عرض مشاركة واحدة
  #441  
قديم 09-01-2025, 03:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,110
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

تفسير قوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ... ﴾



قوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 14، 17].

قوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾.

بيَّن عز وجل في الآيات السابقة أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا، ثم أتبع ذلك ببيان أن الأموال والأبناء وغير ذلك، مما ذُكِر في هذه الآية مما زين للناس حبه من الشهوات في إشارة إلى أن كل هذه الأشياء لا تنفع ولا تغني في الآخرة؛ ولهذا ختم الآية بقوله: ﴿ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾.

قوله: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ ﴿ زُيِّنَ﴾: مبني لما لم يسم فاعله، و«المزين» هو الله - عز وجل - أي: زين الله للناس كونًا. والتزيين: التحسين، أي: حُسِّن للناس ﴿ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ الآية؛ كما قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ ﴾ [الأنعام: 108]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [النمل: 4].

والتزيين: التحسين لما لم يكن حسنًا، أو لم يكن خالص الحسن فتغطى نقائصه بالمزيِّنات.

﴿ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾؛ أي: حب المشتهيات، أي: زين للناس حب المشتهيات، وهي ما تشتهيه النفوس وتتلذذ به حسًّا ومعنًى.

﴿ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ﴾ ﴿ مِنَ ﴾ لبيان الجنس، فقوله: ﴿ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ وما بعده بيان لـ﴿ الشَّهَوَاتِ ﴾، فهذه الأشياء السبعة هي أصول الشهوات البشرية والتي تجمع مشتهيات كثيرة، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار والأمصار.

﴿ مِنَ النِّسَاءِ﴾ بدأ بهنَّ لأنهنَّ من أعظم زينة الدنيا وشهواتها، والفتنة بهن أشد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء»[1].

وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء»[2].

لكن ينبغي أن يعلم أن الميل إلى النساء من حيث الأصل أمر جبلي لتكثير النسل وبقاء النوع الإنساني، بل هو أمر محمود مندوب إليه إذا كان لإعفاف النفس وتكثير الأمة.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «تزوَّجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة»[3]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة»[4].

وقال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء: المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرَّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته»[5].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرًا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرَّته، وإن أقسم عليها أبرَّته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله»[6]، وقال صلى الله عليه وسلم: «حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب»[7].

وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه: قالوا يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ»[8]، وقال ابن عباس لسعيد بن جبير: «تزوَّج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء»[9].

﴿ وَالْبَنِينَ﴾ هذا وما بعده معطوف على ﴿ النساء ﴾؛ أي: زُيِّن للناس حبُّ الشهوات من النساء، ومن البنين، ومن القناطير المقنطرة... إلخ.

و«البنين» جمع «ابن» يجمع على «بنين» وعلى «أبناء» وهم الذكور من الأولاد، وخص «البنين»؛ لأن بهم كمالَ الأب وفخره وكرمه وعزَّه وشرفه؛ كما قال تعالى: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا ﴾ [المدثر: 11 - 13]؛ أي: شهودًا وحضورًا عنده يقومون بخدمته ويتقوى بهم ويَشرُف ويفتخر.

وهذا بخلاف الإناث «البنات»، فإنهم كانوا يتشاءمون بهنَّ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 58، 59]، ويقول قائلهم: «والله ما هي بنعم الولد؛ نصرُها بكاء وبرُّها سرقة»[10].

وهذه بلا شك نظرة جاهلية محاها الإسلام وفنَّدها القرآن؛ قال تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾ [آل عمران: 195]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن النساء شقائق الرجال»[11]، وكما قيل:
الناس من جهة التمثيل أكفاء
أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهمو من أصلهم نسب
يفاخرون به فالطين والماء


وحب البنين تارة يكون بالتفاخر والتعاظم بهم، وربما التسلط على الآخرين، فهو أمر مذموم وغير محمود، وتارة يكون حبهم لأجل تكثير الأمة ونفع الإسلام والمسلمين، وتهيئة أجيال صالحين ينفعون أنفسهم ووالديهم وأمتهم، وهذا أمرٌ محمود ومندوب شرعًا، لكنه قليل.

﴿ والقناطير ﴾: جمع «قنطار» وهو: المال الكثير الجزيل، وقيل: ما يزن مائة رطل من الفضة، أو اثنا عشر ألف دينار من الذهب، أو مائة ألف دينار من الذهب، وقيل غير ذلك.

