
06-02-2025, 07:50 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 352)
من صــ 476 الى صـ 490
فأما أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنما أسلموا طوعا، والمهاجرون منهم، والأنصار، وهم قاتلوا الناس على الإسلام، ولهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد، بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه حتى ثبتهم الله، وقواهم بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين، وجهاد الكافرين، فالحمد لله الذي من على الإسلام وأهله بصديق الأمة، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله، وحفظه به بعد وفاته، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (103)
وقوله: {خذ من أموالهم} دليل على أن عمل الحسنات يطهر النفس ويزكيها من الذنوب السالفة فإنه قاله بعد قوله: {وآخرون اعترفوا} الآية. فالتوبة والعمل الصالح يحصل بهما التطهير والتزكية ولهذا قال في سياق قوله. {قل للمؤمنين يغضوا} الآيات. {وتوبوا إلى الله} الآية. فأمرهم جميعا بالتوبة في سياق ما ذكره؛ لأنه لا يسلم أحد من هذا الجنس. كما في الصحيح: {إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا} الحديث. وكذلك في الصحيح إن قوله: {إن الحسنات يذهبن السيئات} نزلت بسبب رجل نال من امرأة كل شيء إلا الجماع ثم ندم فنزلت} ويحتاج المسلم في ذلك إلى أن يخاف الله وينهى النفس عن الهوى ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه بل على اتباعه والعمل به فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة لله وعملا صالحا. وثبت عنه أنه قال: {المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله} فيؤمر بجهادها كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها وهو إلى جهاد نفسه أحوج فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية والصبر في هذا من أفضل الأعمال فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك الجهاد فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد. كما قال: {والمهاجر من هجر السيئات}. ثم هذا لا يكون محمودا فيه إلا إذا غلب بخلاف الأول فإنه من يقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما} ولهذا قال صلى الله عليه وسلم {ليس الشديد بالصرعة} إلخ ".
(لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين (108)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قباء كل سبت راكبا وماشيا} وكان ابن عمر يفعله.
زاد نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم {فيصلي فيه ركعتين}. وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه كان يصلي في مسجده يوم الجمعة ويذهب إلى مسجد قباء فيصلي فيه يوم السبت وكلاهما أسس على التقوى وقد قال تعالى: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه سأل أهل قباء عن هذا الطهور الذي أثنى الله عليهم فذكروا أنهم يستنجون بالماء. وفي سنن أبي داود وغيره قال {نزلت هذه الآية في مسجد أهل قباء {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} قال: كانوا يستنجون بالماء. فنزلت فيهم هذه الآية}. وقد ثبت في الصحيح عن {سعد أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى وهو في بيت بعض نسائه فأخذ كفا من حصى فضرب به الأرض ثم قال: هو مسجدكم هذا لمسجد المدينة}. فتبين أن كلا المسجدين أسس على التقوى لكن مسجد المدينة أكمل في هذا النعت فهو أحق بهذا الاسم. ومسجد قباء كان سبب نزول الآية لأنه مجاور لمسجد الضرار الذي نهي عن القيام فيه.
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ... (111)
وأعظم مراتب الإخلاص: تسليم النفس والمال للمعبود كما قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون}.
و (الجنة اسم للدار التي حوت كل نعيم). أعلاه النظر إلى الله إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما قد نعرفه وقد لا نعرفه كما قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر}.
(فصل: كل ما أعده الله للأولياء من نعيم بالنظر إليه وما سوى ذلك هو في الجنة كما أن كل ما وعد به أعداءه هو في النار)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
ذكر عن الشبلي رحمه الله أنه سمع قارئا يقرأ: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}. فصرخ وقال أين مريد الله؟. فيحمد منه كونه أراد الله؛ ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الآخرة ما أرادوا الله؛ وهذه الآية في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه بأحد وهم أفضل الخلق فإن لم يريدوا الله أفيريد الله من هو دونهم؟ كالشبلي؟ وأمثاله. ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشايخ أنه سأل مرة عن قوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} قال: فإذا كانت الأنفس والأموال في ثمن الجنة فالرؤية بم تنال؟ فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال. والواجب أن يعلم أن كل ما أعده الله للأولياء من نعيم بالنظر إليه وما سوى ذلك هو في الجنة كما أن كل ما وعد به أعداءه هو في النار. وقد قال تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بل له ما أطلعتهم عليه} وإذا علم أن جميع ذلك داخل في الجنة فالناس في الجنة على درجات متفاوتة كما قال: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غير ذلك من مطالب الآخرة هو في الجنة. وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق أنبياء الله ورسله وجميع أوليائه السابقين المقربين وأصحاب اليمين.
