
03-02-2025, 09:26 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,690
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
المجلد التاسع
الحلقة( 341)
من صــ 311 الى صـ 325
وفي غزوة تبوك استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم كما استنفر غيرهم فخرج بعضهم معه وبعضهم تخلفوا وكان في الذين خرجوا معه من هم بقتله في الطريق هموا بحل حزام ناقته ليقع في واد هناك فجاءه الوحي فأسر إلى حذيفة أسماءهم ولذلك يقال: هو صاحب السر الذي لا يعلمه غيره} كما ثبت ذلك في " الصحيح " ومع هذا ففي الظاهر تجري عليهم أحكام أهل الإيمان. وبهذا يظهر الجواب عن شبهات كثيرة تورد في هذا المقام؛ فإن كثيرا من المتأخرين ما بقي في المظهرين للإسلام عندهم إلا عدل أو فاسق وأعرضوا عن حكم المنافقين والمنافقون ما زالوا ولا يزالون إلى يوم القيامة والنفاق شعب كثيرة وقد كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم. ففي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " {آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان} " وفي لفظ مسلم: " {وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم} ".
وفي " الصحيحين " عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال. " {أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر} ". وكان النبي صلى الله عليه وسلم أولا يصلي عليهم ويستغفر لهم حتى نهاه الله عن ذلك فقال: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} وقال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} فلم يكن يصلي عليهم ولا يستغفر لهم ولكن دماؤهم وأموالهم معصومة لا يستحل منهم ما يستحله من الكفار الذين لا يظهرون أنهم مؤمنون بل يظهرون الكفر دون الإيمان فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله} " {ولما قال لأسامة بن زيد: أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قال: إنما قالها تعوذا. قال: هلا شققت عن قلبه؟ وقال. إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم} " {وكان إذا استؤذن في قتل رجل يقول: أليس يصلي أليس يتشهد؟ فإذا قيل له: إنه منافق. قال: ذاك} فكان حكمه صلى الله عليه وسلم في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم لا يستحل منها شيئا إلا بأمر ظاهر مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم؛ وفيهم من لم يكن يعلم نفاقه. قال تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وكان من مات منهم صلى عليه المسلمون الذين لا يعلمون أنه منافق ومن علم أنه منافق لم يصل عليه.
وكان عمر إذا مات ميت لم يصل عليه حتى يصلي عليه حذيفة لأن حذيفة كان قد علم أعيانهم. وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} فأمر بامتحانهن هنا وقال: {الله أعلم بإيمانهن}.
والله تعالى لما أمر في الكفارة بعتق رقبة مؤمنة لم يكن على الناس ألا يعتقوا إلا من يعلموا أن الإيمان في قلبه؛ فإن هذا كما لو قيل لهم: اقتلوا إلا من علمتم أن الإيمان في قلبه. وهم لم يؤمروا أن ينقبوا عن قلوب الناس ولا يشقوا بطونهم؛ فإذا رأوا رجلا يظهر الإيمان جاز لهم عتقه وصاحب الجارية لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل هي مؤمنة؟ إنما أراد الإيمان الظاهر الذي يفرق به بين المسلم والكافر وكذلك من عليه نذر لم يلزمه أن يعتق إلا من علم أن الإيمان في قلبه؛ فإنه لا يعلم ذلك مطلقا؛ بل ولا أحد من الخلق يعلم ذلك مطلقا.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق والله يقول له: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين}. فأولئك إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم فيهم كحكمه في سائر المؤمنين؛ ولو حضرت جنازة أحدهم صلى عليها ولم يكن منهيا عن الصلاة إلا على من علم نفاقه؛ وإلا لزم أن ينقب عن قلوب الناس ويعلم سرائرهم وهذا لا يقدر عليه بشر. ولهذا لما كشفهم الله بسورة براءة بقوله: {ومنهم} {ومنهم} صار يعرف نفاق ناس منهم لم يكن يعرف نفاقهم قبل ذلك فإن الله وصفهم بصفات علمها الناس منهم؛ وما كان الناس يجزمون بأنها مستلزمة لنفاقهم وإن كان بعضهم يظن ذلك وبعضهم يعلمه؛ فلم يكن نفاقهم معلوما عند الجماعة بخلاف حالهم لما نزل القرآن؛ ولهذا لما نزلت سورة براءة كتموا النفاق وما بقي يمكنهم من إظهاره أحيانا ما كان يمكنهم قبل ذلك وأنزل الله تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا} {ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا} {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} فلما توعدوا بالقتل إذا أظهروا النفاق كتموه. ولهذا تنازع الفقهاء في استتابة الزنديق.
(ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56) لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون (57)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وأما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} {لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون}.
فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا إنهم من المؤمنين فما هم منهم؛ ولكن يفزعون من العدو. فـ {لو يجدون ملجأ} يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد أو (مغارات وهي جمع مغارة.
ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي يستتر؛ كما يغور الماء. أو مدخلا وهو الذي يتكلف الدخول إليه إما لضيق بابه أو لغير ذلك. أي مكانا يدخلون إليه. ولو كان الدخول بكلفة ومشقة (لولوا عن الجهاد {إليه وهم يجمحون} أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام. وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا وفيما قبلها من الحوادث وبعدها.
(ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون (58)
واللمز: العيب والطعن قال مجاهد: "يتهمك ويزريك" وقال عطاء: "يغتابك" وقال تعالى: {ومنهم الذين يؤذون النبي} الآية وذلك يدل على أن كل من لمزه أو آذاه كان منهم لأن {الذين} و {من} اسمان موصولان وهما من صيغ العموم والآية وإن كانت نزلت بسبب لمز قوم وإيذاء آخرين فحكمها عام كسائر الآيات اللواتي نزلن على أسباب وليس بين الناس خلاف نعلمه أنها تعم الشخص الذي نزلت بسببه ومن كان حاله كحاله ولكن إذا كان اللفظ أعم من ذلك السبب فقد قيل: أنه يقتصر على سببه والذي عليه جماهير الناس أنه يجب الأخذ بعموم القول ما لم يقم دليل يوجب القصر على السبب كما هو مقرر في موضعه.
وأيضا فإن كونه منهم حكم معلق بلفظ مشتق من اللمز والأذى وهو مناسب لكونه منهم فيكون ما منه الاشتقاق هو علة لذلك الحكم فيجب اطراده.
وأيضا فإن الله سبحانه وإن كان قد علم منهم النفاق قبل هذا القول لكن لم يعلم نبيه بكل من لم يظهر نفاقه بل قال: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} ثم أنه سبحانه ابتلى الناس بأمور تميز بين المؤمنين والمنافقين كما قال سبحانه: {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} وقال تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} وذلك لأن الإيمان والنفاق أصله في القلب وإنما الذي يظهر من القول والفعل فرع له ودليل عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه فلما أخبر سبحانه أن الذين يلمزون النبي صلى الله عليه وسلم والذين يؤذونه من المنافقين ثبت أن ذلك دليل على النفاق وفرع له ومعلوم أنه إذا حصل فرع الشيء ودليله حصل أصله المدلول عليه فثبت أنه حيثما وجد ذلك كان صاحبه منافقا سواء كان منافقا قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون هذا القول دليلا للنبي صلى الله عليه وسلم على نفاق أولئك الأشخاص الذين قالوه في حياته بأعينهم وإن لم يكن دليلا من غيرهم؟.
قلنا: إذا كان دليلا للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يمكن أن يغنيه الله بوحيه عن الاستدلال فأن يكون دليلا لمن لا يمكنه معرفة البواطن أولى وأحرى.
وأيضا فلو لم تكن الدلالة مطردة في حق كل من صدر منه ذلك القول لم يكن في الآية زجر لغيرهم أن يقول مثل هذا القول ولا كان في الآية تعظيم لذلك القول بعينه فإن الدلالة على عين المنافق قد تكون مخصوصة بعينه وإن كانت أمرا مباحا كما لو قيل:
من المنافقين صاحب الجمل الأحمر وصاحب الثوب الأسود ونحو ذلك فلما دل القرآن على ذم عين هذا القول والوعيد لصاحبه علم أنه لم يقصد به الدلالة على المنافقين بأعيانهم فقط بل هو دليل على نوع من المنافقين.
وأيضا فإن هذا القول مناسب للنفاق فإن لمز النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه لا يفعله من يعتقد أنه رسول الله حقا وأنه أولى به من نفسه وأنه لا يقول إلا الحق ولا يحكم إلا بالعدل وأن طاعته لله وأنه يجب على جميع الخلق تعزيره وتوقيره وإذا كان دليلا على النفاق نفسه فحيثما حصل حصل النفاق.
