رد: ضوابط التكفير والتفسيق وأصولهما عند أهل السنة والجماعة
ضوابط التكفير والتفسيق وأصولهما عند أهل السنة والجماعة (2)
مذهب الغلو في التكفير للأفراد والمجتمعات يغلِِّّب جانب إهدار الدماء، وإخراج المسلمين من الإسلام جماعاتٍ وأفرادًا, وهذا خلاف مقصود الشرع.
استكمالا لما بدأناه في الحلقة السابقة في الكلام عن ضوابط التكفير نقول: ومن الأمور التي يُنَبَّه عليها: أن الخطأ في إكفار مسلم أعظم عند الله من الخطأ في الحكم بإسلام كافر: واعلم أن الخطأ في هاتين المسألتين ليس سواء, وكثير ممن اختل عندهم الميزان الشرعي في باب التكفير, وغَلَوْا في ذلك؛ يهدِّدون مخالفيهم بأن الخطأ فيهما سواء, ويقولون لمخالفهم: كما تُنكر علينا الإقدام على التكفير لمسلم في نظرك؛ فنحن ننكر عليك الإحجام عن تكفير الكافر في نظرنا، والذي تسمية أنت -خَطَأً- مسلمًا!! وهذه مكيدة يصطادون بها كثيرًا ممن لم يستبصر بأدلة هذا الباب, فيندفع في تكفير المسلمين، خشية أن يقع في الحكم بغير ما أنزل الله إن لم يكفِّر الكافر!! وبيان خلل ذلك من وجوه:
(أ) لقد وَرَدَ التحذير من التجرؤ على تكفير المسلم, والخطأ في هذا الباب دون أهلية لذلك، ولم يرِدْ مثله في الخطأ في إبقاء حكم الإسلام على مسلم وقع في مُكَفِّر: قولاً أو فعلاً, أو اعتقادًا, أو الخطأ في الحكم بإدخال كافر في الإسلام أظهر شعيرة من شعائر الإسلام.
فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «أيّما امرئ قال لأخيه: يا كافر, فقد باء بها أحدهما, إن كان كما قال؛ وإلا رجعتْ عليه» وفي رواية: «لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق, ولا يرميه بالكفر؛ إلا ارتدت عليه, إن لم يكن صاحبه كذلك» وفي رواية أخرى: «من لعن مؤمنًا؛ فهو كقتله, ومن قذف مؤمنًا بكفر؛ فهو كقتله» ولما قال عابد بني إسرائيل لفاجرهم: والله لا يغفر الله لك أبدًا!؛ قال تعالى كما في الحديث القدسي: «من ذا الذي يتألَّى عليّ؟ هل كنتَ بي عالماً؟ أم كنتَ على ما في يدي قادراً؟ اذهبوا به – أي بالرقيع- إلى الجنة, وبهذا – أي العابد المتجرئ على الله- إلى النار» فقال أبو هريرة: قال كلمة أَوْبقتْ دنياه وآخرته.
فهذه أدلة كلها في التحذير من الإفراط في التكفير والتفسيق, فأين الأدلة التي وردت في مقابلها بتهديد من أخطأ في الحكم بإسلام كافر إذا كان مُدَّعِي التسوية مصيبًا؟!
(ب) المتأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجد أنه كان يقبل إسلام الأفراد, والجماعات, والقبائل في الوفود بمجرد كلمة «أشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا رسول الله» مع أن بعضهم قد يُسْلم طمعًا في دنيا, أو خوفاً من سيف, أي عن رغبة أو رهبة, ولا يُخْلِص دينه لله, كالمنافقين, فكان قبول دخولهم في الإسلام سهلاً, ثم تجري عليهم أحكام الإسلام مباشرة, حتى لو كان دخولهم فيه بكلمة واحدة, أو بإشارة, أو بكلمة ظاهرها سيء، لكنهم ما قصدوا هذا المعنى، كبني جُدَيْمة عندما قالوا: «صبأنا» وقد عجزوا عن قولهم: «أسلمْنا» أو نحو ذلك.
وأما إخراجهم من الإسلام بعد دخولهم فيه فيكون بعد الاستتابة, وإقامة الحجة, والاستفصال, وإزالة الشبهة, وقَطْع العذر, ولم يأت قبل الحكم بإسلامهم إمهالهم أيام عدة حتى يتعرفوا على الدين من جميع جوانبه، وحتى لا يُحكم لهم بالإسلام إلا بعد ثبوت تيقنهم بكل ما هو مطلوب منهم إذا دخلوا في الإسلام!! وسيأتي – إن شاء الله تعالى- موقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - مِنْ حاطِبٍ عندما والَى المشركين, وكيف استفصل في دوافع فعله المحرَّم، وهذا دليل على الفرق بين الإدخال في الإسلام لمن كان كافرًا في الأصل، وبين إخراج المسلم من الإسلام بعد دخوله فيه, وكل هذا من باب الترغيب في الدخول في الإسلام, والمبالغة في حَقْنِ الدماء, والعمل بالظاهر دون الغوص في السرائر، أما مذهب الغلو في التكفير للأفراد والمجتمعات فيغلِّب جانب إهدار الدماء، وإخراج المسلمين من الإسلام جماعاتٍ وأفرادًا, وهذا خلاف مقصود الشرع.
