
06-02-2025, 06:00 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,730
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 350)
من صــ 446 الى صـ 460
ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد، ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة.
وأما علي وسائر بني هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه، لكن تخلف فإنه كان يريد الإمرة لنفسه رضي الله عنهم أجمعين، ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين، لم يقاتل مسلمين، بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة، وأخذ يزيد الإسلام فتوحا، وشرع في قتال فارس والروم، ومات والمسلمون محاصرو دمشق، وخرج منها أزهد مما دخل فيها: لم يستأثر عنهم بشيء، ولا أمر له قرابة.
ثم ولي عليهم عمر بن الخطاب ففتح الأمصار، وقهر الكفار، وأعز أهل الإيمان، وأذل أهل النفاق والعدوان، ونشر الإسلام والدين، وبسط العدل في العالمين، ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين، ومصر الأمصار للمسلمين، وخرج منها أزهد مما دخل فيها، لم يتلوث لهم بمال، ولا ولى أحدا من أقاربه ولاية، فهذا أمر يعرفه كل أحد.
وأما عثمان فإنه بنى على أمر قد استقر قبله بسكينة وحلم، وهدى ورحمة وكرم، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته، ولا فيه كمال عدله وزهده، فطمع فيه بعض الطمع، وتوسعوا في الدنيا، (وأدخل من أقاربه في الولاية والمال)، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه، فتولد من رغبة (بعض) الناس في الدنيا، وضعف
خوفهم من الله ومنه، ومن ضعفه هو، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال - ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلوما شهيدا.
وتولى علي على إثر ذلك، والفتنة قائمة، وهو عند كثير منهم متلطخ بدم عثمان، والله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه المبغضون له، كما نعلم براءته مما نسبه إليه الغالون فيه المبغضون لغيره من الصحابة، فإن عليا لم يعن على قتل عثمان ولا رضي به، كما ثبت عنه - وهو الصادق - أنه قال ذلك، فلم تصف له قلوب كثير منهم، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يئول إليه الأمر، بل اقتضى رأيه القتال، وظن أنه به تحصل الطاعة والجماعة، فما زاد الأمر إلا شدة، وجانبه إلا ضعفا، وجانب من حاربه إلا قوة، والأمة إلا افتراقا، حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله، كما كان في أول الأمر يطلب منه الكف.
وضعفت خلافة (النبوة) ضعفا أوجب أن تصير ملكا، فأقامها معاوية ملكا برحمة وحلم، كما في الحديث المأثور: " "تكون نبوة ورحمة، ثم
تكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك" ".
ولم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية فهو خير ملوك الإسلام، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده، وعلي آخر الخلفاء الراشدين الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة، وكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء الله المتقين، بل هؤلاء الأربعة أفضل خلق الله بعد النبيين، لكن إذا جاء القادح فقال في أبي بكر وعمر: إنهما كانا ظالمين متعديين طالبين للرئاسة مانعين للحقوق، (وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة)، وإنهما - ومن أعانهما - ظلموا الخليفة المستحق المنصوص عليه من جهة الرسول، وإنهم منعوا أهل البيت ميراثهم، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة والولاية
الباطلة مع ما قد عرف من سيرتهما - كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها حتى غلب، وسفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه وبين منازعه، ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا، ولا قوتل في خلافته كافر، ولا فرح مسلم، فإن عليا لا يفرح بالفتنة بين المسلمين، وشيعته لم تفرح بها ; لأنها لم تغلب، والذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب وشدة.
وإذا كنا ندفع من يقدح في علي من الخوارج، مع ظهور هذه الشبهة، فلأن ندفع من يقدح في أبي بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى.
وإن جاز أن يظن بأبي بكر أنه كان قاصدا للرئاسة بالباطل مع أنه لم يعرف منه إلا ضد ذلك، فالظن بمن قاتل على الولاية - ولم يحصل له مقصوده - أولى وأحرى.
فإذا ضرب مثل هذا وهذا بإمامي مسجد، وشيخي مكان، أو مدرسي مدرسة - كانت العقول كلها تقول: إن هذا أبعد عن طلب الرئاسة، وأقرب إلى قصد الدين والخير.