كما في السنن {أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بعض أصحابه: كيف تقول: في دعائك؟ قال: أقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار؛ أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ. فقال: حولهما ندندن} فقد أخبر أنه هو صلى الله عليه وسلم ومعاذ - وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - إنما يدندنون حول الجنة أفيكون قول أحد فوق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والأنصار ولو طلب هذا العبد ما طلب كان في الجنة.
وأهل الجنة نوعان: سابقون مقربون وأبرار أصحاب يمين. قال تعالى: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} {وما أدراك ما عليون} {كتاب مرقوم} {يشهده المقربون} {إن الأبرار لفي نعيم} {على الأرائك ينظرون} {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} {يسقون من رحيق مختوم}
{ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} {ومزاجه من تسنيم} {عينا يشرب بها المقربون} قال ابن عباس تمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشربها المقربون صرفا. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة} فقد أخبر أن الوسيلة - التي لا تصلح إلا لعبد واحد من عباد الله ورجا أن يكون هو ذلك العبد - هي درجة في الجنة فهل بقي بعد الوسيلة شيء أعلى منها يكون خارجا عن الجنة يصلح للمخلوقين. وثبت في الصحيح أيضا في حديث الملائكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال: {فيقولون للرب تبارك وتعالى: وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك. قال: فيقول: وما يطلبون؟ قالوا: يطلبون الجنة. قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا قال: فيقول: فكيف لو رأوها قال: فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد لها طلبا. قال: ومم يستعيذون قالوا: يستعيذون من النار. قال: فيقول: وهل رأوها قال: فيقولون: لا. قال: فيقول:
فكيف لو رأوها؟ قالوا: لو رأوها لكانوا أشد منها استعاذة. قال: فيقول: أشهدكم أني أعطيتهم ما يطلبون وأعذتهم مما يستعيذون - أو كما قال - قال: فيقولون: فيهم فلان الخطاء جاء لحاجة فجلس معهم قال: فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}.
- فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء الله كان مطلوبهم الجنة ومهربهم من النار. والنبي صلى الله عليه وسلم لما بايع الأنصار ليلة العقبة وكان الذين بايعوه من أفضل السابقين الأولين الذين هم أفضل من هؤلاء المشايخ كلهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اشترط لربك ولنفسك ولأصحابك قال: {أشترط لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم وأشترط لأصحابي أن تواسوهم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنة. قالوا: مد يدك فوالله لا نقيلك ولا نستقيلك}.
وقد قالوا له في أثناء البيعة {إن بيننا وبين القوم حبالا وعهودا وإنا ناقضوها}. فهؤلاء الذين بايعوه من أعظم خلق الله محبة لله ورسوله وبذلا لنفوسهم وأموالهم في رضا الله ورسوله على وجه لا يلحقهم فيه أحد من هؤلاء المتأخرين قد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه ولكن علموا أن في الجنة كل محبوب ومطلوب؛ بل وفي الجنة ما لا تشعر به النفوس لتطلبه فإن الطلب والحب والإرادة فرع عن الشعور والإحساس والتصور فما لا يتصوره الإنسان ولا يحسه ولا يشعر به يمتنع أن يطلبه ويحبه ويريده فالجنة فيها هذا وهذا. كما قال تعالى: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} وقال: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} ففيها ما يشتهون وفيها مزيد على ذلك وهو ما لم يبلغه علمهم ليشتهوه. كما قال صلى الله عليه وسلم {ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر}
وهذا باب واسع. فإذا عرفت هذه " المقدمة " فقول القائل: الرضا ألا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار إن أراد بذلك ألا تسأل الله ما هو داخل في مسمى الجنة الشرعية فلا تسأله النظر إليه ولا غير ذلك مما هو مطلوب جميع الأنبياء والأولياء وإنك لا تستعيذ به من احتجاجه عنك ولا من تعذيبك في النار. فهذا الكلام مع كونه مخالفا لجميع الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين فهو متناقض في نفسه فاسد في صريح العقول. وذلك أن الرضا الذي لا يسأل إنما لا يسأله لرضاه عن الله. ورضاه عنه إنما هو بعد معرفته به ومحبته له. وإذا لم يبق معه رضا عن الله ولا محبة لله فكأنه قال: يرضى ألا يرضى وهذا جمع بين النقيضين. ولا ريب أنه كلام من لم يتصور ما يقول ولا عقله.
(ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
وأما الشفاعة والدعاء فانتفاع العباد به موقوف على شروط وله موانع فالشفاعة للكفار بالنجاة من النار والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم - ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاها - فلا شفيع أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخليل إبراهيم وقد دعا الخليل إبراهيم لأبيه واستغفر له كما قال تعالى عنه {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب}. وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأبي طالب اقتداء بإبراهيم وأراد بعض المسلمين أن يستغفر لبعض أقاربه فأنزل الله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم}.
ثم ذكر الله عذر إبراهيم فقال: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} وثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك.
فيقول إبراهيم: يا رب أنت وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون وأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله عز وجل: إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال: انظر ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار} فهذا لما مات مشركا لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عظم جاهه وقدره وقد قال تعالى للمؤمنين: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم}. فقد أمر الله تعالى المؤمنين بأن يتأسوا بإبراهيم ومن اتبعه إلا في قول إبراهيم لأبيه {لأستغفرن لك} فإن الله لا يغفر أن يشرك به.
وكذلك سيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي}. وفي رواية {أن النبي زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت} وثبت عن أنس في الصحيح {أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال في النار. فلما قفى دعاه فقال إن أبي وأباك في النار}. وثبت أيضا في الصحيح {عن أبي هريرة لما أنزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة أنقذي نفسك من النار. فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها} وفي رواية عنه {يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله؛ فإني لا أغني عنكم من الله شيئا. يا بني عبد المطلب. لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية - عمة رسول الله - لا أغني عنك من الله شيئا. يا فاطمة بنت رسول الله سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا}. {وعن عائشة لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب. لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من مالي ما شئتم}.
وعن {أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله. أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا رسول الله أغثني.
فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك} أخرجاه في الصحيحين وزاد مسلم {لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك}. وفي البخاري عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار فيقول: يا محمد فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغت. ولا يأتي أحدكم ببعير يحمله على رقبته له رغاء فيقول: يا محمد فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغت}. وقوله هنا صلى الله عليه وسلم لا أملك لك من الله شيئا كقول إبراهيم لأبيه {لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء}.
وأما شفاعته ودعاؤه للمؤمنين فهي نافعة في الدنيا والدين باتفاق المسلمين وكذلك شفاعته للمؤمنين يوم القيامة في زيادة الثواب ورفع الدرجات متفق عليها بين المسلمين وقد قيل إن بعض أهل البدعة ينكرها. وأما شفاعته لأهل الذنوب من أمته فمتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم وأنكرها كثير من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والزيدية وقال هؤلاء: من يدخل النار لا يخرج منها
لا بشفاعة ولا غيرها وعند هؤلاء ما ثم إلا من يدخل الجنة فلا يدخل النار ومن يدخل النار فلا يدخل الجنة ولا يجتمع عندهم في الشخص الواحد ثواب وعقاب.
وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة كالأربعة وغيرهم فيقرون بما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج من النار قوما بعد أن يعذبهم الله ما شاء أن يعذبهم يخرجهم بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ويخرج آخرين بشفاعة غيره ويخرج قوما بلا شفاعة.
(لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم (117)
سئل شيخ الإسلام:
عن معنى قوله تعالى {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} الآية. والتوبة إنما تكون عن شيء يصدر من العبد والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر والصغائر.
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية:
الحمد لله، الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون من الإقرار على الذنوب كبارها وصغارها وهم بما أخبر الله به عنهم من التوبة يرفع درجاتهم ويعظم حسناتهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وليست التوبة نقصا؛ بل هي من أفضل الكمالات وهي واجبة على جميع الخلق كما قال تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} فغاية كل مؤمن هي التوبة ثم التوبة تتنوع كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين. والله تعالى قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار: عن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم. فقال آدم:
{ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وقال نوح: {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} وقال الخليل: {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} وقال هو وإسماعيل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم} وقال موسى: {أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك} وقال تعالى: {فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}. وقد ذكر الله سبحانه توبة داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء والله تعالى {يحب التوابين ويحب المتطهرين} وفي أواخر ما أنزل الله على نبيه: {إذا جاء نصر الله والفتح} {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا} {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|