
06-02-2025, 05:46 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,706
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 348)
من صــ 416 الى صـ 430
ثم فعله: إما أن يختص هو بنفعه أو ينفع به غيره؛ فصارت الأقسام ثلاثة ليس لها رابع:
أحدها: ما يقوم بالعامل ولا يتعلق بغيره كالصلاة مثلا.
والثاني: ما يعمله لنفع غيره كالزكاة.
والثالث: ما يأمر غيره أن يفعله، فيكون الغير هو العامل، وحظه هو الأمر به.
فقال سبحانه في صفة المنافقين: {يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف} [التوبة: 67] وبإزائه في صفة المؤمنين: {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [التوبة: 71].
والمعروف:
اسم جامع لكل ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح.
والمنكر:
اسم جامع لكل ما نهى الله عنه.
ثم قال: {ويقبضون أيديهم} [التوبة: 67] قال مجاهد: " يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله " وقال قتادة: " يقبضون أيديهم عن كل خير " فمجاهد أشار إلى النفع بالمال، وقتادة أشار إلى النفع بالمال والبدن.
وقبض اليد: عبارة عن الإمساك كما في قوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} [الإسراء: 29].
وفي قوله: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائدة: 64] وهي حقيقة عرفية ظاهرة من اللفظ، أو هي مجاز مشهور وبإزاء قبض أيديهم قوله في المؤمنين: {ويؤتون الزكاة} [التوبة: 71] فإن الزكاة - وإن كانت قد صارت حقيقة عرفية في الزكاة المفروضة - فإنها اسم لكل نفع للخلق: من نفع بدني، أو مالي. فالوجهان هنا كالوجهين في قبض اليد.
ثم قال: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] ونسيان الله ترك ذكره، وبإزاء ذلك في صفة المؤمنين: {ويقيمون الصلاة} [التوبة: 71] فإن الصلاة أيضا تعم الصلاة المفروضة، والتطوع، وقد يدخل فيها كل ذكر الله: إما لفظا وإما معنى، قال ابن مسعود رضي الله عنه: " ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة وإن كنت في السوق " وقال معاذ بن جبل " مدارسة العلم التسبيح".
ثم ذكر ما وعد الله به المنافقين والكفار: من النار ومن اللعنة، ومن العذاب المقيم وبإزائه ما وعد المؤمنين: من الجنة والرضوان، ومن الرحمة.
ثم في ترتيب الكلمات وألفاظها أسرار كثيرة، ليس هذا موضعها، وإنما الغرض تمهيد قاعدة لما سنذكره إن شاء الله.
وقد قيل: إن قوله: {ولهم عذاب مقيم} [التوبة: 68] إشارة إلى ما هو لازم لهم في الدنيا والآخرة من الآلام النفسية: غما وحزنا، وقسوة وظلمة قلب وجهلا، فإن للكفر والمعاصي من الآلام العاجلة الدائمة ما الله به عليم، ولهذا تجد غالب هؤلاء لا يطيبون عيشهم إلا بما يزيل العقل، ويلهي القلب ومن تناول مسكر، أو رؤية مله، أو سماع مطرب، ونحو ذلك وبإزاء ذلك قوله في المؤمنين: {أولئك سيرحمهم الله} [التوبة: 71] فإن الله يعجل للمؤمنين من الرحمة في قلوبهم، وغيرها بما يجدونه من حلاوة الإيمان ويذوقونه من طعمه، وانشراح صدورهم للإسلام، إلى غير ذلك من السرور بالإيمان، والعلم والعمل الصالح، بما لا يمكن وصفه.
وقال سبحانه في تمام خبر المنافقين: {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا} [التوبة: 69] وهذه الكاف قد قيل: إنها رفع خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أنتم كالذين من قبلكم. وقيل: إنها نصب بفعل محذوف تقديره: فعلتم كالذين من قبلكم، كما قال النمر بن تولب: " كاليوم مطلوبا ولا طالبا "
أي: لم أر كاليوم، والتشبيه - على هذين القولين - في أعمال الذين من قبل، وقيل: إن التشبيه في العذاب ثم قيل: العامل محذوف، أي: لعنهم وعذبهم كما لعن الذين من قبلكم،وقيل - وهو أجود -: بل العامل ما تقدم، أي: وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم، ولعنهم كلعن الذين من قبلكم، ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم أو محلها نصب، ويجوز أن يكون رفعا، أي: عذاب كعذاب الذين من قبلكم.
