عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 28-01-2025, 01:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,995
الدولة : Egypt
افتراضي رد: من تجليات سورة الرحمن عروس القرآن

من تجليات سورة الرحمن عروس القرآن (6)

د. نبيه فرج الحصري



السماء والميزان





قال تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾ [الرحمن: 7]، يبيِّن المولى عز وجل في هذه الآية الكريمة أنه وحدَه يتولى رفع السماء عن الأرض، ومن فَحوى الآية الكريمة، فإن السماء كانت ملتصقة بالأرض، ولكنه عز وجل تولَّى فصْلهما عن بعضيهما، ومِن ثَم رفع السماء مسافة محسوبة عن الأرض، ويُطابق ذلك ما ورد في الآية الكريمة: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30]؛ أي: كانت السماء ملتصقة بالأرض، فلا أكسجين ولا ماء ولا هواء ولا إمكانية للحياة بسبب ذلك، وحينما أراد الله عز وجل للأرض أن تُعمَّر بالحياة وتَحلو بمجاري المياه وتزدان بالنبات، فقد أذن للسماء أن ترتفع عن الأرض إلى الحد الذي أوجد بقدرته عز وجل ما عُرف بالغلاف الجوي لصيانة استمرار الحياة على الأرض إلى حين.

وأصبحت الأرض بعد هذا الرفع أو الفتق مُحاطة بالغلاف الجوي الذي يتحكم في درجة حرارتها، ويحفَظ لها الهواء بمكوِّناته وعناصره المختلفة، وبنسب معينة حدَّدها الله عز وجل تحافظ على بقاء الماء من خلال الدورة المائية الطبيعية، وكذا يحفَظ للمخلوقات على ظهر الأرض قدرتَها على التنفس والحصول على الأكسجين اللازم لبقائها في عداد الأحياء.

أما بعد الخروج عن دائرة الغلاف الجوي، فالأمر يختلف كثيرًا، ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الأنعام: 125]؛ أي: إن الضال يكون صدره ضيقًا غير مرتاح في تنفُّسه أثناء عملية دخول الهواء إلى صدره وخروجه منه، وتُشبه حالة الضال هذه بخصوص صعوبة التنفس ما يتعرَّض له الصاعد إلى السماء، ولكن لفظ يَصَّعَّدُ المستخدم في الآية الكريمة وبتشديد حرفي الصاد والعين، يدلِّل على صعوبة الصعود أيضًا؛ لأن الإنسان في هذه الحالة يكون معاكسًا لاتجاه الجاذبية الأرضية، وصعوبة التنفس نظرًا لقلة الأكسجين في طبقات الجو العليا تدريجيًّا حتى ينعدم نهائيًّا، وتكون هناك حاجة في هذه الحالات لاصطحاب أنابيب الأكسجين المحمولة على الظهر.

وبعد الخروج من دائرة الغلاف الجوي أو طبقة الأوزون تختلف درجات الجرارة كثيرًا عما هو على الأرض؛ حيث تتباين درجات الحرارة ما بين البرودة الشديدة التي يُمكن أن تجمد الجسم البشري، أو الحرارة الشديدة التي يُمكن أن تَحرقه، وكذا ينعدم الأكسجين اللازم للتنفس من أجل الحفاظ على الحياة وَفقًا للقوانين الأرضية.

ورُبما ينعدم الهواء ذاته أو تتغيَّر مكوناته وعناصره ونِسبُها تغيرًا حتميًّا جوهريًّا في أماكن أخرى من السماء، أو الكون الرباني الفسيح الذي لا يعلم مداه إلا خالقه عز وجل، ومَن شاء من خلقه، وذلك لأن كائنات ما وراء الغلاف الجوي تسبَح في السماء ملتصقات بها مباشرة، وليست منفصلة بفاصل كالغلاف الجوي المحيط بالأرض، لذا يلبس روَّاد الفضاء ملابس معينة مناسبة للفضاء الخارجي، وكذا يصطحبون معهم أنابيب تحتوي على كمية الأكسجين اللازمة للتنفس، ولإبقائهم أحياءً طيلة رحلتهم؛ أي: إن العلاقة ما بين السماء والأرض تحديدًا هي علاقة شديدة الخصوصية، ومختلفة إلى حد بعيد عن وضعية العلاقة ما بين السماء والكواكب أو الأجسام الأخرى الموجودة في الفضاء خارج نطاق الغلاف الجوي، كل تلك المدلولات نَخرج بها من عملية رفع السماء عن الأرض التي قام بها وأوضَحها المولى عز وجل في تلك الآية الكريمة من سورة الرحمن، فماذا عن وضع الميزان؟

وضع الله عز وجل ميزانًا دقيقًا للحياة على سطح الأرض، ذلك الكوكب الذي أراد الله له أن يُعمَّر بذكره ويمتلأ بخلقه من البشر والأمم الأخرى التي تشاركه سُكنى الأرض، وما بها من بحار وعوالم، وهذا لا ينفي وجود أنواع أخرى من الحياة على الكواكب أو النجوم الأخرى، هذا الأمر يعلمه الله عز وجل وحده.

أما بالنسبة للأرض، فقد زوَّدها الله بالعناصر التي تساعد الخليقة التي تسكُنها على الحياة فيها، زوَّدها بالهواء والماء والتربة الصالحة للإنتاج الزراعي، وغير ذلك من العناصر الطبيعية التي أوجَدها الله لتَدعم عملية الحياة على الكوكب الأرضي، ومن ثم أحاط ذلك كله بالغلاف الجوي السابق الإشارة إليه، ولو زادت الحرارة عن ذلك قليلًا لجفَّت الأنهار والبحار، ولو انخفضت لتجمَّدت ولانعدمت الحياة على الأرض في الحالتين.

ومن أجل الحفاظ على هذا الميزان الخاص بدرجة الحرارة، وما يرتبط بها من نسبة الرطوبة والبخار، والظواهر الطبيعية الأخرى المرتبطة بالعلاقات ما بين الماء والهواء والشمس - أحاط الله الأرض بغلاف يَحميها من العوامل السماوية التي تؤثر تأثيرات من شأنها القضاء على الحياة الأرضية، وهذا هو الميزان الطبيعي المذكور في الآية الكريمة.

ومن عجبٍ أن يقول البعض: إن الحياة البشرية مُمكنة على القمر أو المريخ، فهذا الأمر مستحيل؛ لأنه لا يكون في ملك الله عز وجل إلا ما يقدِّره ويرضاه، وهو عز وجل قد استخلَف في الأرض خليفةً، ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، وهذا الخليفة هو الإنسان ولم يُشرِّع له الله عز وجل فيما وصل إلى أفهام الناس أن يتجاوز ذلك الاستخلاف إلى ما دون الأرض، كما أنه عز وجل قد هيَّأ الأرض دون غيرها لسكنى البشر والأمم الأرضية، ولم يهيِّئ غيرها من الكواكب لهذه المهمة، وعلى ذلك فإن الحياة الطبيعية على غير الأرض من الأماكن هو أمرٌ محل نظر، ولم يتم الحسم بعد بإمكانية حدوثه إلا إذا كان وضع الميزان المذكور في الآية الكريمة يمكن أن يدلِّل على أماكن أخرى غير كوكب الأرض، أو أن يُوضَع للأماكن الأخرى غير الأرض ميزانٌ حيوي يخصها، والله عز وجل أعلى وأعلمُ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 18.17 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 17.54 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.46%)]