ومن الأدلة على ذلك: قصة الرجل المشرك الذي كان إذا مَالَ على طائفة من المسلمين قتلها, وأنزل بها النكاية، فلما رآه أسامة بن زيد – حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حِبِّه- أخذته الغيرة الإيمانية على الدماء المسلمة التي عَبَثَ بها هذا المشرك, فلما رفع عليه السيف ليقتله, قال المشرك عندما رأى بريق السيف: لا اله إلا الله, فظن أسامة أنه ما قالها إلى تعوذًا من السيف؛ إذْ لو كان مؤمنًا حقًّا لردعه إيمانه عن فعله بالمسلمين قُبيْل كلمته هذه بقليل, فقتله أسامة غضبًا منه لله عز وجل، ولدينه، وأوليائه, فلما علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بذلك أنكر عليه، وقال: «أَقَتَلْتَهُ بعد أن قال لا إله إلا الله» فاعتذر أسامة بما سبق, ولولا إنكار رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عليه؛ لكان لعذره وجاهة عند كثير من الناس لما سبق, لكن العبرة في إنكار رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لا فيما اعتذر به أسامة, فقد قال أسامة معتذرًا: ما قالها إلا تعوذًا يا رسول الله, فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «هلا شَقَقْتَ عن قلبه لتعْلَم أقالها تعوُّذًا أم لا؟» فقال أسامة -وقد أدرك خطأه-: استغفر لي يا رسول الله, فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «كيف أنت إذا جاءت لا إله إلا الله يوم القيامة»؟! فكرر أسامة طلب الاستغفار, ورسول الله -صلى الله عليه وسلم - لم يَزِدْ على قوله: «كيف أنت إذا جاءت لا إله إلا الله يوم القيامة»؟! حتى قال أسامة: حتى تَمَنَّيْتُ أني لم أكن أسلمْتُ قبل يومئٍذ!!.
وجه الشاهد من القصة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حَكَمَ بإسلام الرجل لمجرد الكلمة التي قالها مع قيام الشبهة حوله, وهي أنه قال ما قال تعوُّذًا من السيف، لا رغبة في الإسلام، وقَبِل من الرجل إسلامه دون تردد، وأهمل العمل بالشبهة في حالة الدخول في الإسلام، كأن يرفض كلمته للشبهة، أو يتوقف في الحكم بإسلامه مدة من الزمن، حتى يطمئن إلى صحة قصده واختياره للإسلام عما سواه من الأديان!! وأما الشبهة إذا قامت حول مسلم ثبت إسلامه، ثم وقع في مكفِّر, وكان هناك احتمال بتكفيره, واحتمال آخر ببقائه على الإسلام؛ حَكَمْنا ببقائه على الإسلام, حَقْنًا لدمه، وعملاً بالأصل المتيقَّن حتى يثبت خلافه، فالشبهة تُراعَى عند الإخراج لا عند الإدخال, وهذا من باب تغليب حقن الدماء على إهدارها, فهل يستويان مثلا؟!
نعم لا يلزم من الحكم بالإسلام عدم التحري مطلقًا، فقد حكم الله بإيمان المهاجرات، مع طلب الامتحان لهن، بسبب الشبهة الطارئة على صدقهن في الهجرة والإيمان، ولما سينبني على ذلك من ردّ المهر للكفار، وغير ذلك، ومع وجود الشبهة القوية، ومع وجود الأمر بالامتحان؛ فقد حكم الله بإيمانهن، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ۚ ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } {الممتحنة:10} فسمّاهن سبحانه وتعالى مؤمنات مع الشبهة والأمر بالامتحان، إنما جُعِل الامتحان لما سيترتب على ذلك من أحكام، ومنها جواز نكاحهن، ولاشك أن هذا لا يُكتفى فيه بمجرد الظاهر، فلا تعارض بين قبول إسلام من أظهر ما يدل على إسلامه وبين التحري والحذر.
وبنحو ذلك ما ذكره المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله, أرأيت لو أن رجلاً ضربني بسيف, وأراد قَتْلِي, فقطَع يدي, ولاذَ مِنِّي بشجرة, فلما تَمكَّنْتُ منه؛ قال: أشهد أن لا إله إلا الله, أفأضربه؟ قال: «لا تقتلْه؛ فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله, وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال».
وللعلماء كلام في تفسير المراد بالمنزلة هنا: هل هي منزلة الإسلام والكفر, أم منزلة عصمة الدم وإهداره مع بقائه على الكفر؟ وهذا لا يهمنا في هذا المقام، إنما يهمنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قد حَكَم بإسلامه وعِصْمة دمه مع الشبهة، وهذا بخلاف صنيع المخالفين.
وبنحو ذلك أيضًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } {النساء:94}، وسبب نزولها الذي يذكره المفسرون: أن سرية من المسلمين مرُّوا على رجل في غُنيمات له, فلما رآهم؛ فرِح بهم، وقال: السلام عليكم، فقتلوه, ظنًّا منهم أنه ما قال ذلك إلا تَعوُّذًا من السيف, فنزلت الآية تأمرهم بالتثبت والتبين, بل ذُكِر الأمر بالتبين مرتين في آية واحدة؛ لأهمية التبين قبل الإقدام على تكفير مسلم, وقتله, ولم يؤمر بالتبين في الحكم بدخول كافر في الإسلام مع وجود احتمال أنه ما أسلم إلا مكيدة في الإسلام, وقد سبق بيان حُكْمِ الله تعالى بامتحان المؤمنات المهاجرات لما قامت حولهن شبهة, ومع ذلك سماهن مؤمنات, ولم يكفِّرهن، أو يحكم بالتوقف في الحكم بإسلامهن، فلا هن مؤمنات، ولا هن كافرات، فإن ذلك مصادم لصريح الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ......} {الممتحنة:10}، وكذا الحكم بإسلام المنافقين مع ما يظهر من خبيث سرائرهم في لَحْنِ القول، كل هذا يدل على أن الشريعة جاءت بالتسهيل في قبول ما يدل على الإسلام, وأما الإخراج من الإسلام فشديد, ولذا فلا بد من استيفاء شروط ذلك وانتفاء موانعه، فأين التسوية المزعومة بين الأمرين؟!
اعداد: أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|