أصلا؛ بل حيث ذكر هذا اللفظ فإنما يراد به لقاء المذكور؛ إذ ما سواه لا يشعر اللفظ به فلا يدل عليه. الوجه الثامن: أن قوله:
{هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما} {تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما} فلو كان " اللقاء " هو لقاء جزائه لكان هو لقاء الأجر الكريم الذي أعد لهم وإذا أخبر بأنهم يلقون ذلك لم يحسن بعد ذلك الإخبار بإعداده؛ إذ الإعداد مقصوده الوصول فكيف يخبر بالوسيلة بعد حصول المقصود؟ هذا نزاع بين العي الذي يصان عنه كلام أوسط الناس فضلا عن كلام رب العالمين؛ لا سيما وقد قرن اللقاء بالتحية وذلك لا يكون إلا في اللقاء المعروف؛ لا في حصول شيء من النعيم المخلوق.
الوجه التاسع: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:

{من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه} أخبر فيه أن الله يحب لقاء عبد ويكره لقاء عبد وهذا يمتنع حمله على الجزاء؛ لأن الله لا يكره جزاء أحد ولأن الجزاء لا يلقاه الله؛ ولأنه إن جاز أن يلقى بعض المخلوق كالجزاء أو غيره جاز أن يلقى العبد فالمحذور الذي يذكر في لقاء العبد موجود في لقائه سائر المخلوقات فهذا تعطيل النص. وإما أن يقال: بل هو لاق لبعضها فيتناقض قول الجهمي ويبطل. ودلائل بطلان هذا القول لا تكاد تحصى يضيق هذا الاستفتاء عن ذكر كثير منها فضلا عن أكثرها.
(قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (35)
فبين سبحانه بما هو مستقر في الفطر أن الذي يهدي إلى الحق أحق بالاتباع ممن لا يهتدي إلا أن يهديه غيره؛ فلزم أن يكون الهادي بنفسه هو الكامل؛ دون الذي لا يهتدي إلا بغيره. وإذا كان لا بد من وجود الهادي لغير المهتدي بنفسه فهو الأكمل وقال تعالى في الآية الأخرى: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} فدل على أن الذي يرجع إليه القول ويملك الضر والنفع: أكمل منه. وقال إبراهيم لأبيه: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} فدل على أن السميع البصير الغني أكمل وأن المعبود يجب أن يكون كذلك. ومثل هذا في القرآن متعدد من وصف الأصنام بسلب " صفات الكمال " كعدم التكلم والفعل وعدم الحياة ونحو ذلك مما يبين أن المتصف بذلك منتقص معيب كسائر الجمادات وأن هذه الصفات لا تسلب إلا عن ناقص معيب.