وحقيقة الأمر على هذا القول: أن الكاف تناولها عاملان ناصبان، أو ناصب ورافع، من جنس قولهم: أكرمت وأكرمني زيد والنحويون لهم فيما إذا لم يختلف العامل، كقولك أكرمت وأعطيت زيدا - قولان: أحدهما: وهو قول سيبويه وأصحابه: أن العامل في الاسم هو أحدهما وأن الآخر حذف معموله؛ لأنه لا يرى اجتماع عاملين على معمول واحد.
والثاني: قول الفراء وغيره من الكوفيين: أن الفعلين عملا في هذا الاسم، وهو يرى أن العاملين يعملان في المعمول الواحد.وعلى هذا اختلافهم في نحو قوله: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} [ق: 17]. وأمثاله.
فعلى قول الأولين يكون التقدير: وعد الله المنافقين النار، كوعد الذين من قبلكم ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم، أو كعذاب الذين. من قبلكم ثم حذف اثنان من هذه المعمولات؛ لدلالة الآخر عليهما وهم يستحسنون حذف الأولين.
وعلى القول الثاني يمكن أن يقال: الكاف المذكورة بعينها هي المتعلقة بقوله: (وعد) وبقوله: (ولعن) وبقوله {ولهم عذاب مقيم} [التوبة: 68] لأن الكاف لا يظهر فيها إعراب، وهذا على القول بأن عمل الثلاثة النصب ظاهر.
وإذا قيل: إن الثالث يعمل الرفع؛ فوجهه: أن العمل واحد في اللفظ، إذ التعلق تعلق معنوي لا لفظي.
وإذا عرفت أن من الناس من يجعل التشبيه في العمل، ومنهم من يجعل التشبيه في العذاب، فالقولان متلازمان إذ المشابهة في الموجب تقتضي المشابهة في الموجب، وبالعكس فلا خلاف معنوي بين القولين.
وكذلك ما ذكرناه من اختلاف النحويين في وجوب في الحذف وعدمه - إنما هو اختلاف في تعليلات ومآخذ، لا تقتضي اختلافا لا في إعراب،ولا في معنى؛ فإذن: الأحسن أن تتعلق الكاف بمجموع ما تقدم: من العمل والجزاء، فيكون التشبيه فيهما لفظا.
وعلى القولين الأولين: يكون قد دل على أحدهما لفظا، على الآخر لزوما.
وإن سلكت طريقة الكوفيين - على هذا - كان أبلغ وأحسن؛ فإن لفظ الآية يكون قد دل على المشابهة في الأمرين من غير حذف، وإلا فيضمر حالكم كحال الذين من قبلكم، ونحو ذلك، وهو قول من قدره: أنتم كالذين من قبلكم.
ولا يسع هذا المكان بسطا أكثر من هذا فإن الغرض متعلق بغيره.
وهذه المشابهة في هؤلاء بإزاء ما وصف الله به المؤمنين من قوله: {ويطيعون الله ورسوله} [التوبة: 71] فإن طاعة الله ورسوله تنافي مشابهة الذين من قبل قال سبحانه: {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69].
فالخطاب في قوله: {كانوا أشد منكم قوة} [التوبة: 69] وقوله: {فاستمتعتم} [التوبة: 69]إن كان للمنافقين، كان من باب خطاب التلوين والالتفات، وهذا انتقال من المغيب إلى الحضور، كما في قوله: {الرحمن الرحيم - مالك يوم الدين - إياك نعبد} [الفاتحة: 3 - 5]
ثم حصل الانتقال من الخطاب إلى المغيب في قوله: {أولئك حبطت أعمالهم} [التوبة: 69] وكما في قوله: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها} [يونس: 22] وقوله: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} [الحجرات: 7] فإن الضمير في قوله: {أولئك حبطت أعمالهم} [التوبة: 69] الأظهر أنه عائد إلى المستمتعين الخائضين من هذه الأمة كقوله - فيما بعد -: {ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم} [التوبة: 70] وإن كان الخطاب لمجموع الأمة المبعوث إليها، فلا يكون الالتفات إلا في الموضع الثاني.
