
03-02-2025, 09:51 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 344)
من صــ 356 الى صـ 370
وأيضا فإن الذمي إما أن يقتل إذا سب لكفره أو حرابه كما يقتل الحربي الساب أو يقتل حدا من الحدود كما يقتل لزناه بذمية وقطع الطريق على ذمي والثاني باطل فتعين الأول وذلك لأن السب من حيث هو سب ليس فيه أكثر من انتهاك العرض وهذا القدر لا يوجب إلا الجلد بل لا يوجب على الذمي شيئا لاعتقاده حل ذلك نعم إنما صولح على الكف عنه والإمساك فمتى أظهر السب زال العهد وصار حربيا ولأن كون السب موجبا للقتل حدا حكم شرعي فيفتقر إلى دليل ولا دليل على ذلك إذا أكثر ما يذكر من الأدلة إنما يفيد أنه يقتل وذلك متردد بين كون القتل لكفره وحرابه أو لخصوص السب ولا يجوز إثبات الأحكام بمجرد الاستحسان والاستصلاح فإن ذلك شرع للدين بالرأي وذلك حرام لقوله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم
من الدين ما لم يأذن به الله} والقياس في المسألة متعذر لوجهين:
أحدهما: أن كثيرا من النظار يمنع جريان القياس في الأسباب والشروط والموانع لأن ذلك يفتقر إلى معرفة نوع الحكمة وقدرها وذلك متعذر لأن ذلك يخرج السب عن أن يكون سبا وشرط القياس بقاء حكم الأصل ولأنه ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يمكن إلحاق السب بها لاختلافهما نوعا وقدرا واشتراكهما في عموم المفسدة لا يوجب الإلحاق بالاتفاق وكون هذه المفسدة مثل هذه المفسدة يفتقر إلى دليل وإلا كان شرعا بالرأي ووضعا للدين بالمعقول وذلك انحلال عن معاقد الدين وانسلال عن روابط الشريعة وانخلاع من ربق الإسلام وسياسة للخلق بالآراء الملكية والأنحاء العقلية وذلك حرام بلا ريب فثبت أنه إنما يقتل لأجل كفره وحرابه ومعلوم أن الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر والحراب بالاتفاق.
وأيضا فالذمي لو كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين الله تعالى ويقول فيه ما عسى أن يقول من القبائح ثم أسلم واعتقد نبوته ورسالته لمحا ذلك عنه جميع تلك السيئات ولا يجوز أن يقال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم يطالبه بموجب سبه في الدنيا ولا في الآخرة" ومن قال ذلك علم أنه مبطل في مقالته للعلم بأن الكافرين يقولون في الرسول شر المقالات وأشنعها وقد أخبر الله تعالى عنهم في القرآن ببعضها مثل قولهم ساحر وكاهن ومجنون ومفتر وقول اليهود في مريم بهتانا عظيما ونسبتها إلى الفاحشة وأن المسيح لغير رشدة وهذا هو القذف الصريح ثم لو أسلم اليهودي وأقر بنبوة المسيح وأنه عبد الله ورسوله وأنه بريء مما رمته به اليهود لم يبقى للمسيح عليه تبعة.
ونحن نعلم أن من الكفار من يعتقد نبوة نبينا إلى الأميين ومنهم من يعتقد نبوته مطلقا لكن إلف الدين وعادته وأغراض أخر
تمنع الدخول في الإسلام ومنهم المعرض عن ذلك الذي لا ينظر إليه ولا يتفكر فهؤلاء قد لا يسبونه ومنهم من يعتقد فيه العقيدة الردية ويكف عن سبه وشتمه أو يسبه ويشتمه بما يعتقده فيه مما يكفر به ولا يظهر ذلك ومنهم من يظهر ذلك عند المسلمين ومنهم من يسبه بما لم يكفر به مما يكون سبا للنبي صلى الله عليه وسلم وغير النبي كالقذف ونحوه وإذا أسلم الكفار غفر لهم جميع ذلك ولم يجئ في كتاب ولا سنة أن الكافر إذا أسلم يبقى عليه تبعة من التبعات بل الكتاب والسنة دليلان على أن الإسلام يجب ما قبله مطلقا وإذا كان إثم السب مغفورا له لم يجز أن يعاقب عليه بعد الإسلام.