﴿ المقنطرة ﴾؛ أي: المضاعفة المتكاثرة، كقولهم: «آلاف مؤلفة».

﴿ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾ ﴿ مِنَ﴾ بيانية، فقوله: ﴿ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾ بيان للقناطير المقنطرة، وإنما كان الذهب والفضة محبوبين للناس؛ لأنهما ثمن جميع الأشياء، بهما تقدر وتقوَّم جميع الأموال، فالمالك لهما كالمالك لجميع الأشياء.

والمال فتنة، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 15].

وكلما ازداد وكثر زاد الافتتان به؛ لقوله: ﴿ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ ﴾، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم»[12].

وإذا كان جمع المال بقصد التكثر به والفخر والتعاظم على الناس، وكسبه من أي طريق كان حلالًا أو حرامًا، وصرفه في غير سبله الشرعية، فالفتنة به أشد والمصيبة به أعظم، وبالمقابل فإذا كان حب المال للتعفف به، وجعله مطية للآخرة، وإنفاقه في سبيل الله، في القرابات وصلة الأرحام، وفي وجوه البر والطاعة، ونفع المسلمين، مع اكتسابه من حلال، فهذا أمر محمود بل مأمور به شرعًا، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.

﴿ وَالْخَيْلِ الْمسَوَّمَةِ﴾: معطوف على ﴿ النساء﴾.

وسميت «خيلًا» من «الخيلاء»؛ لأنها تختال في مشيتها، وتترفع، كأنه يخيل إليها أن لا شيء يساميها. كما أن راكبها قد يبتلى بالخيلاء، لما لها من شأن في رياضة السباق ونحو ذلك.

وقد أقسم الله - عز وجل - بالخيل تعظيمًا لشأنها في الجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: ﴿ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ *وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ﴾ [العاديات: 1 - 9].

وقال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60].

وفي الحديث: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة»[13].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل لثلاثة؛ لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر»[14].

فمن اقتناها وحبسها للجهاد في سبيل الله، فهي له أجر وفعله محمود ممدوح، ومن اقتناها وحبسها للدفاع عن نفسه وحرماته، فهي له ستر وفعله مباح، ومن اقتناها وحبسها للفخر والخيلاء، فهي له وزر وفعله مذموم.

﴿ المسومة ﴾ أي: الراعية، التي تُسوَّم أي: تُسرَّح وترسل للرعي؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ [النحل: 10]؛ أي: فيه ترعون أنعامكم. ومنه سميت: «السائمة من بهيمة الأنعام». وفي الحديث: «فأطال طيلها في مرج أو روضة»[15].

ويحتمل أن المراد بـ﴿ المسومة ﴾ المعلَّمة المطهَّمة الحسان، بـ«شياتها، وغررها» في وجوهها وتحجيلها في أيديها وأرجلها.

ولا تزال للخيل مكانة ومحبة عند الناس مع التقدم المذهل في أنواع المراكب برًّا وبحرًا وجوًّا؛ مما يوحي بأنها ستعود في يوم ما لها مكانتها، يوم أن كانت عِزَّ أصحابها وفخرهم وحصونهم، وآلة قهرهم لأعدائهم في طلبهم وهربهم.

﴿ والأنعام ﴾ جمع «نَعَم» وهي: الإبل والبقر والغنم، زينت للناس لما فيها من المنافع، فمنها ركوبهم وطعامهم وشرابهم وأثاثهم وأمتعتهم، وغير ذلك من مصالحهم؛ قال تعالى: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 5- 7]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ [غافر: 79، 80].

وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴾ [يس: 71 - 73].

وأغلاها وأنفسها الإبل؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم»[16].

واقتناء الأنعام وتربيتها كغيرها من الأموال، قد يكون بقصد المفاخرة والتعاظم والمباهاة ونحو ذلك، وربما مع التقصير في حقها وعدم إخراج حق الله فيها فهو مذموم غاية الذم.

وقد يكون اقتناؤها للانتفاع بمنافعها المتعددة مع أداء حقها، وإخراج حق الله في رقابها، فهذا أمر محمود، وعمل مشكور لنفعه العام والخاص.

﴿ والحرث ﴾؛ أي: حرث الأرض وغرسها وزرعها، واستخراج الأقوات منها للناس والدواب، وهي كغيرها من الأموال إن قُصد بها التكثر والتفاخر، وربما مُنع حق الله فيها، لا يمدح صاحبها، وإن قصد بذلك التعفف ونفع المسلمين، والبذل منها في سبيل الله، فذلك أمر محمود بل مطلوب شرعًا.

