
09-01-2025, 03:14 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,110
الدولة :
|
|
رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله
الوجه الثالث: أنه قال: ﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾، فأضاف العندية إلى «الرب» الذي: معناه الخالق المالك المتصرف، المربي لعباده بجميع النعم، ذو العناية التامة بهم، ومربيهم بربوبيته الخاصة؛ ولهذا أضاف اسم «الرب» إلى ضميرهم تشريفًا وتكريمًا لهم.
﴿ جَنَّاتٌ ﴾ «جنات» جمع «جَنة» وأصل الجنة البستان، سمي بذلك لأنه يجن ويستر من بداخله بأشجاره وثماره الملتفة.
والمراد بها في الآية البساتين والمنازل التي أعدها الله للمتقين، مما لا تقاس به بساتين الدنيا ومنازلها؛ أي: لهم جنات كثيرة متعددة ومتنوعة، كما قال تعالى: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: 46]، ثم قال: ﴿ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴾ [الرحمن: 62].
وقال صلى الله عليه وسلم: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن»[24].
﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ صفة لـ«جنات» لأن الجمل بعد النكرات صفات؛ أي: تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار؛ كما قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾ [محمد: 15].
وهي تجري بغير أخدود يصرفها أهل الجنة حيث شاؤوا؛ قال ابن القيم[25]:
أنهارها في غير أخدود جرت 
سبحان ممسكها عن الفيضان
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: مقيمين فيها إقامة أبدية لا تحول ولا تزول، فلاهي تفنى، ولا هم يخرجون منها، وقال صلى الله عليه وسلم: «ينادي منادٍ إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدًا، فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43] [26].
﴿ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾: معطوف على ﴿ جَنَّاتٌ ﴾، أي: ﴿ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ ﴾، ولهم «أزواج مطهرة»، وعطفها على ﴿ جَنَّاتٌ﴾؛ لاختلاف أنواع التلذذ، وهو أشبه بعطف الخاص على العام؛ لأن التمتع بالأزواج من أعظم نعيم الجنة؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ﴾ [يس: 55، 56].
وهذه الأزواج المطهرة من أزواجهم في الدنيا، ومن الحور العين.
ومعنى ﴿ مطهرة ﴾؛ أي: مطهرة خلْقًا وخُلُقًا، أي: مطهرة من النجاسات الحسية، كالحيض والنفاس والبول والغائط والمني والمخاط وسائر الأدناس ونحو ذلك.
ومن الأرجاس المعنوية، كالغل والحقد والحسد والغيرة والفحش وسوء الخلق، ونحو ذلك.
﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ﴾: معطوف على ﴿ جَنَّاتٌ ﴾، فذكر أولًا الجنات وهي المنازل والمساكن وما فيها من أنواع النعيم الحسي، ومن ذلك الأزواج المطهرة، ثم أتبع ذلك بذكر ما هو أعظم من ذلك كله، وهو النعيم المعنوي الروحي وهو: «رضوان الله عليهم».
قرأ أبو بكر عن عاصم بضم الراء: «ورُضوان»، وقرأ الباقون بكسرها: ﴿ وَرِضْوَانٌ ﴾.
وأظهر في مقام الإضمار، فلم يقل: «ورضوان منه»، بل قال: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ﴾؛ لتعظيم ذلك الرضوان، كما قال تعالى: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [التوبة: 72]؛ أي: ورضوان من الله تعالى عليهم، فلا يسخط عليهم أبدًا، كما قال عز وجل في الحديث القدسي: «أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا»[27].
وأعظم من ذلك كله النظر إلى وجه الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، فالحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال صلى الله عليه وسلم[28].
وعن صهيب - رضي الله عنه - قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل»[29].
﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾؛ أي: والله مطلع على العباد، خبير بهم لا يخفى عليه منهم خافية.
والمراد بالعبودية هنا العبودية العامة: عبودية الخلق والملك والتدبير، فهو بصير بالعباد كلهم يعلم من آثر الشهوات ومتاع الحياة الدنيا، ومن اختار الآخرة وما فيها من ألوان النعيم، يوفق من شاء بفضله، ويخذل من شاء بعدله، ويجازي كلًا بعمله. وفي هذا وعد لمن اتقى الله ووعيد لمن خالف أمره وعصاه.
قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾.
هاتان الآيتان وصف ونعت للذين اتقوا في قوله: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾.
قوله: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ﴾ يا ربنا ﴿ إِنَّنَا آمَنَّا﴾؛ أي: صدقنا بألسنتنا وقلوبنا بك يا ربنا وبكتبك ورسلك، وبكل ما يجب الإيمان به، وانقدنا بجوارحنا لشرعك.
وقد أكَّدوا هذا بـ«إنَّ»، ودعوا الله عز وجل وتوسلوا إليه باسم الربوبية الذي مقتضاه العناية والرعاية، والذي كان به جل دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصالحين.
﴿ فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾: الفاء: عاطفة سببية، فتوسلوا إلى الله بإيمانهم، أي: بسبب إيمانهم أن يغفر ذنوبهم؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114].
والمعنى: استر ذنوبنا وتجاوز عنها، والذنوب هي السيئات والمعاصي كبيرها وصغيرها.
والمغفرة: ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن عقوبته، كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في المناجاة: «أن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: أتذكر ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقول الله تعالى: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك»[30].
ومنه سُمِّي المغفر وهو «البيضة» التي توضع على الرأس في القتال تستره وتقيه السهام، وحيث اجتمع سؤال المغفرة والتوبة، فتبدل سيئاتهم حسنات، كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
قوله: ﴿ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾؛ أي: اجعل لنا وقاية من عذاب النار، بتوفيقنا للعمل الصالح، والبعد عن العمل الذي يوجب عذاب النار، وبالعفو عما يقع منا من نقص أو تفريط، وإنما خصوا مسألتهم بالمغفرة لذنوبهم ووقايتهم عذاب النار؛ لأن من غفرت ذنوبه، وزحزح عن النار فقد فاز؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [آل عمران: 185]، وليس ثمة دار غير الجنة والنار، فمن وُقِيَ عذاب النار فمآله الجنة دار الأبرار.
الموْتُ بابٌ وكلُّ الناسِ داخِلُهُ 
يا ليْتَ شعرِيَ بعدَ البابِ ما الدَّارُ
الدَّارُ جنَّة ُ عدن إنْ عمِلتَ بِمَا 
يُرْضِي الإلَهَ، وإنْ فَرَّطت، فالنّارُ
هما محلان ما للناس غيرهما 
فاختر لنفسك ماذا أنت تختار[31]
قوله تعالى: ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾.
هذا- كما سبق- من نعت ووصف «الذين اتقوا».
قوله: ﴿ الصَّابِرِينَ﴾ الصابرين: جمع «صابر»؛ أي: الصابرين على فعل الطاعات وترك المحرمات وعلى أقدار الله.
والصبر لغة: الحبس، وهو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عما حرم الله.
وهو أنواع ثلاثة: أعظمها وأفضلها: الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عن معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة[32].
﴿ وَالصَّادِقِينَ﴾: معطوف هو وما بعده على ﴿ الصَّابِرِينَ﴾.
و«الصادقين» جمع «صادق» والصدقة موافقة الباطن للظاهر، ومطابقة الخبر للواقع، والصدق يكون أولًا مع الله تعالى، كما يكون مع النفس، ويكون مع الخلق؛ أي: والصادقين مع الله في الإيمان باطنًا وظاهرًا، والإخلاص لله - عز وجل - والمتابعة لشرعه، وفعل أمره واجتناب نهيه.
والصادقين مع أنفسهم بالاجتهاد بطلب سعادتها ونجاتها وخلاصها، وعدم تعريضها لعذاب الله تعالى، قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»[33].
قال الشاعر:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه 
فكن طالبًا في الناس أعلى المراتب[34]
وقال الآخر:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها 
هوانًا بها كانت على الناس أهونا[35]
والصادقين مع الخلق في تعاملهم معهم قولًا وفعلًا وأداءً لحقوقهم.
والصدق يكون بالأقوال، بأن يَصدق الإنسان فيما يقول وفيما يخبر به عن أمر وقع، ومنه الشهادة ونحو ذلك، فيكون قوله في هذا مطابقًا للواقع، فيخبر بالخبر حقًّا - كما رأى أو سمع، ويؤدي الشهادة حقًّا كما تحملها، وهكذا.