فإذا كنا نظن بعلي أنه كان قاصدا للحق والدين، وغير مريد علوا في الأرض ولا فسادا، فظن ذلك بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما أولى وأحرى.
وإن ظن ظان بأبي بكر أنه كان يريد العلو في الأرض والفساد، فهذا الظن بعلي أجدر وأولى.
أما أن يقال: إن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد، وعلي لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا، مع ظهور السيرتين - فهذا مكابرة، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك، بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبي بكر أفضل.
ولهذا كان الذين ادعوا هذا لعلي أحالوا على ما لم يعرف، وقالوا: ثم نص على خلافته كتم، وثم عداوة باطنة لم تظهر، بسببها منع حقه.
ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما علم وتيقن وتواتر عند العامة والخاصة، وأما ما يذكر من منقول يدفعه جمهور الناس، ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها، فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس، وهو من جنس الكفار وأهل الباطل، وهي مقابلة بالأحاديث من الطرق الأخر.
ونحن لم نحتج بالأخبار التي رويت من الطرفين، فكيف بالظن الذي لا يغني من الحق شيئا؟!
فالمعلوم المتيقن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان أبعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعثمان وعلي، فضلا عن علي وحده، وأنه كان أولى بإرادة وجه الله تعالى وصلاح المسلمين من الثلاثة
بعده، فضلا عن علي، وأنه كان أكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة، وأن ولايته الأمة خير من ولاية علي، وأن منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم أعظم من منفعة علي، رضي الله عنهم (أجمعين).
وإذا كنا نعتقد أنه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل، وأن ما تركه من المصلحة كان عاجزا عنه، وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه، وأنه لم يكن مريدا للعلو في الأرض ولا الفساد - كان هذا الاعتقاد بأبي بكر وعمر أولى وأخلق وأحرى.
فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن أنه نقل خاص، كالنقل لفضائل علي، ولما يقتضي أنه أولى بالإمامة، أو أن إمامته منصوص عليها، وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة - الذين هم أصدق وأكثر - لفضائل الصديق التي تقتضي أنه أولى بالإمامة، وأن النصوص إنما دلت عليه.
فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبإزائها للسني حجة من جنسها أولى منها، فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فما من حجة يسلكها كتابي إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها.
قال تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} (سورة الفرقان: 33)
لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة، إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه.
قال تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} (سورة " المؤمنون ": 71).
وهنا طريق آخر، وهو أن يقال: دواعي المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كانت متوجهة إلى اتباع الحق، وليس لهم ما يصرفهم عنه، وهم قادرون على ذلك، فإذا حصل الداعي إلى الحق، وانتفى الصارف مع القدرة، وجب الفعل.
فعلم أن المسلمين اتبعوا فيما فعلوه الحق، وذلك أنهم خير الأمم، وقد أكمل الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، ولم يكن عند الصديق غرض دنيوي يقدمونه لأجله، ولا عند علي غرض دنيوي يؤخرونه لأجله، بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدموا عليا، وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتبع رجلا من بني هاشم أحب إليها من أن تتبع رجلا من بني تيم، وكذلك عامة قبائل قريش لا سيما بنو عبد مناف، وبنو مخزوم، فإن طاعتهم لمنافي كانت أحب إليهم من طاعة تيمي لو اتبعوا الهوى، وكان أبو سفيان بن حرب وأمثاله يختارون تقديم علي.
وقد روي أن أبا سفيان طلب من علي أن يتولى لأجل القرابة التي بينهما، وقد قال أبو قحافة، لما قيل له: إن ابنك تولى، قال: " أورضيت بذلك بنو عبد مناف، وبنو مخزوم؟ " قالوا: نعم، فعجب من ذلك، لعلمه بأن بني تيم كانوا من أضعف القبائل، وأن أشراف قريش كانت من تينك القبيلتين.