وأما " رب الخلق " الذي هو أكمل من كل موجود فهو أحق الموجودات بصفات الكمال وأنه لا يستوي المتصف بصفات الكمال والذي لا يتصف بها؛ وهو يذكر أن الجمادات في العادة لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات. فمن جعل الواجب الوجود لا يقبل الاتصاف: فقد جعله من جنس الأصنام الجامدة التي عابها الله تعالى وعاب عابديها. ولهذا كانت " القرامطة الباطنية " من أعظم الناس شركا وعبادة لغير الله؛ إذ كانوا لا يعتقدون في إلههم أنه يسمع أو يبصر أو يغني عنهم شيئا. والله سبحانه لم يذكر هذه النصوص لمجرد تقرير صفات الكمال له بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه فأفاد (الأصلين اللذين بهما يتم التوحيد: وهما إثبات صفات الكمال ردا على أهل التعطيل وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو ردا على المشركين. والشرك في العالم أكثر من التعطيل؛ ولا يلزم من إثبات " التوحيد " المنافي للإشراك إبطال قول أهل التعطيل؛ ولا يلزم من مجرد الإثبات المبطل لقول المعطلة الرد على المشركين إلا ببيان آخر.
والقرآن يذكر فيه الرد على المعطلة تارة؛ كالرد على فرعون وأمثاله؛ ويذكر فيه الرد على المشركين وهذا أكثر لأن القرآن شفاء لما في الصدور. ومرض الإشراك أكثر في الناس من مرض التعطيل وأيضا فإن الله سبحانه أخبر أن له الحمد وأنه حميد مجيد وأن له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم ونحو ذلك من أنواع المحامد.
و " الحمد نوعان ": حمد على إحسانه إلى عباده. وهو من الشكر؛ وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله وهذا الحمد لا يكون إلا على ما هو في نفسه مستحق للحمد وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال وهي أمور وجودية فإن الأمور العدمية المحضة لا حمد فيها ولا خير ولا كمال. ومعلوم أن كل ما يحمد فإنما يحمد على ما له من صفات الكمال فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد فثبت أنه المستحق للمحامد الكاملة وهو أحق من كل محمود بالحمد والكمال من كل كامل وهو المطلوب.
(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)
فصل:
و " أولياء الله " هم {الذين آمنوا وكانوا يتقون} كما ذكر الله تعالى في كتابه. وهم " قسمان ": المقتصدون أصحاب اليمين والمقربون السابقون. فولي الله ضد عدو الله قال الله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {الذين آمنوا وكانوا يتقون} وقال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} - إلى قوله - {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} وقال تعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} وقال: {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون} وقال: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه}.
و " الولي " مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العدو من العدو وهو البعد. فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح الصنفين المقتصدين من أصحاب اليمين وهم المتقربون إلى الله بالواجبات والسابقين المقربين وهم المتقربون إليه بالنوافل بعد الواجبات. وذكر الله " الصنفين " في " سورة فاطر " و " الواقعة " و " الإنسان " و " المطففين " وأخبر أن الشراب الذي يروى به المقربون بشربهم إياه صرفا يمزج لأصحاب اليمين.
و " الولي المطلق " هو من مات على ذلك. فأما إن قام به الإيمان والتقوى وكان في علم الله أنه يرتد عن ذلك فهل يكون في حال إيمانه وتقواه وليا لله أو يقال لم يكن وليا لله قط لعلم الله بعاقبته؟ هذا فيه قولان للعلماء.

فصل:
وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم وأفضل المرسلين أولو العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} وقال تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} {ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما}.

وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون وصاحب لواء الحمد وصاحب الحوض المورود وشفيع الخلائق يوم القيامة وصاحب الوسيلة والفضيلة الذي بعثه بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم وهم آخر الأمم خلقا وأول الأمم بعثا كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم؛ فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه - يعني يوم الجمعة - فهدانا الله له: الناس لنا تبع فيه غدا لليهود وبعد غد للنصارى}. وقال صلى الله عليه وسلم {أنا أول من تنشق عنه الأرض} وقال صلى الله عليه وسلم {آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت. فأقول أنا محمد فيقول بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك}.

وفضائله صلى الله عليه وسلم وفضائل أمته كثيرة ومن حين بعثه الله جعله الله الفارق بين أوليائه وبين أعدائه فلا يكون وليا لله إلا من آمن به وبما جاء به واتبعه باطنا وظاهرا ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله؛ بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}.

قال الحسن البصري رحمه الله ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من أولياء الله وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه. قال تعالى: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق} الآية. وقال تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم} إلى قوله {ولا هم يحزنون}.
وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت وكانوا يستكبرون به على غيرهم كما قال تعالى {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون} {مستكبرين به سامرا تهجرون} وقال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك} إلى قوله {وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون} فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته إنما أولياؤه المتقون.
فصل:
وأولياء الله على " طبقتين " سابقون مقربون وأصحاب يمين مقتصدون.
ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان؛ والمطففين وفي سورة فاطر فإنه سبحانه وتعالى ذكر في الواقعة القيامة الكبرى في أولها وذكر القيامة الصغرى في آخرها فقال في أولها {إذا وقعت الواقعة} {ليس لوقعتها كاذبة} {خافضة رافعة} {إذا رجت الأرض رجا} {وبست الجبال بسا} {فكانت هباء منبثا} {وكنتم أزواجا ثلاثة} {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة} {وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة} {والسابقون السابقون} {أولئك المقربون} {في جنات النعيم} {ثلة من الأولين} {وقليل من الآخرين} فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين كما وصف الله سبحانه ذلك في كتابه في غير موضع. ثم قال تعالى في آخر السورة: فلولا أي: فهلا {إذا بلغت الحلقوم} {وأنتم حينئذ تنظرون} {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} {فلولا إن كنتم غير مدينين} {ترجعونها إن كنتم صادقين}