فهذه الأشياء السبعة مما زُين للناس حبُّها، وكذا غيرها لحكم بالغة عظيمة، منها: بناء هذا الكون وعمارته، ومنها ابتلاء وامتحان العباد، ليتميز من ينشغل منهم بذلك عما خلق له من عبادة الله تعالى وطاعته، ممن يتوازن، فيعمل لما خُلق له ولا ينسَ نصيبه من الدنيا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]، ولهذا قال:
﴿ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ الإشارة إلى ما ذكر في الآية، أي: ذلك المذكور مما زين للناس من حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وأشار إليها بإشارة البعيد تحقيرًا لها بالنسبة لنعيم الآخرة.

و﴿ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ ما يتمتع ويتبلغ به في هذه الحياة، ثم يزول؛ أي: إن هذه الأشياء مما يتمتع به في هذه الحياة الدنيا ثم تزول أو يزول الإنسان عنها، فلا هي تبقى للإنسان، ولا هو يبقى لها.
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته
يبقى الإله ويفنى المال والولد[17]




وقال الآخر:
تعز فلا شيء على الأرض باقيًا
ولا وزر مما قضى الله واقيا[18]




و﴿ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ هي هذه الدار التي نحن فيها، وسميت دنيا؛ لأنها قبل الآخرة من حيث الزمن، فهي الدار الأولى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾ [الضحى: 4]، وقال تعالى: ﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ﴾ [النازعات: 25].

وسُمِّيَت «دنيا» أيضًا؛ لأنها دنيئة حقيرة، لا قيمة لها بالنسبة للآخرة، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ [الرعد: 26]، وقال تعالى: ﴿ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء»[19]، وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء؟ فقال: «مالي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها»[20]، وقال صلى الله عليه وسلم: «وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها»[21].

﴿ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ ختم الله - عز وجل - الآية بهذا الختام لبيان أنه لا ينبغي أن يؤثر الإنسان ما زين للناس من متاع الحياة الدنيا على ما أعدّه الله - عز وجل - لأوليائه في الآخرة من المآل الحسن والثواب العظيم.

و﴿ حُسْنُ الْمَآبِ﴾؛ أي: حسن المرجع والجنة والثواب، كما قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 26]، فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم - كما فسر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم[22].

ويكفي في حسن هذا المآب أنه عند الله عز وجل، فهو منه وبجواره، لأوليائه المتقين وحزبه المفلحين، الذين عملوا لهذا المآل، ولم ينشغلوا بما زين من متاع الحياة الدنيا، وهو ما فسره بقوله تعالى:
﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾.

أخبَر عز وجل في الآية السابقة أن عنده سبحانه حسن المآل، ثم أتبع ذلك بشيء من التفصيل والبيان لهذا المآل الحسن.

قوله: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ ﴾ الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ أَؤُنَبِّئُكُمْ ﴾؛ أي: أخبركم، و«النبأ» هو الخبر الهام؛ كما قال تعالى: ﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴾ [النبأ: 1، 2]، ولهذا صدر هنا بهمزة الاستفهام الدال على الاهتمام والتنبيه والتشويق، أي: أأخبركم.

﴿ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ ﴾ الإشارة للمشار إليه في الآية السابقة، وهو ما زين للناس من متاع الحياة الدنيا الزائل، والخطاب لجميع الناس.

والمعنى: قل يا محمد: أأخبركم ﴿ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ ﴾ المذكور خيرية مطلقة، وأشار إليه بإشارة البعيد تحقيرًا له.

﴿ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾: خبر مقدم، و﴿ جَنَّاتٌ﴾: مبتدأ مؤخر، وقدم الخبر على المبتدأ لإفادة الحصر؛ أي: للذين اتقوا خاصة جنات.

أي: للذين اتقوا الله - عز وجل - بفعل أوامره وترك نواهيه، فجعلوا بهذا العمل بينهم وبين عذاب الله وقاية.

﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ في هذا تعظيم لما أعد لهم من ثلاثة أوجه: الأول: أنه من ربهم عز وجل العظيم أكرم الأكرمين، والعطاء يكون على قدر المعطي؛ ولهذا لا أحد يقدر قدر ما أعد عنده سبحانه لهم، كما قال تعالى: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17].

وفي الحديث القدسي يقول عز وجل: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»[23].
الوجه الثاني: أنه عند ربهم، بالقرب منه، فنعم القرب، ونعم الجوار، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54، 55].
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.64 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.64%)]