ويكون الصدق بالأقوال أيضًا: بما يتحمله المرء ويلتزم به في المستقبل من عمل أو وعد أو عهد ونحو ذلك، فيتبع القول بالعمل والوعد والعهد بالوفاء، وقد قال الله - عز وجل - معاتبًا المؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3].
وقال صلى الله عليه وسلم في ذم أهل النفاق: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»[36].
والصدق يكون بالأفعال بأن يكون ما يفعله المرء من أفعال ظاهرة موافقًا لما يقوله، ولما في باطنه، فلا يظهر الإيمان بأفعاله وهو يبطن الكفر، ولا يظهر المسكنة وهو غني، ولا يظهر المودة والمحبة وهو يضمر العداوة والبغضاء ونحو ذلك.
والصديقية مرتبة عظيمة تلي مرتبة النبوة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا»[37].
ومنه سميت مريم- عليها السلام- «صديقة»، قال تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المائدة: 75].
ومنه سمى أبو بكر - رضي الله عنه - «الصديق»؛ لأنه أول مَن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدَّقه من الرجال.
﴿ وَالْقَانِتِينَ﴾ جمع «قانت» والقنوت: دوام الطاعة والخشوع والخضوع لله - عز وجل - كما قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]؛ أي: مديم الطاعة خاشعًا خاضعًا، وقال تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238]، أي: خاشعين خاضعين لله، غير متكلمين في الصلاة بغير ما شرع فيها.
كما قال زيد بن أرقم رضي الله عنه: «كنا نتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238]، فأمرنا بالسكوت»[38].
﴿ وَالْمُنْفِقِينَ﴾: جمع «منفق» والمنفق: مَن بذل النفقة. والنفقة والإنفاق: بذل المال وإخراجه، وهو نوعان: محمود يمتدح صاحبه، وهو الإنفاق المشروع، وهو المراد هنا، أي: ﴿ وَالْمُنْفِقِينَ ﴾: النفقات المشروعة، الواجبة والمستحبة، بإخراج الزكاة والنفقة على الأهل والأولاد، والصدقات في سبيل الله، وأبواب البر، وطرق الخير، من غير إسراف ولا تقتير، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]، وقال تعالى: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾ [الطلاق: 7].
والنوع الثاني من الإنفاق مذموم يذم صاحبه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36].
﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ ﴾ «المستغفرين» جمع مستغفر، والاستغفار: طلب مغفرة الذنوب، أي: الذين يصلون في الأسحار ويطلبون من الله مغفرة ذنوبهم بسترها والتجاوز عنها.
﴿ بالأسحار ﴾: الباء هنا ظرفية بمعنى «في»، أي: في الأسحار، و«الأسحار» جمع «سحر» وهو آخر الليل، الذي هو وقت النزول الإلهي، وإجابة الدعاء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأعطيه، مَن يستغفرني فأغفر له؟»[39].
فامتدحهم بالاستغفار في هذا الوقت وهو وقت السحر، وفي هذا ثناء عليهم من وجهين، الأول: التماسهم لاستغفارهم وقت النزول الإلهي إلى السماء الدنيا، ووقت إجابة الدعاء.
والثاني: الإشارة إلى أنهم يتهجدون ويقومون الليل ويختمون بالاستغفار بعد الفراغ من قيام الليل، كما قال تعالى: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18].
وقد شرع الاستغفار بعد الانتهاء من العبادة؛ بعد الصلاة، وبعد الحج ونحو ذلك.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5096)، ومسلم في الذكر والدعاء (2740)، والترمذي في الأدب (2780)، وابن ماجه في الفتن (3998)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2742)- وأخرجه مختصرًا الترمذي في الفتن (2191)، وابن ماجه في الفتن (4000).
[3] أخرجه أبو داود في النكاح (2050)، والنسائي في النكاح (3227)، من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الرضاع (1467)، والنسائي في النكاح (3232)، وابن ماجه في النكاح (1855)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنها.
[5] أخرجه أبو داود في الزكاة (1664)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[6] أخرجه ابن ماجه في النكاح (1857)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
[7] أخرجه النسائي في عشرة النساء (3939)، من حديث أنس رضي الله عنه.