{فأما إن كان من المقربين} {فروح وريحان وجنة نعيم} {وأما إن كان من أصحاب اليمين} {فسلام لك من أصحاب اليمين} {وأما إن كان من المكذبين الضالين} {فنزل من حميم} {وتصلية جحيم} {إن هذا لهو حق اليقين} {فسبح باسم ربك العظيم}.

وقال تعالى في سورة الإنسان: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} {إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا} {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا} {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} {يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا} {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} {إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا} {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا} {وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا} الآيات.

وكذلك ذكر في سورة المطففين فقال: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} إلى أن قال: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} {وما أدراك ما عليون} {كتاب مرقوم} {يشهده المقربون} {إن الأبرار لفي نعيم} {على الأرائك ينظرون} {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} {يسقون من رحيق مختوم} {ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} {ومزاجه من تسنيم} {عينا يشرب بها المقربون}.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف قالوا يمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشرب بها المقربون صرفا وهو كما قالوا. فإنه تعالى قال {يشرب بها} ولم يقل: يشرب منها لأنه ضمن ذلك قوله يشرب يعني يروى بها فإن الشارب قد يشرب ولا يروى فإذا قيل يشربون منها لم يدل على الري فإذا قيل يشربون بها كان المعنى يروون بها فالمقربون يروون بها فلا يحتاجون معها إلى ما دونها؛ فلهذا يشربون منها صرفا بخلاف أصحاب اليمين فإنها مزجت لهم مزجا وهو كما قال تعالى في سورة الإنسان {كان مزاجها كافورا} {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا}.
فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة؛ وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه} رواه مسلم في صحيحه.
وأولياء الله تعالى على نوعين: مقربون وأصحاب يمين كما تقدم. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عمل القسمين في حديث الأولياء فقال {يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها}. فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض يفعلون ما أوجب الله عليهم ويتركون ما حرم الله عليهم ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات؛ ولا الكف عن فضول المباحات. وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ففعلوا
الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبا تاما كما قال تعالى: {ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه} يعني الحب المطلق كقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} أي أنعم عليهم الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله عز وجل فكانت أعمالهم كلها عبادات لله فشربوا صرفا كما عملوا له صرفا، والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم فلا يعاقبون عليه ولا يثابون عليه فلم يشربوا صرفا؛ بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا.
ونظير هذا انقسام الأنبياء عليهم السلام إلى عبد رسول ونبي ملك وقد خير الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبدا رسولا وبين أن يكون نبيا ملكا فاختار أن يكون عبدا رسولا فالنبي الملك مثل داود وسليمان ونحوهما عليهما الصلاة والسلام قال الله تعالى في قصة سليمان الذي {قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب} {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} {والشياطين كل بناء وغواص} {وآخرين مقرنين في الأصفاد} {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب}أي أعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك فالنبي الملك يفعل ما فرض الله عليه ويترك ما حرم الله عليه ويتصرف في الولاية والمال بما يحبه ويختار من غير إثم عليه. وأما العبد الرسول فلا يعطي أحدا إلا بأمر ربه ولا يعطي من يشاء ويحرم من يشاء بل روي عنه أنه قال {إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت} ولهذا يضيف الله الأموال الشرعية إلى الله والرسول كقوله تعالى: {قل الأنفال لله والرسول} وقوله تعالى {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول} وقوله تعالى {واعلموا أنما
غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول}.
ولهذا كان أظهر أقوال العلماء أن هذه الأموال تصرف فيما يحبه الله ورسوله بحسب اجتهاد ولي الأمر كما هو مذهب مالك وغيره من السلف ويذكر هذا رواية عن أحمد وقد قيل في الخمس أنه يقسم على خمسة كقول الشافعي وأحمد في المعروف عنه وقيل: على ثلاثة كقول أبي حنيفة رحمه الله.
و " المقصود هنا " أن العبد الرسول هو أفضل من النبي الملك كما أن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام أفضل من يوسف وداود وسليمان عليهم السلام كما أن المقربين السابقين أفضل من الأبرار أصحاب اليمين الذين ليسوا مقربين سابقين فمن أدى ما أوجب الله عليه وفعل من المباحات ما يحبه فهو من هؤلاء ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه ويقصد أن يستعين بما أبيح له على ما أمره الله فهو من أولئك.

