مصطلحات ابن خلدون والمعاصرين للمذاهب الاصولية"نقد وتقويم"
مصطلحات ابن خلدون والمعاصرين للمذاهب الاصولية"نقد وتقويم"
رامي عبدالغفور آل حامد
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله كثيرا طيّبا مباركا فيه, وصلّى الله وسلّم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين, وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
أما بعد:
فمنذ أولى سنىّ الطلب ونحن نتلقى أنّ المذاهب (المناهج, المدارس) الأصولية ثلاث:
-*مذهب المتكلمين, ويعنون به: الشافعية والمالكية والحنابلة.
-*مذهب الفقهاء, ويعنون به: الحنفية
-*مذهب من جمع بين الطريقتين السابقتين
حتى استقرت هذه الاصطلاحات في الأذهان, فلا تكاد تجد دراسة أو بحثا- يتعلق بهذا الموضوع- أو مقدمة تحقيق, إلا وهذا التقسيم حاضر, وهذه المصطلحات غالبة, حتى صارت من المسلمات.
وأصل هذا التقسيم والاصطلاح مسطور في "التاريخ" لابن خلدون, فهو- فيما أعلم- أول من اخترع هذه الاصطلاحات, ثم علّلها فقال ما نصّه: (ثم- أى بعد الشافعي- كتب فقهاء الحنفية فيه, وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها, وكتب المتكلمون أيضا كذلك, إلا أن كتابة الفقهاء أمسُّ بالفقه, وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشواهد, وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية. والمتكلمون يجرّدون صور تلك المسائل عن الفقه ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن, لأنه غالب فنونهم, ومقتضى طريقتهم, فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية, والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن).
وضرب مثلا على طريقة من سماهم ب(الفقهاء),بكتاب أبي زيد الدبوسي : "تقويم الأدلة", وعلى من سماهم ب(المتكلمين),بأربعة كتب: "البرهان" لإمام الحرمين, و "المستصفى" للغزالي, و"العهد" للقاضي عبد الجبار المعتزلي, و"المعتمد" لأبي الحسين البصري, وعدّ هذه الكتب من (قواعد هذا الفن وأركانه),كُنْ من هذا التمثيل على ذُكْرٍ, فنحن بحاجة إليه حين نتعرّض لنقد هذه الاصطلاحات.
أما الطريقة الثالثة, فضرب لها مثلا بكتاب "البديع" لابن الساعاتي.
وبقى هذا التقسيم والاصطلاح حبيس "التاريخ" قرونا طويلة, لم يحفل به أحد من أهل العلم, حتى انتصف القرن الثالث عشر الماضي, حين أحيا بعض علماء الأزهر هذا الاصطلاح بعد موات, فبالغوا في تقريره, وزادوا في تعليله, وهم:
-*الشيخ محمد الخضري (ت1345ه),فقسّم هذه المذاهب على منوال تقسيم ابن خلدون وزاد : (فأما المتكلمون فإنه كان من رأيهم البحث على طريقة أهل الكلام , وتقرير الأصول من غير التفات إلى موافقة فروع المذهب, أو مخالفتها إياها, فما أيدته العقول والحجج من القواعد أثبتوه, وما خالف ذلك نفوه...وأما الحنفية فطريقتهم كان يُراعى فيها تطبيق الفروع المذهبية على تلك القواعد, وقد يؤدي ذلك إلى تقرير قواعد غريبة الشكل-كذا!-, وإذا كانت القاعدة يترتب عليها مخالفة فرع شكلوها-كذا!- بالشكل الذي يتفق معه)ثم أورد الكتب الأربعة التي مثّل لها ابن خلدون لهذه الطريقة, وأقرّ الشيخ الخضري أنه لم يطّلع إلا على "المستصفى" للغزالي, أما كتاب "البرهان" لإمام الحرمين فرأى شذرات منقولة في "شرح الإسنوي على منهاج البيضاوي.
بل أشْعرنا كلامه أنه لم يطّلع حتى على كتابى : "المحصول" للرازي, و"الإحكام" للآمدي, فقال : (و"المحصول" موجود بأسره في دار الكتب المصرية, و"الإحكام" يوجد معظمه),وكأنه يشير إلى عدم طباعة هذه الكتب, وبقائها على أصلها المخطوط.
-*والآخر هو الشيخ : عبد الوهاب خلاف (ت1375),فنقل كلام شيخه السابق كالمقرر له ولم يزد.
-*وثالثهم: الشيخ محمد أبو زهرة (ت1394ه), وهو- فيما أرى- أعظمهم تأثيرا, وأوسعهم انتشارا, وأحسنهم بيانا فقال-بعد نقل التقسيم السابق- : ( أصول المتكلمين كان اتجاها نظريا خالصا, لأن عناية الباحثين فيه متجهة إلى تحقيق القواعد وتنقيحها من غير اعتبار مذهبي, بل يريدون انتاج أقوى القواعد سواء أكان يؤدي إلى خدمة مذهبهم أم لا), ومثّل لهذا بصنيع الآمدي الشافعي, حين رجّح حجية الإجماع السكوتي, مخالفا إمامه الشافعي, الذي يرى حجيته
ثم قال الشيخ أبو زهرة: ( ولقد دخل في دراسة هذا الاتجاه طائفة كبيرة من المتكلمين, إذْ قد وجدوا فيه ما يتفق مع دراستهم العقلية, ونظرهم إلى الحقائق مجردة, وبحثوا فيه كما يبحثون في علم الكلام لا يقلدون, ولهذا كانت تسمية هذه الطريقة بطريقة "المتكلمين" لها موضع الحق, وقد كثرت في هذا المنهاج الفروض النظرية, والمناحي الفلسفية والمنطقية, فتجدهم تكلموا في "التحسين والتقبيح العقلي", وفي "شكر المنعم", وهكذا يختلفون في مسائل نظرية لا يترتب عليها عمل, ومن ذلك اختلافهم في "جواز تكليف المعدوم").