وأيضا فإن هذا القول لا ريب أنه محرم فإما أن يكون خطيئة دون الكفر أو يكون كفرا والأول باطل لأن الله سبحانه قد ذكر في القرآن أنواع العصاة من الزاني والقاذف والسارق والمطفف والخائن ولم يجعل ذلك دليلا على نفاق معين ولا مطلق فلما جعل أصحاب هذه الأقوال من المنافقين علم أن ذلك لكونها كفرا لا لمجرد كونها معصية لأن تخصيص بعض المعاصي يجعلها دليلا على النفاق دون بعض لا يكون حتى يختص دليل النفاق بما يوجب ذلك وإلا كان ترجيحا بلا مرجح فثبت أنه لا بد أن يختص هذه الأقوال بوصف يوجب كونها دليلا على النفاق وكلما كان كذلك فهو كفر.
وأيضا فإن الله سبحانه كما ذكر بعض الأقوال التي جعلهم بها من المنافقين وهو قوله تعالى: {ائذن لي ولا تفتني} قال في عقب ذلك: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر} إلى قوله: {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون}
فجعل ذلك علامة مطردة على عدم الإيمان وعلى الريب مع أنه رغبة عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استنفاره وإظهار من القاعد أنه معذور بالقعود وحاصله عدم إرادة الجهاد فلمزه وأذاه أولى أن يكون دليلا مطردا لأن الأول خذلان له وهذا محاربة له وهذا ظاهر.
وإذا ثبت أن كل من لمز النبي صلى الله عليه وسلم أو آذاه منهم فالضمير عائد على المنافقين والكافرين لأنه سبحانه لما قال: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} قال: {لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله} وهذا الضمير عائد إلى معلوم غير مذكور وهم الذين حلفوا {لو استطعنا لخرجنا معكم} وهؤلاء هم المنافقون بلا ريب ولا خلاف ثم أعاد الضمير إليهم إلى قوله: {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} فثبت أن هؤلاء الذين أضمروا كفروا بالله ورسوله وقد جعل منهم من يلمز ومنهم من يؤذي وكذلك قوله: {وما هم منكم} إخراج لهم عن الإيمان.
وقد نطق القرآن بكفر المنافقين في غير موضع وجعلهم أسوأ حالا من الكافرين وأنهم في الدرك الأسفل من النار وأنهم يوم القيامة يقولون للذين آمنوا: {انظرونا نقتبس من نوركم} الآية إلى قوله: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا} وأمر نبيه في آخر الأمر بأن لا يصلي علي أحد منهم وأخبر أنه لن يغفر لهم وأمره بجهادهم والإغلاظ عليهم وأخبر أنهم إن لم ينتهوا ليغرين الله نبيه بهم حتى يقتلوا في كل موضع.
(ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (59)
جعل الإيتاء لله والرسول. كما في قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
وأما التوكل والرغبة فلله وحده. كما في قوله تعالى {وقالوا حسبنا الله} ولم يقل ورسوله. وقال: {إنا إلى الله راغبون} ولم يقل: وإلى الرسول وذلك موافق لقوله تعالى {فإذا فرغت فانصب} {وإلى ربك فارغب}.
فالعبادة والخشية والتوكل والدعاء والرجاء والخوف لله وحده لا يشركه فيه أحد وأما الطاعة والمحبة والإرضاء: فعلينا أن نطيع الله ورسوله ونحب الله ورسوله ونرضي الله ورسوله؛ لأن طاعة الرسول طاعة لله وإرضاءه إرضاء لله وحبه من حب الله. وكثير من أهل الضلال من الكفار وأهل البدع بدلوا الدين فإن الله تعالى جعل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وسائط في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده فليس لأحد طريق إلى الله إلا متابعة الرسول بفعل ما أمر وترك ما حذر. ومن جعل إلى الله طريقا غير متابعة الرسول للخاصة والعامة فهو كافر بالله ورسوله: مثل من يزعم أن من خواص الأولياء أو العلماء أو الفلاسفة أو أهل الكلام أو الملوك من له طريق إلى الله تعالى غير متابعة رسوله ويذكرون في ذلك من الأحاديث المفتراة ما هو أعظم الكفر والكذب.