[8] أخرجه مسلم في الزكاة (1006)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في النكاح (5069).
[10] أخرجه ابن الشجري عن الفراء: أن أعرابيًّا بشِّر بابنة ولدت، فقيل له: نعم الولد هي. فقال: «والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرها سرقة»، «أمالي ابن الشجري» (2/405)، وانظر: «شرح التسهيل» لابن مالك (3/5)، «شرح الكافية الشافية» (2/1102).
[11] أخرجه الترمذي في الطهارة (113)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[12] أخرجه البخاري في المغازي (4015)، ومسلم في الزهد والرقائق (2961)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2462)، وابن ماجه في الفتن (3997)، من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه.
[13] أخرجه البخاري في الجهاد- الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (2850)، ومسلم في الإمارة- فضيلة الخيل وأن الخير معقود بنواصيها (1872)، والنسائي في الخيل (3575)، والترمذي في الجهاد (1694)، من حديث عروة بن الجعد رضي الله عنه.
[14] أخرجه البخاري في الجهاد (2860)، ومسلم في الزكاة- إثم مانع الزكاة (987)، والترمذي في فضائل الجهاد (1636)، وابن ماجه في الجهاد (2788).
[15] هذا جزء من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- السابق.
[16] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2942)، ومسلم في فضائل الصحابة (2406)، وأبو داود في العلم (3661)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[17] البيت ينسب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ انظر: «الإمتاع والمؤانسة» (ص347)، «العمدة في محاسن الشعر» (1/34).
[18] البيت لم ينسب لقائل؛ انظر: «أوضح المسالك» (1/275)، «المغني» للسيوطي (2/612).
[19] أخرجه الترمذي في الزهد (2320)، وابن ماجه في الزهد (4110)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. وقال الترمذي: «صحيح غريب».
[20] أخرجه الترمذي في الزهد (2377)، وابن ماجه في الزهد (4109) وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
[21] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2892)، والترمذي في فضائل الجهاد (1648)، من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.
[22] سيأتي تخريجه قريبًا.
[23] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3244)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824)، والترمذي في التفسير (3197)، وابن ماجه في الزهد (4328)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[24] أخرجه البخاري في التفسير- قوله: ﴿ومن دونهما جنتان﴾ (4878)، ومسلم في الإيمان (180)، من حديث عبدالله بن قيس رضي الله عنه.
[25] «النونية» (ص229).
[26] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها- دوام نعيم أهل الجنة (2837)، والترمذي في التفسير (3246)، من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.
[27] أخرجه البخاري في الرقاق- صفة الجنة والنار (6549)، ومسلم في الجنة صفة نعيمها وأهلها- إحلال الرضوان على أهل الجنة (2829)، والترمذي في صفة الجنة (2555)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[28] أخرجه مسلم في الإيمان (181)، والترمذي في صفة الجنة (2552)، وابن ماجه في المقدمة (187)، من حديث صهيب رضي الله عنه.
[29] أخرجه مسلم في الإيمان (181)، والترمذي في صفة الجنة (2552)، وابن ماجه في المقدمة (187).
[30] سبق تخريجه.
[31] الأبيات لأبي العتاهية؛ انظر: «ديوانه» (ص141).
[32] راجع ما سبق في الكلام على قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].
[33] أخرجه مسلم في الطهارة (223)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[34] البيت ينسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: «ديوانه» (ص15).
[35] البيت مجهول النسبة. انظر: «أدب الدنيا والدين» (ص320)، «الدر الفريد» (2/367).
[36] أخرجه البخاري في الإيمان (33)، ومسلم في الإيمان (59)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5021)، والترمذي في الإيمان (2631)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[37] أخرجه البخاري في الجمعة - ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة (1200)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة - تحريم الكلام في الصلاة (539)، وأبو داود في الصلاة (949)، والنسائي في السهو (1219)، والترمذي في الصلاة (405)، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
[38] سبق تخريجه.
[39] أخرجه البخاري في الجمعة (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين- الترغيب في الدعاء والذكر من آخر الليل والإجابة فيه (758)، وأبو داود في الصلاة (1315)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1366).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|