وأيضا فلو سب الله سبحانه ثم أسلم لم يؤخذ بموجب ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عنه ربه تبارك وتعالى: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك أما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد" ثم لو تاب النصراني ونحوه من شتم الله سبحانه لم يعاقب على ذلك في الدنيا ولا في الآخرة بالاتفاق قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم} فسب النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون أعظم من سب الله فإنه إنما عظم وصار موجبا للقتل لكون حقه تابعا لحق الله فإذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أولى وبهذا يظهر الفرق بين سب الأنبياء وسب غيرهم من المؤمنين فإن سب الواحد من الناس لا يختلف بين ما قبل الإسلام وما بعده والأذى والغضاضة التي تلحق المسبوب قبل الإسلام الساب وبعده سواء بخلاف سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه
قد زال موجبه بالإسلام وتبدل بالتعزير له والتوقير والثناء عليه والمدحة له كما تبدل السب لله بالإيمان وتوحيده وتقديسه وتحميده وعبادته.
يوضح ذلك أن الرسول له نعت البشرية ونعت الرسالة كما قال: {سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا} فمن حيث هو بشر له أحكام البشر ومن حيث هو رسول قد ميزه الله سبحانه وفضله بما خصه به فسبه موجب للعقوبة من حيث هو بشر كغيره من المؤمنين وموجب للعقوبة من حيث هو رسول بما خصه الله به لكن إنما أوجب القتل من حيث هو رسول فقط لأن السب المتعلق بالبشرية لا يوجب قتلا وسبه من حيث هو رسول حق لله فقط فإذا أسلم الساب انقطع حكم السب المتعلق برسالته كما انقطع حكم السب المتعلق بالمرسل فسقط القتل الذي هو موجب ذلك السب ويبقى حق بشريته من هذا السب وحق البشرية إنما يوجب جلد ثمانين.
فمن قال: "إنه يجلد لقذفه بعد إسلامه ويعزر لسبه لغير القذف" قال: إن الإسلام يسقط حق الله وحق الرسالة ويبقى حق خصوص الآدمية كغيره من الآدميين فيؤدب سابه كما يؤدب ساب جميع المؤمنين بعد إسلامه.
ومن قال: "إنه لا يعاقب بشيء" قال: هذا الحق اندرج في حق النبوة وانغمر في حق الرسالة فإن الجريمة الواحدة إذا أوجبت القتل لم توجب معه عقوبة أخرى عند أكثر الفقهاء ولهذا اندرج حق الله المتعلق بالقتل والقذف في حق الآدمي فإذا عفي للجاني عن القصاص وحد القذف لم يعاقب على ما انتهكه من الحرمة كذلك اندرج هنا حق البشرية في حق الرسالة وفي هذين الأصلين المقيس عليهما خلاف بين الفقهاء فإن مذهب مالك أن القاتل يعزره الإمام إذا عفا عنه ولي الدم.
وعند أبي حنيفة أن حد القذف لا يسقط بالعفو وكذلك تردد من قال: "إن القتل يسقط بالإسلام" هل يؤدب حدا أو تعزيرا على خصوص القذف والسب؟ ومن قال هذا القول قال: لا يستدل علينا بأن الصحابة قتلوا سابه أو أمروا بقتل سابه أو أرادوا قتل سابه من غير استتابة فإن الذمي إذا سبه لا يستتاب بلا تردد فإنه يقتل لكفره الأصلي كما يقتل الأسير الحربي ومثل ذلك لا يستتاب كاستتابة المرتد إجماعا لكن لو أسلم عصم دمه.
كذلك يقول فيمن شتمه من أهل الذمة فإنه يقتل ولا يستتاب كأنه حربي آذى المسلمين وقد أسرناه فإنا نقتله فإن أسلم سقط عنه القتل.
وكذلك أكثر نصوص مالك وأحمد وغيرهما إنما هي أنه يقتل ولا يستتاب وهذا لا تردد فيه إذا سبه الذمي.
ومن قال: "إن الذمي يستتاب" فقد يقول: إنه قد لا يعلم أنه إذا أسلم سقط عنه القتل فيستتاب كما يستتاب المرتد وأولى فإن قتل الكفار قبل الإعذار إليهم وتبليغهم رسالات الله غير جائز.
ومن لم يستتبه قال: هذا هو القياس لما جاء في الكتب في قتل كل كافر أصلي أسير وقد ثبت ثبوتا لا يمكن دفعه أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين كانوا يقتلون كثيرا من الأسرى من غير عرض للإسلام عليهم وإن كانوا ناقضين للعهد وذلك في قصة قريظة وخيبر ظاهر لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم بالسيرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذهم أسرى بعد أن نقضوا العهد وضرب رقابهم من غير أن يعرض عليهم الإسلام وقد أمر بقتل ابن الأشرف من غير عرض للإسلام عليه وإنما قتله لأنه كان يؤذي الله ورسوله وقد نقض العهد.