وهذا، وأمثاله مما (إذا) تدبره العاقل علم أنهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله ; لأنه كان خيرهم وسيدهم وأحبهم إلى الله ورسوله، فإن الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب، وأبو بكر كان أتقاهم.
وهنا طريق آخر، وهو أنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خير هذه الأمة القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهذه الأمة هي خير الأمم، كما دل عليها الكتاب والسنة.
وأيضا فإنه من تأمل أحوال المسلمين في خلافة بني أمية، فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين، علم أن أهل ذلك الزمان كانوا خيرا وأفضل من أهل هذا الزمان، وأن الإسلام كان في زمنهم أقوى وأظهر، فإن كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم، ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم، وولوا فاسقا وظالما، ومنعوا عادلا عالما، مع علمهم بالحق، فهؤلاء من شر الخلق، وهذه الأمة شر الأمم ; لأن هذا فعل خيارها، فكيف بفعل شرارها؟!.
وهنا طريق آخر، وهو أنه قد عرف بالتواتر الذي لا يخفى على العامة والخاصة، أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صلى
الله عليه وسلم اختصاص عظيم، وكانوا من أعظم الناس اختصاصا به، وصحبة له، وقربا إليه، واتصالا به، وقد صاهرهم كلهم، وما عرف عنه أنه كان يذمهم، ولا يلعنهم، بل المعروف عنه أنه كان يحبهم ويثني عليهم.
وحينئذ فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا، في حياته وبعد موته، وإما أن يكونوا بخلاف ذلك في حياته أو بعد موته، فإن كانوا على غير الاستقامة مع هذا التقرب، فأحد الأمرين لازم: إما عدم علمه بأحوالهم، أو مداهنته لهم، وأيهما كان فهو أعظم القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما قيل:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته، وأكابر أصحابه، ومن قد أخبر بما سيكون بعد ذلك، أين كان عن علم ذلك؟ وأين الاحتياط للأمة حتى لا يولى مثل هذا أمرها، ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين؟
فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول، كما قال مالك وغيره: إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين.
ولهذا قال أهل العلم: إن الرافضة دسيسة الزندقة، وإنه وضع عليها. وطريق آخر أن يقال: الأسباب الموجبة لعلي - إن كان هو المستحق -
قوية، والصوارف منتفية، والقدرة حاصلة. ومع وجود الداعي، والقدرة وانتفاء الصارف يجب الفعل، وذلك أن عليا هو ابن عم نبيهم، ومن أفضلهم نسبا، ولم يكن بينه وبين أحد عداوة: لا عداوة نسب، ولا إسلام، بأن يقول القائل: قتل أقاربهم في الجاهلية.
وهذا المعنى منتف في الأنصار، فإنهم لم يقتل أحدا من أقاربهم، ولهم الشوكة، ولم يقتل من بني تيم، ولا عدي، ولا كثير من القبائل أحدا، والقبائل التي قتل منها كبني عبد مناف، كانت تواليه، وتختار ولايته ; لأنه إليها أقرب، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نص على ولايته، أو كان هو الأفضل المستحق لها لم يكن هذا مما يخفى عليهم، وعلمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته إذا لم يكن هناك صارف يمنع، والأسباب كانت مساعدة لهذا الداعي، ولا معارض لها، ولا صارف أصلا.
ولو قدر أن الصارف كان في نفر قليل فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه، بل هم قادرون على ولايته، ولو قالت الأنصار: علي أحق بها من سعد ومن أبي بكر - (ما) أمكن أولئك
النفر من المهاجرين أن يدافعوهم، وقام أكثر الناس مع علي، لا سيما وكان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم، وبغض الكفار والمنافقين لعمر أعظم من بغضهم لعلي بما لا نسبة بينهما، بل لم يعرف أن عليا كان يبغضه الكفار والمنافقون إلا كما يبغضون أمثاله، بخلاف عمر فإنه كان شديدا عليهم، وكان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر.
ولهذا لما استخلفه أبو بكر كره خلافته طائفة، حتى قال طلحة: ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا؟ فقال: أبالله تخوفني؟ أقول: وليت عليهم خير أهلك.