(فصل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
أولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر؛ ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه فيؤيدهم بملائكته وروح منه ويقذف الله في قلوبهم من أنواره ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين.
وخيار أولياء الله كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم كذلك.

وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم مثل انشقاق القمر وتسبيح الحصا في كفه وإتيان الشجر إليه وحنين الجذع إليه وإخباره ليلة المعراج بصفة بيت المقدس وإخباره بما كان وما يكون وإتيانه بالكتاب العزيز وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة كما أشبع في الخندق العسكر من قدر طعام وهو لم ينقص في حديث أم سلمة المشهور وأروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص وهم نحو ثلاثين ألفا ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتى كفى الناس الذين كانوا معه كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة أو خمسمائة ورده لعين أبي قتادة حين سالت على خده فرجعت أحسن عينيه ولما أرسل محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف فوقع وانكسرت رجله فمسحها فبرئت (*)
وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلا كلا منهم حز له قطعة وجعل منها قطعتين فأكلوا منها جميعهم ثم فضل فضلة ودين عبد الله أبي جابر لليهودي وهو ثلاثون وسقا. قال جابر: فأمر صاحب الدين أن يأخذ التمر جميعه بالذي كان له فلم يقبل فمشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لجابر جد له فوفاه الثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا ومثل هذا كثير قد جمعت نحو ألف معجزة.
__________
Qقال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 96 - 98):
المعروف أن هذا وقع لعبد الله بن عتيك رضي الله عنه في قتل ابن أبي الحقيق، فلعل هذا سبق قلم، فقد ورد في صحيح البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبى رافع اليهودى رجالا من الأنصار، فأمر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعين عليه، وكان فى حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه، وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم فقال عبد الله لأصحابه اجلسوا مكانكم، فإنى منطلق، ومتلطف للبواب، لعلى أن أدخل. فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضى حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإنى أريد أن أغلق الباب. فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على وتد قال فقمت إلى الأقاليد، فأخذتها ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان فى علالى له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت على من داخل، قلت إن القوم نذروا بى لم يخلصوا إلى حتى أقتله. فانتهيت إليه، فإذا هو فى بيت مظلم وسط عياله، لا أدرى أين هو من البيت فقلت يا أبا رافع. قال من هذا فأهويت نحو الصوت، فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش فما أغنيت شيئا، وصاح فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد ثم دخلت إليه فقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع. فقال لأمك الويل، إن رجلا فى البيت ضربنى قبل بالسيف، قال فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ظبة السيف فى بطنه حتى أخذ فى ظهره، فعرفت أنى قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلى وأنا أرى أنى قد انتهيت إلى الأرض فوقعت فى ليلة مقمرة، فانكسرت ساقى، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته فلما صاح الديك قام الناعى على السور فقال أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز. فانطلقت إلى أصحابى فقلت النجاء، فقد قتل الله أبا رافع. فانتهيت إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فحدثته فقال «ابسط رجلك». فبسطت رجلى، فمسحها، فكأنها لم أشتكها قط).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.75 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.64%)]