ومن قال: "إذا تاب بالعود إلى الذمة قبلت توبته أو خير الإمام فيه" قال: إنه في هذه الحال بمنزلة حربي قد بذل الجزية عن يد وهو صاغر فيجب الكف عنه.
واعلم أن هنا معنى لا بد من التنبيه عليه وهو أن الأسير الحربي الأصل لو أسلم فإن إسلامه لا يزيل عنه حكم الأسر بل إما أن يصير رقيقا للمسلمين بمنزلة النساء والصبيان كأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد أو يخير الإمام فيه بين الثلاثة غير القتل على القول الآخر في المذهبين.
والدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين قال: "كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل وأصابوا معه العضباء فأتى عليه صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق فقال: يا محمد فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ يعني العضباء فقال:
أخذتك بجريرة حلفائك من ثقيف ثم انصرف عنه فناداه: يا محمد يا محمد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا فرجع إليه فقال: ما شأنك؟ قال: إني مسلم قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ثم انصرف فناداه: يا محمد يا محمد فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني قال: هذه حاجتك ففدى بالرجلين فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أسلم بعد الأسر لم يفلح كل الفلاح كما إذا أسلم قبل الأسر وأن ذلك الإسلام لا يوجب إطلاقه".
وكذلك العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أظهر الإسلام بعد الأسر بل أخبر أنه قد أسلم قبل ذلك فلم يطلقه النبي صلى الله عليه وسلم حتى فدى نفسه والقياس يقتضي ذلك فإنه لو أسلم رقيق للمسلمين لم يمنع ذلك دوام رقه فكذلك إسلام الأسير لا يمنع دوام أسره لأنه نوع رق ومجوز للاسترقاق كما أن إسلامه لا يوجب أن يرد عليه ما أخذ من ماله قبل الإسلام فإذا كان هذا حال من أسلم بعد أن أسر ممن هو حربي الأصل فهذا الناقض للعهد حاله أشد بلا ريب فإذا أسلم بعد أن نقض العهد وهو في أيدينا لم يجز أن يقال: إنه يطلق بل حيث قلنا قد عصم دمه فإما أن يصير رقيقا وللإمام أن يبيعه بعد ذلك وثمنه لبيت المال أو أنه يتخير فيه وهذا قياس قول من يجوز استرقاق ناقض العهد ومن لم يجوز استرقاقهم فإنه يجعل هذا بمنزلة المرتد ويقول: إذا عاد إلى الإسلام لم يسترق ولم يقتل ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لو أسلمت وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" دليل على أن من أسلم ولا يملك أمره لم يكن حاله كحال من أسلم وهو مالك أمره فلا تجوز التسوية بينهما بحال وفي هذا أيضا دليل على أنه إذا بذل الجزية لم يجب إطلاقه فإنه إذا لم يجب إطلاقه بالإسلام فببذل الجزية أولى لكن ليس في الحديث ما ينفي استرقاقه.
فصل.
والدليل على أن المسلم يقتل من غير استتابة وإن أظهر التوبة بعد أخذه كما هو مذهب الجمهور قوله سبحانه: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا}.
وقد تقدم أن هذا يقتضي قتله ويقتضي تحتم قتله وإن تاب بعد الأخذ لأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله ورسوله والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات فإذا كانت عقوبة أولئك لا تسقط إذا تابوا بعد الأخذ فعقوبة هؤلاء أولى وأحرى لأن عقوبة كليهما على الأذى الذي قاله بلسانه لا على مجرد كفر هو باق عليه.
وأيضا فإنه قال: {لئن لم ينته المنافقون} إلى قوله: {ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا} وهو يقتضي أن من لم ينته فإنه يؤخذ ويقتل فعلم أن الانتهاء العاصم ما كان قبل الأخذ.
وأيضا فإنه جعل ذلك تفسيرا للعن فعلم أن الملعون متى أخذ قتل إذا لم يكن انتهى قبل الأخذ وهذا ملعون فدخل في الآية.
يؤيد ذلك ما قدمناه عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} قال: "هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ليس فيها توبة ثم قرأ: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} إلى قوله: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة" قال: فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر فهذا ابن عباس قد بين أن من لعن هذه اللعنة لا توبة له واللعنة الأخرى أبلغ منها.