فإذا كان أهل الحق مع علي، وأهل الباطل مع علي، فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه؟ وهب أنهم إذا قاموا لم يغلبوا، أما كانت الدواعي المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجري في ذلك قيل وقال ونوع من الجدال؟ أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد؟ فإذا كانت الأنصار بشبهة لا أصل لها طمعوا أن يتأمر سعد، فمن يكون فيهم المحق؟
ونص الرسول الجلي كيف لا يكون أعوانه أطمع في الحق، فإذا كان لم ينبز متكلم منهم بكلمة واحدة في ذلك، ولم يدع داع إلى علي:
لا هو ولا غيره، واستمر الأمر على ذلك إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان، فحينئذ قام هو وأعوانه فطلبوا وقاتلوا ولم يسكتوا، حتى كادوا يغلبوا - علم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى لا لوجود المانع، وأن القوم لم يكن عندهم علم بأن عليا هو الأحق فضلا عن نص جلي، وأنه لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه، مع وجود المانع.
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير، لو كان لعلي حق، فإن أبا بكر لم يدع إلى نفسه، ولا أرغب ولا أرهب، ولا كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه، ولا كان في أول الأمر يمكن أحدا القدح في علي، كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان، فإنه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى أنه أعان على قتله، وبعضهم يقول: خذله، وكان قتلة عثمان في عسكره، وكان هذا من الأمور التي منعت كثيرا من مبايعته.
وهذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر، فكان جنده أعظم، وحقه إذ ذاك - لو كان مستحقا - أظهر، ومنازعوه أضعف داعيا وأضعف قوة، وليس هناك داع قوي يدعو إلى منعه، كما كان بعد مقتل عثمان، ولا جند يجمع على مقاتلته، كما كان بعد مقتل عثمان.
وهذه الأمور وأمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذ ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه، فلو تبين أن الحق لعلي، وطلبه علي لكان أبو بكر: إما أن يسلم إليه، وإما أن يجامله، وإما أن يعتذر إليه، ولو قام أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق، لكانت الشريعة والعادة والعقل توجب أن يكون الناس مع علي المحق المعصوم على أبي بكر المعتدي الظلوم، لو كان الأمر كذلك، لا سيما والنفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية أعظم من نفرتها عن مبايعة أهل بيت المطاع، فالدواعي لعلي من كل وجه كانت أعظم وأكثر، لو كان أحق، وهي عن أبي بكر من كل وجه كانت أبعد لو كان ظالما.
لكن لما كان المقتضى مع أبي بكر - وهو دين الله - قويا، والإسلام في جدته وطراوته وإقباله، كان أتقى لله ألا يصرفوا الحق عمن يعلمون أنه الأحق إلى غيره، ولو (كان) لبعضهم هوى مع الغير.
وأما أبو بكر فلم يكن لأحد معه هوى إلا هوى الدين، الذي يحبه الله ويرضاه.
فهذه الأمور وأمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة، وأن ولايته أرضى لله ورسوله فبايعوه،وإن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا ويحرفوا، وكلاهما ممتنع عادة ودينا، والأسباب متعددة، فهذا المعلوم اليقيني لا يندفع بأخبار لا يعلم صحتها، فكيف إذا علم كذبها؟ وألفاظ لا تعلم دلالتها، فكيف إذا علم انتفاء دلالتها؟ ومقاييس لا نظام لها، يعارضها من المعقول والمنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى وأولى بالحق، وأحرى.
وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينا بطرق كثيرة علما لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف، هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ، الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم، كالنصارى، والجهمية، وأمثالهم من أهل البدع والأهواء الذين يدعون النصوص الصحيحة التي توجب العلم، ويعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك، لو تعرض لم تثبت، وهذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات، وهو القدح فيما علم بالحس والعقل بشبه تعارض ذلك، فمن أراد أن يدفع العلم اليقيني المستقر في القلوب بالشبه فقد سلك مسلك السفسطة، فإن السفسطة أنواع: أحدها: النفي والجحد والتكذيب: إما بالوجود، وإما بالعلم به.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|