رد: تفسير سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
باب التفسير
يقدمه: عنتر أحمد حشاد
3 -
جـ-عرض عام للسورة:
رأينا- فيما تقدم-أن سورة البقرة من أوائل ما نزل من القرآن الكريم بعد الهجرة: بعد أن أصبح للمسلمين جوار في المدينة وفيما حولها غير جوارهم السابق في مكة، فقد جاوروا فيها أهل الكتاب من اليهود والنصارى بعد جوارهم للمشركين في مكة قبل الهجرة.
كما رأينا أن السورة- لهذا في نصفها الأول [في الأرباع العشرة الأولى إلى آخر آية البر (الآية: 177) ] - وجهت الدعوة إلى بني إسرائيل خاصة- بعد أن دعت الناس عامة- إلى عبادة الله وحده، والوفاء بعهده، والخوف منه وتقواه، والإيمان بالقرآن المعجز، المصدق لما معهم من التوراة، ونهتهم عن أن يكونوا أول الكافرين به، وأن يخلطوا الحق بالباطل، أو يكتموه، وبكتت رؤساءهم الذين يتلون الكتاب، ويأمرون غيرهم بالخير، تاركين أنفسهم دون تزكية أوتطهير.
وفي سبيل هذه الدعوة أخذت تذكرهم بما أنعم الله عليهم، وعلى أسلافهم من قبل، وبما عاقب العاصين المعتدين منهم، ولفتت أنظارهم إلى آثار رحمته وقدرته، تذكيرا بالنعم، وتأديبا بالنقم.
أجملنا ذلك- فيما سبق- فلنعد إليه بشيء من البسط والتوضيح والتفصيل:
بحسبك أن تعلم أن سورة البقرة هى غرة السور المدنية (من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة) ، وأن المدينة وضواحيها كان يسكنها أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وأكثرهم جدالا في دينهم، بما أوتوه من العلم قبلهم، وهم اليهود.
بحسبك أن تعلم هذا وذاك لتعرف سر تلك العناية الموفورة بهذا الجانب من الدعوة، نعني دعوة بني إسرائيل خاصة بعد دعوة الناس عامة، ولتعلم حكمة ذلك التبسط في الحديث معهم تارة، والحديث- عنهم تارة أخرى، بألوان تختلف دفاعا وهجوما، وتختلف لينا وشدة، إلى منتصف السورة تقريبا (الآيات من 40 إلى 177) .
وسترى- حين تقرأ هذه الآيات، وتنتقل في هذه الأحاديث من مرحلة إلى مرحلة- ما يملك قلبك من جمال نظامها، ودقة تقسيمها.
(بدأ) الكلام معهم بآية فذة (الآية 40) هي على قلة كلماتها آية جامعة لإغراض الحديث كله، ففيها يناديهم بأحب أسمائهم، وأشرف أنسابهم، ويذكرهم بسابق نعمة الله عليهم اجمالا، ويبني على ذلك دعوتهم إلى الوفاء بعهده، ويرغبهم، ويرهبهم: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم، وأياي فارهبون) .
(نعم) رجع إلى هذه الأغراض يفصلها على تدرج، وبقدر معلوم، فشرح العهد الذي طلب منهم الوفاء به في ست آيات (41 - 46) وبين مقدار النعمة التي امتن بها عليهم في آية (47) ومقدار المخافة التي خوفهم منها في آية أخرى (آية 48) .
(ثم) قسم الحديث- بعد ذلك- إلى أربعة أقسام.
(القسم الأول) يذكر فيه سالفة اليهود (سالفة اليهود: المتقدمون من اليهود، ونعني بهم اليهود قبل بعثة رسولنا- صلى الله عليه وسلم-) منذ بعث فيهم موسى عليه السلام.
(القسم الثاني) يذكر فيه أحوال المعاصرين منهم للبعثة المحمدية.
(القسم الثالث) يذكر فيه أولية المسلمين منذ إبراهيم عليه السلام.