يقرره أن قاذف أمهات المؤمنين إنما استحق هذه اللعنة على قوله لأجل النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أن مؤذيه لا توبة له.
وأيضا قوله سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا} الآية.
وهذا الساب محارب لله ورسوله كما تقدم تقريره من أنه محاد لله ورسوله وأن المحاد لله ورسوله مشاق لله ورسوله محارب لله ورسوله
ولأن المحارب ضد المسالم والمسالم الذي تسلم منه ويسلم منك ومن آذاه لم يسلم منه فليس بمسالم فهو محارب وقد تقدم من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه عدوا له ومن عاداه فقد حاربه وهو من أعظم الساعين في الأرض بالفساد قال الله تعالى في صفة المنافقين: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}.
وكل ما في القرآن من ذكر الفساد مثل قوله: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} وقوله: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها} إلى قوله: {والله لا يحب الفساد} وغير ذلك فإن السب داخل فيه فإنه أصل لكل فساد في الأرض إذ هو إفساد للنبوة التي هي عماد صلاح الدين والدنيا والآخرة.
وإذا كان هذا الساب محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض بفساد وجب أن يعاقب بإحدى العقوبات المذكورة في الآية إلا أن يتوب قبل القدرة عليه وقد قدمنا الأدلة على أن عقوبته متعينة بالقتل كعقوبة من قتل في قطع الطريق فيجب أن يقام ذلك عليه إلا أن يتوب قبل القدرة عليه وهذا الساب الذي قامت عليه البينة ثم تاب بعد ذلك إنما تاب بعد القدرة فلا تسقط العقوبة عنه ولهذا كان الكافر الحربي إذا أسلم بعد الأخذ لم تسقط عنه العقوبة مطلقا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للعقيلي: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" بل يعاقب بالاسترقاق أو بجواز الاسترقاق وغيره ولكن هذا مرتد محارب فلم يمكن استرقاقه كالعرنيين إذ المحاربة باللسان كالمحاربة باليد فتعين عقوبته بالقتل.
وأيضا فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دلت من غير وجه على قتل الساب من غير استتابة فإنه أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة وقد ذكرنا أن ذلك يقتضي قتل الساب سواء أجرينا الحديث على ظاهره أو حملناه على من كذب عليه كذبا يشينه وكذلك في حديث الشعبي أنه أمر بقتل الذي طعن عليه في قسم مال العزى من غير استتابة.
وفي حديث أبي بكر لما استأذنه أبو برزة أن يقتل الرجل الذي شتمه من غير استتابة قال: "إنها لم تكن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فعلم أنه كان له قتل من شتمه من غير استتابة وعمر رضي الله عنه قتل الذي لم يرض بحكمه صلى الله عليه وسلم من غير استتابة أصلا فنزل القرآن بإقراره على ذلك وهو من أدنى أنواع الاستخفاف به فكيف بأعلاها؟.
وأيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما طعن عليه وافترى افتراء عابه به بعد أن أسلم أهدر دمه وامتنع عن مبايعته وقد تقدم تقرير الدلالة منه على أن الساب يقتل وإن أسلم وذكرنا أنه كان قد جاءه مسلما تائبا قد أسلم قبل أن يجيء إليه كما رويناه عن غير واحد أو قد جاء يريد الإسلام وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد جاء يريد الإسلام ثم كف عنه انتظار أن يقوم إليه رجل فيقتله.
وهذا نص في أن مثل هذا المرتد الطاعن لا يجب قبول توبته بل يجوز قتله وإن جاء تائبا وإن تاب وقد قررنا هذا فيما مضى وهنا من وجوه أخرى أن الذي عصم دمه عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لا مجرد إسلامه وأن بالإسلام والتوبة انمحى الإثم وبعفو رسول الله صلى الله عليه وسلم احتقن الدم والعفو بطل بموته صلى الله عليه وسلم وليس للأمة أن يعفوا
عن حقه وامتناعه من بيعته حتى يقوم إليه بعض القوم فيقتله نص في جواز قتله وإن جاء تائبا.
وأما عصمة دمه بعد ذلك فليس دليلا لنا على أن نعصم دم من سب وتاب بعد أن قدرنا عليه لأنا قد بينا من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يعفو عمن سبه ممن لا خلاف بين الأمة في وجوب قتله إذا فعل ذلك وتعذر عفو النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقد ذكرنا أيضا أن حديث عبد الله بن خطل يدل على قتل الساب لأنه كان مسلما فارتد وكان يهجوه فقتل من غير استتابة.