كقول بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم استأذن على أهل الصفة فقالوا: اذهب إلى من أنت رسول إليه. وقال بعضهم: إنهم أصبحوا ليلة المعراج فأخبروه بالسر الذي ناجاه الله به وأن الله أعلمهم بذلك بدون إعلام الرسول.
وقول بعضهم: إنهم قاتلوه في بعض الغزوات مع الكفار وقالوا: من كان الله معه كنا معه وأمثال ذلك من الأمور التي هي من أعظم الكفر والكذب. ومثل احتجاج بعضهم بقصة الخضر وموسى عليه السلام على أن من الأولياء من يستغني عن محمد صلى الله عليه وسلم كما استغنى الخضر عن موسى.
وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
بين سبحانه وتعالى أنه كان ينبغي لهؤلاء أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله ويقولوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون فذكر الرضا بما آتاه الله ورسوله لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وتحليله وتحريمه ووعده ووعيده. فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله؛ ولهذا قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فليس لأحد أن يأخذ من الأموال إلا ما أحله الله ورسوله والأموال المشتركة له كمال الفيء والغنيمة والصدقات عليه أن يرضى بما آتاه الله ورسوله منها وهو مقدار حقه لا يطلب زيادة على ذلك. ثم قال تعالى: {وقالوا حسبنا الله} ولم يقل " ورسوله " فإن الحسب هو الكافي والله وحده كاف عباده المؤمنين كما قال تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} أي هو وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين. هذا هو القول الصواب الذي قاله جمهور السلف والخلف كما بين في موضع آخر.
والمراد أن الله كاف للرسول ولمن اتبعه فكل من اتبع الرسول فالله كافيه وهاديه وناصره ورازقه ثم قال تعالى: {سيؤتينا الله من فضله ورسوله} فذكر الإيتاء لله ورسوله لكن وسطه بذكر الفضل فإن الفضل لله وحده بقوله: {سيؤتينا الله من فضله ورسوله} ثم قال تعالى: {إنا إلى الله راغبون} فجعل الرغبة إلى الله وحده دون الرسول وغيره من المخلوقات.
(فصل فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وأما المسألة الثالثة: فقوله فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله فإن كانت المعاصي بغير قضاء الله فهو محال وقدح في التوحيد وإن كانت بقضاء الله تعالى فكراهتها وبغضها كراهة وبغض لقضاء الله تعالى؟ فيقال: ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله آية ولا حديث يأمر العباد أن يرضوا بكل مقضي مقدر من أفعال العباد حسنها وسيئها؛ فهذا أصل يجب أن يعتنى به ولكن على الناس أن يرضوا بما أمر الله به فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وقال تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} وقال: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} وذكر الرسول هنا يبين أن الإيتاء هو الإيتاء الديني الشرعي لا الكوني القدري وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا}.
وينبغي للإنسان أن يرضى بما يقدره الله عليه من المصائب التي ليست ذنوبا مثل أن يبتليه بفقر أو مرض أو ذل وأذى الخلق له فإن الصبر على المصائب واجب وأما الرضا بها فهو مشروع لكن هل هو واجب أو مستحب؟ على " قولين " لأصحاب أحمد وغيرهم: أصحهما أنه مستحب ليس بواجب.
ومن المعلوم أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وقد أمرنا الله أن نأمر بالمعروف ونحبه ونرضاه ونحب أهله وننهى عن المنكر ونبغضه ونسخطه ونبغض أهله ونجاهدهم بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا فكيف نتوهم أنه ليس في المخلوقات ما نبغضه ونكرهه وقد قال تعالى لما ذكر ما ذكر من المنهيات: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها} فإذا كان الله يكرهها وهو المقدر لها فكيف لا يكرهها من أمر الله أن يكرهها ويبغضها وهو القائل: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} وقال تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} وقد قال تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} وقال تعالى: {وغضب الله عليهم ولعنهم} وقال تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} فأخبر أن من القول الواقع ما لا يرضاه.
وقال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} وقال: {ورضيت لكم الإسلام دينا}
وقال: {وإن تشكروا يرضه لكم} فبين أنه يرضى الدين الذي أمر به فلو كان يرضى كل شيء لما كان له خصيصة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه قال لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته} وقال: {إن الله يغار والمؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه} ولا بد في الغيرة من كراهة ما يغار منه وبغضه وهذا باب واسع.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|