ثم ذكر الطريقتين الأخريين على وفق ما ذكره السابقون, وزاد في تقرير مذهب "الفقهاء" بنقول سيأتي بيانها والرد عليها في موضعها إن شاء الله.
ولم يتعدّ هؤلاء الفضلاء في الاستشهاد على مذهب "المتكلمين" بأكثر مما تعداه ابن خلدون من كتبه الخمسة, ناهيك عمّا أقر به الشيخ الخضري من عدم اطّلاعه على أكثرها, وكأنه اعتمد اعتمادا كليا على ما سطّره ابن خلدون في "تاريخه", فكُنْ من هذا التنبيه أيضا على ذُكْر.
ولمّا قرّر هؤلاء المعاصرون مصطلحات ابن خلدون ونفخوا فيها, سُرْعان ما انتشرت بين طلاب العلم والدارسين, بل صار مقرّرا يُدرّس في الجامعات, فأول ما يُلقن الطالب من مبادئ علم الأصول, هذه التقسيمات والمصطلحات, على أنها مبادئ مقرّرة, وقضايا مسلّمة.
*ومن ههنا يبدأ الخلل والزلل, فكم عانيتُ أعواما كثيرة-وما زال يعاني الطلاب حتى مراحل متقدمة-في التوفيق بين هذه المصطلحات, وبين ما أجده مسطورا في كتب الأصول –قديمها وحديثها-,لما أجده من التناقض البيّن:
*فكتب أصول الفقه تقسّم المذاهب على حسب أربابها: الحنفية, المالكية, الشافعية, الحنابلة, الظاهرية
*وربما قسّمت المذاهب حسب الأعلام.
ومصطلح " المتكلمين" و"الفقهاء", دارج واسع الانتشار في هذه الكتب, لكني كنتُ أجد عنتا وحيرة في إنزال هذه المصطلحات والتقسيمات-التي حُشى رأسنا بها-,على ما هو مسطور في هذه الكتب, فكثيرا ما يُعطف على مصطلح "المتكلمين" في هذه الكتب: الشافعية أو المالكية, وأسأل نفسي: أليس الشافعية والمالكية هم المتكلمين؟ فما بالهم عطفوا المثيل بالمثيل!
وربما عطفوا على مصطلح" الفقهاء": الحنفية والشافعية, وأسأل نفسي نفس السؤال, وأزيد: لِمَ دخل الشافعية في هذا المصطلح؟
وأما مصطلح "الشافعية" الذي يُقصد به الجمهور, فما عرفته قط في كتب الأصول بهذا المعنى, بل يُراد به أصحاب ذاك المذهب لا غير.
وما زال الطلاب يجدون حيرة وترددا في التوفيق بين هذا التناقض, وأحسن أحوالهم في دفع هذا التناقض: أنْ يحملوا هذه المصطلحات على المعنى المقرّر المعاصر تارة, وعلى المعنى المذهبي تارة أخرى.
فإن سألتهم: وما هو الضابط على حمله على هذا المعنى أو ذاك؟ لم يجدوا جوابا.
وأثرٌ آخر بالغ السؤ كان نتاج هذه المصطلحات-عانيتُ منه قبلُ-,وهو ما استقرّ في قلوب الناشئة من ذمّ الكلام وأهله, ثم يجدون أن مذهب مالك والشافعي وأحمد في أصول الفقه يُوصم بأنه مذهب "المتكلمين", ونلقنهم بأن أصحاب هذا المذهب : (يقررون الأصول بما يتفق ودراستهم العقلية!, ويبحثون فيه كما يبحثون في علم الكلام) وأنّ هذا المنهج : (قد كثُرت فيه الفروض النظرية والمناحي الفلسفية والمنطقية),ونغرس فيه ثالثة الأثافي بالقول إن هذه الطريقة : (تُثبت ما أثبته العقل وتنفي ما نفاه).
أما مذهب "الفقهاء"-الحنفية- فهو مذهب: (أمسّ بالفقه, وأليق بالفروع, وبناء المسائل على النكت الفقهية), ولو رُمْتَ حنفيا متعصبا ليقدح في مذهب الجمهور ويُثني على مذهبه, لما وجد خير من هذا التقرير. لذلك كنا نتوجس من هذه الكتب وأصحابها, ونُسىء الظن في مؤلفيها, حتى أني أعرف بعضا من زملائي آثر التحويل من كلية الشريعة- قسم الفقه والأصول- إلى كلية الدعوة- قسم التفسير والحديث- هربا من ضيق "أصول المتكلمين" إلى رحاب التفسير والحديث.
وهذا بحث أقدمه بين يدى طالب العلم, أُزيف فيه هذه التقسيمات والاصطلاحات, وأبيّنُ بطلانها تعليلا ونقلا, وأنها من اختراعات ابن خلدون, وفيه تذكير لإخواني الباحثين والدارسين لإعادة النظر في هذه المصطلحات, والعودة إلى اصطلاحات أهل العلم, وأهل الأصول خاصة.
واللهَ تعالى أسأل أن يوفقنا للصواب, وأن يهدينا ويهدي بنا, وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه الأستاذ الدكتور:
خالد بن محمد العروسي
عضو هئية التدريس بجامعة أم القرى
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|