وأيضا فما تقدم من حديث أنس المرفوع وأثر أبي بكر في قتل من آذاه في أزواجه وسراريه من غير استتابة وما ذاك إلا لأجل أنه نوع من الأذى ولذلك حرمه الله ومعلوم أن السب أشد أذى منه بدليل أن السب يحرم منه ومن غيره ونكاح الأزواج لا يحرم إلا منه صلى الله عليه وسلم وإنما ذاك مبالغة في تحريم ما يؤذيه ووجوب قتل من يؤذيه أي أذى كان من غير استتابة.
وأيضا فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل النسوة اللاتي كن يؤذينه بألسنتهن بالهجاء مع أمانه لعامة أهل البلد ومع أن قتل المرأة لا يجوز إلا أن تفعل ما يوجب القتل ولم يستتب واحدة منهن حين قتل من قتل والكافرة الحربية من النساء لا تقتل إن لم تقاتل والمرتدة لا تقتل حتى تستتاب وهؤلاء النسوة قتلن من غير أن يقاتلن ولم يستتبن فعلم أن قتل من فعل مثل فعلهن جائز بدون استتابة فإن صدور ذلك عن مسلمة أو معاهدة أعظم من صدوره عن حربية.
وقد بسطنا بعض هذه الدلالات فيما مضى بما أغنى عن إعادته هنا
وذكرنا أن السنة تدل على أن السب ذنب مقتطع عن عموم الكفر وهو من جنس المحاربة والتوبة التي تحقن الدم دم المرتد إنما هي التوبة عن الكفر فأما إن ارتد بمحاربة مثل سفك الدم وأخذ المال كما فعل العرنيون وكما فعل مقيس بن حبابة حيث قتل الأنصاري واستاق المال ورجع مرتدا فهذا يتعين قتله كما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيس بن حبابة وكما قيل له في مثل العرنيين "إنما جزاؤهم أن يقتلوا" فلذلك من تكلم بكلام من جنس المحادة والمحاربة لم يكن بمنزلة من ارتد فقط.
وأيضا ما اعتمده الإمام أحمد من أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقوا بين الساب وبين المرتد المجرد فقتلوا الأول من غير استتابة واستتابوا الثاني وأمروا باستتابته وذلك أنه قد ثبت أنهم قتلوا سابه وقد تقدم ذكر بعض ذلك مع أنه قد تقدم عنهم أنهم كانوا يستتيبون المرتد ويأمرون باستتابته فثبت بذلك أنهم كانوا لا يقبلون توبة من يسبه من المسلمين لأن توبته لو قبلت لشرعت استتابته كالمرتد فإنه على هذا القول نوع من المرتدين ومن خص المسلم بذلك قال: لا يدل ذلك على أن الكافر الساب لا يسقط عنه إسلامه القتل فإن الحربي يقتل من غير استتابة مع أن إسلامه يسقط عنه القتل إجماعا ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة أنه أمر باستتابة الساب إلا ما روى عن ابن عباس وفي إسناد الحديث عنه مقال ولفظه: "أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردة يستتاب فإن رجع وإلا قتل" وهذا والله أعلم فيمن كذب بنبوة شخص من الأنبياء وسبه بناء على أنه ليس بنبي ألا ترى إلى قوله: "فقد كذب برسول الله عليه الصلاة والسلام" ولا ريب أن من كذب بنبوة بعض الأنبياء وسبه بناء على ذلك ثم تاب قبلت توبته كمن كذب ببعض آيات القرآن فإن هذا أظهر أمره فهو كالمرتد أما من كان يظهر الإقرار بنبوة النبي ثم أظهر سبه فهذا هو مسألتنا.
يؤيد هذا أنا قد روينا عنه أنه كان يقول: "ليس لقاذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توبة وقاذف غيرهن له توبة" ومعلوم أن ذلك رعاية لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم أن مذهبه أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم وقاذفه لا توبة له وأن وجه الرواية الأخرى عنه إن صحت ما ذكرناه أو نحوه.