(القسم الرابع) يذكر فيه حاضر المسلمين في وقت البعثة.
القسم الأول: ذكر سالفة اليهود (الآيات من 49 إلى 74)
استهل الخطاب في هذا القسم بثماني آيات (49 - 56) يعرف فيها بني إسرائيل بتفاصيل المنن التي امتن بها عليهم مرة بعد مرة، وهي تلك النعم التاريخية القديمة التي اتصل أثرها، وسرى نقعها من الأصول إلى الفروع، فجعل يذكرهم بأيام الله فيهم: يوم أنجاهم من آل فرعون، ويوم أنجاهم من اليم وأغرق أعداءهم فيه وهم ينظرون، ويوم واعدهم بانزال الكتاب عليهم، ويوم حقق وعده بانزاله، ويوم قبل توبتهم عن الردة والشرك بالله، ويوم قبل توبتهم عن التمرد على نبيهم واقتراح العظائم عليه، إذ قالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) .
وإنها لنعم جليلة: (سابقة للذنب ولاحقة) تلين ذكراها القلوب، وتحرك الهمم لشكر المنعم، وامتثال أمره.
وقبل أن ينتقل من تذكيرهم بتلك النعم الجليلة المطمعة للشاكرين في المزيد- إلى تذكيرهم بجرائمهم، وما حاق بهم من ضروب النكال، وصنوف الوبال، الموجبة للاعتبار والامتثال- بين أنه تعالي متعهم فوق هذا كله متاعا حسنا، إذ ظلل عليهم الغمام، ورزقهم من الطعام والشراب رزقا هنيئا من حيث لا يحتسبون، ومن حيث لا كد ولا نصب، ولا جهد ولا تعب، فظلموا أنفسهم وبطروا تلك النعمة، وحرفوا كلمة الشكر بتبديلها هزوا ولعبا، واقترحوا بدل ذلك الرزق الناعم عيشة الكدح والعناء، والتعب والشقاء، إذ طلبوا بدل المن (المن: مادة حلوة لزجة تشبه العسل كانت تسقط كالندى على الشجر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس) والسلوى (السلوى: السماني، أو طائر يشبهه وكان يأتيهم بكرة وعشية فيختارون سمانه، وقد أطعموا بالمن والسلوى في التيه) البقل (البقل: النبات الرطب مما يأكله الناس والأنعام) والقثاء (القثاء: هي المعروفة بالقتة) والفوم (الفوم: الثوم) والعدس والبصل، فألزمهم الله ما التزموا وأمرهم بنزول مصر (المصر: البلد الزراعي، وهو الذي يوجد فيه ما طلبوا من هذه الأطعمة) من الأمصار، وضرب عليهم الذلة والمسكنة (الآيات من 57 إلى 61) .
وهذا محض الحديث لذكر المخالفات والعقوبات، فذكر أنهم باءوا بغضب من الله، لأنهم كفروا بآيات الله الكونية، والتنزيلية (الآيات الكونية التي كفروا بها، مثل: فلق البحر، واظلال الغمام، وإنزال المن والسلوى، وانفجار العيون من الحجر، والآيات التنزيلية التي أخفوها، مثل: آية الرجم للزاني في التوراة وتحريف ما جاء فيها من نعت رسول الله سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم-) ، وقتلوا النبيين (غير أنه استثنى المؤمنين منهم من هذا الغضب) وتمردوا على أوامر التوراة جملة، حتى أرغموا على قبولها والعمل بها بما رأوا من رفع الجبل فوقهم، وظنهم أنه واقع بهم (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة، وأذكروا ما فيه لعلكم تتقون) ثم تولوا وأعرضوا عن هذه الأوامر، حتىاستحقوا العقاب والخسران- لولا فضل الله عليهم ورحمته- وذكر أن منهم من اعتدى يوم السبت بصيد السمك، وقد أمروا أن يتفرغوا فيه لعبادته، فضرب الله عليهم الخزي، وسلبهم خصائص الإنسانية الفاضلة، وملأ قلوبهم بالطمع والشره، شأن القردة، وكانت تلك عقوبة ظاهرة فيهم، وفي أسلافهم من بعد (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) [من 61 - 66] (خاسئين: أذلاء مطرودين) (فجعلناها عقوبتهم) (نكالا: عبرة لغيرهم) (لما بين يديها: للمعاصرين لها (وما خلفها) : ومن بعدها من الأمم).