وأما قوله: {فاستمتعوا بخلاقهم} [التوبة: 69] ففي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الحسن في قوله: {فاستمتعوا بخلاقهم} [التوبة: 69] قال: بدينهم ويروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وروي عن ابن عباس بنصيبهم من الآخرة في الدنيا وقال آخرون: بنصيبهم من الدنيا.
قال أهل اللغة: الخلاق: هو النصيب والحظ، كأنه ما خلق للإنسان، أي ما قدر له، كما يقال: (القسم) لما قسم له، و (النصيب) لما نصب له، أي أثبت.
ومنه قوله تعالى: {ما له في الآخرة من خلاق} [البقرة: 102] أي: من نصيب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له في الآخرة».
والآية تعم ما ذكره العلماء جميعهم، فإنه سبحانه قال: {كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا} [التوبة: 69] فتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا بها للدنيا والآخرة، وكذلك أموالهم وأولادهم، وتلك القوة والأموال والأولاد: هو الخلاق، فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة والأموال: هي دينهم، وتلك الأعمال، لو أرادوا بها الله، والدار الآخرة؛ لكان لهم ثواب في الآخرة عليها، فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة بها، فدخل في هذا من لم يعمل إلا لدنياه، سواء كان جنس العمل من العبادات، أو غيرها.
ثم قال سبحانه: {فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69].
وفي (الذي) وجهان: أحسنهما أنها صفة المصدر، أي كالخوض الذي خاضوه فيكون العائد محذوفا كما في قوله {مما عملت أيدينا} [يس: 71] وهو كثير فاش في اللغة، والثاني: أنه صفة الفاعل، أي: كالفريق أو الصنف أو الجيل الذي خاضوه، كما لو قيل: كالذين خاضوا.
وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق، وبين الخوض، لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل، والتكلم به، أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق.
والأول: هو البدع ونحوها.
والثاني: فسق الأعمال ونحوها.
والأول: من جهة الشبهات.
والثاني: من جهة الشهوات.
ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه.
وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فهذا يشبه المغضوب عليهم، الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم.
ووصف بعضهم أحمد بن حنبل فقال: " رحمه الله، عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها ".
وقد وصف الله أئمة المتقين فقال: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24] فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات.
ومنه قوله: {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر: 3] وقوله: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} [ص: 45].
ومنه الحديث المرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات».
فقوله سبحانه: {فاستمتعتم بخلاقكم} [التوبة: 69] إشارة إلى اتباع الشهوات، وهو داء العصاة، وقوله: {وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69] إشارة إلى اتباع الشبهات، وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات، وكثيرا ما يجتمعان، فقل من تجد في اعتقاده فسادا إلا وهو يظهر في عمله.
وقد دلت الآية على أن الذين كانوا من قبل استمتعوا وخاضوا، وهؤلاء فعلوا مثل أولئك.
ثم قوله: {فاستمتعتم} [التوبة: 69] و {وخضتم} [التوبة: 69] خبر عن وقوع ذلك في الماضي وهو ذم لمن يفعله، إلى يوم القيامة، كسائر ما أخبر الله به عن الكفار والمنافقين، عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه ذم لمن حاله كحالهم إلى يوم القيامة، وقد يكون خبرا عن أمر دائم مستمر؛ لأنه - وإن كان بضمير الخطاب - فهو كالضمائر في نحو قوله: (اعبدوا) و (اغسلوا) و {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] و (آمنوا) كما أن جميع الموجودين في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة مخاطبون بهذا الكلام؛ لأنه كلام الله، وإنما الرسول مبلغ له.
وهذا مذهب عامة المسلمين - وإن كان بعض من تكلم في أصول الفقه، اعتمد أن الضمير إنما يتناول الموجودين حين تبليغ الرسول وأن سائر الموجودين دخلوا: إما بما علمناه بالاضطرار من استواء الحكم، كما لو خاطب النبي صلى الله عليه وسلم واحدا من الأمة، وإما بالسنة، وإما بالاجماع، وإما بالقياس، فيكون: كل من حصل منه هذا الاستمتاع والخوض مخاطبا بقوله: {فاستمتعتم} [التوبة: 69] و {وخضتم} [التوبة: 69] وهذا أحسن القولين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|