وأيضا فإن سبه أو شتمه ممن يظهر الإقرار بنبوته دليل على فساد اعتقاده وكفره به بل هو دليل على الاستهانة به والاستخفاف بحرمته فإن من وقر الإيمان في قلبه والإيمان موجب لإكرامه وإجلاله لم يتصور منه ذمه وسبه والنقص به وقد كان من أقبح المنافقين نفاقا من يستخف بشتم النبي صلى الله عليه وسلم كما روي عن ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة من حجر نسائه في نفر من المسلمين قد كان تقلص عنهم الظل فقال: سيأتيكم إنسان ينظر بعين شيطان فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ دعاهم بأسمائهم فانطلق فجاء بهم فحلفوا له واعتذروا إليه فأنزل الله تبارك وتعالى: {يحلفون لكم لترضوا عنهم} الآية رواه أبو مسعود بن الفرات ورواه الحاكم في صحيحه وقال: فأنزل الله تعالى {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له} الآية وإذا ثبت أنه كافر مستهين به فإظهار الإقرار برسالته بعد ذلك لا يدل على زوال الكفر والاستهانة لأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا معتمدا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلافه.
ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه وإن شهد عنده بذلك العدول ويجوز له أن يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها وكذلك أيضا لو أقر إقرارا علم أنه كاذب فيه مثل أن يقول لمن هو أكبر منه "هذا ابني" لم يثبت نسبه ولا ميراثه باتفاق العلماء وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر العدل الواحد ومثل الأمر والنهي والعموم والقياس يجب إتباعها إلا أن يقوم دليل أقوى منها يدل على أن باطنها مخالف لظاهرها ونظائر هذا كثيرة.
فإذا علمت هذا فنقول: هذا الرجل قد قام الدليل على فساد عقيدته وتكذيبه به واستهانته له فإظهاره الإقرار برسالته الآن ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا وهذا القدر بطلت دلالته فلا يجوز الاعتماد عليه وهذه نكتة من لا يقبل توبة الزنديق وهو مذهب أهل المدينة ومالك وأصحابه والليث بن سعد وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة وهو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه وعنهما أنه يستتاب وهو المشهور عن الشافعي.
وقال أبو يوسف آخرا: أقتله من غير استتابة لكن إن تاب قبل أن أقتله قبلت توبته وهذا أيضا الرواية الثالثة عن أحمد.
وعلى هذا المأخذ فإذا كان الساب قد تكرر منه السب ونحوه مما يدل على الكفر اعتضد السبب بدلالات أخر من الاستخفاف بحرمات الله والاستهانة بفرائض الله ونحو ذلك من دلالات النفاق والزنديق كان ذلك أبلغ في ثبوت زندقته وكفره وفي أن لا يقبل منه مجرد ما يظهر من الإسلام مع ثبوت هذه الأمور وما ينبغي أن يتوقف في قتل مثل هذا وفي أن لا يسقط عنه القتل بما يظهر من الإسلام إذ توبة هذا بعد أخذه لم تجدد له حالا لم تكن قبل ذلك فكيف تعطل الحدود بغير موجب؟ نعم لو أنه
قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والأعمال ما يدل على حسن الإسلام وكف عن ذلك لم يقتل في هذه الحال وفيه خلاف بين أهل هذا القول سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره.
وعلى مثل هذا ومن هو أخف منه ممن لم يظهر نفاقه قط تحمل آيات التوبة من النفاق وعلى الأول تحمل آيات إقامة الحد.
ثم من أسقط القتل عن الذمي إذا أسلم قال: بهذا يظهر الفرق بينه وبين الكافر إذا أسلم فإنه كان يظهر لدين يبيح سبه أو لا يمنعه من سبه فأظهر دين الإسلام الذي يوجب تعزيره وتوقيره فكان ذلك دليلا على صحة انتقاله ولم يعارضه ما يخالف فوجب العمل به وهذه الطريقة مبنية على عدم قبول توبة الزنديق كما قررناه من ظهور دليل الكفر مع عدم ظهور دليل الإسلام وهو من القياس الجلي.
ويدل على جواز قتل الزنديق والمنافق من غير استتابة قوله وتعالى: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} إلى قوله: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا}.
قال أهل التفسير: {أو بأيدينا} بالقتل: إن أظهرتم ما في قلبوكم قتلناكم وهو كما قالوا: لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لا يكون إلا القتل لكفرهم ولو كان المنافق يجب قبول ما يظهره من التوبة بعد ما ظهر نفاقه وزندقته لم يمكن أن نتربص بهم أن يصيبهم الله تعالى بعذاب من عنده أو بأيدينا لأنا كلما أردنا أن نعذبهم على ما أظهروه أظهروا التوبة.
وقال قتادة وغيره: قوله {وممن حولكم من الأعراب منافقون} إلى قوله: {سنعذبهم مرتين} قالوا: "في الدنيا القتل وفي البرزخ عذاب القبر".

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|