وذكر أنهم تباطئوا في تنفيذ أمر نبيهم بذبح البقرة، وبلغ بهم الجهل بمقام نبوته أن ظنوا في تبليغه عن ربه أنه هازل غير جاد (مضت قصة عنادهم وتلكئهم في ذبح البقرة بالتفصيل في ص4، 5 من عدد ذي الحجة 1395 هـ من المجلة) [67 - 73] .
حلقة الاتصال بين القسمين الأول والثاني (آية 74) .
وفي انتقال الآيات من الحديث عن ماضي اليهود، وربطه بحاضرهم- انظر كيف وضع القرآن بينهما حلقة الاتصال في هذه الآية الرابعة والسبعين التي ختم بها القسم الأول: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة (فقوله: (من بعد ذلك) كلمة حددت مبدأ تاريخ القسوة، ولم تحدد نهايته، كأنها بذلك وضعت عليه طابع الاستمرار، وتركته يتخطى العصور والأجيال، حتى يظن السامع أن الحديث قد أشرف به على العصر الحاضر، ثم لم يلبث هذا الظن أن يزداد قوة بقوله: (فهي كالحجارة) دون أن يقول: فكانت كالحجارة.
ثم أنظر كيف كان انتهاؤه إلى وصف قلوبهم بهذا الوصف- وهو القسوة- توطئة (تمهيدا) لتغيير الأسلوب فيهم، فإن من يبلغ قلبه هذا الحد من القسوة التي لا لين فيها- يصبح استمرار الخطاب معه بعيدا عن الحكمة، ويصير جديرا بصرف الخطاب عنه إلى غيره ممن له قلب سليم.
وهكذا سينتقل الكلام من الحديث معهم في شأن سلفهم إلى الحديث معنا- نحن المسلمين- في شأنهم أنفسهم: شأن اليهود المعاصرين للبعثة.
القسم الثاني: ذكر اليهود المعاصرون للبعثة (الآيات من 75 - 121) :
افتتح الكلام في هذا القسم بجملة طريفة ليست على سنن ما قبلها، ولا سنن ما بعدها من السرد الاخباري، جملة استفهامية يحيط بها حرفان، لهما معناهما: (أحدهما) يعيد إلى الذاكرة كل ما مضى من وقائع القسم الأول: ما أنعم الله به عليهم، ومقابلتهم هذه النعم بالكفران والعناد والتمرد، وعقاب الله لهم (والآخر) بفتح الباب لكل ما يأتي من حوادث هذا القسم الثاني. وتقع هي [جملة (تطمعون أن يؤمنوا لكم) ] بين التاريخين القديم والحديث موقع العبرة المستنبطة، والنتيجة المقررة، بين أسباب مضت، وأسباب تأتي (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعملون) (من بعد ما فهموا كلام الله في التوراة) (الآية 75 التي افتتح بها القسم الثاني) .
فهذه الفاء تقول لنا: (بعد كل ما قصصناه يطمع طامع في إيمان هؤلاء القوم، وهم الوارثون لذلك التاريخ الملوث؟) .
وهذه الواو تقول لنا: (هذا، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، ومازالوا في طغيانهم يعمهون) .
وإلى الحلقة القادمة- إن شاء الله- لتوضيع ذلك، وتفصيله، والله ولي التوفيق.
عنتر حشاد
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 07-02-2025 الساعة 05:40 PM.
|