عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 06-01-2025, 09:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,581
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (634)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 439 إلى صـ 452



وأجيب عن هذا بأجوبة كثيرة :

[ ص: 439 ] منها أن في الكلام حذفا أي : إن نفعت الذكرى ، وإن لم تنفع ، كقوله : سرابيل تقيكم الحر [ 16 \ 81 ] ، أي والبرد ، وهو قول الفراء والنحاس والجرجاني وغيرهم .

ومنها أنها بمعنى : إذ ، وإتيان : " إن " بمعنى : إذ مذهب الكوفيين خلافا للبصريين .

وجعل منه الكوفيون قوله تعالى : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين [ 5 \ 112 ] .

وقوله تعالى : وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [ 3 \ 139 ] ، وقوله تعالى : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين [ 5 \ 23 ] ، وقوله : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين [ 48 \ 27 ] .

وقوله صلى الله عليه وسلم : وإنا إن شاء الله بكم لاحقون .

وقول الفرزدق :



أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا جهارا ولم تغضب لقتل ابن حازم
وأجاب البصريون عن آيات إن كنتم مؤمنين ، بأن فيها معنى الشرط ، جيء به للتهييج ، وعن آية إن شاء الله ، والحديث بأنهما تعليم للعباد كيف يتكلمون ، إذا أخبروا عن المستقبل ، وعن البيت بجوابين :

أحدهما : أنه من إقامة السبب مقام المسبب ، والأصل : أتغضب إن افتخر مفتخر بحز أذني قتيبة ، إذ الافتخار بذلك يكون سببا للغضب ، ومسببا عن الحز .

الثاني : تغضب إن تبين في المستقبل ، أن أذني قتيبة حزتا .

ومنها أن معنى إن نفعت الذكرى الإرشاد إلى التذكير بالأهم ، أي ذكر بالمهم الذي فيه النفع دون ما لا نفع فيه ، فيكون المعنى ذكر الكفار مثلا بالأصول التي هي التوحيد ، لا بالفروع ، لأنها لا تنفع دون الأصول ، وذكر المؤمن التارك لفرض مثلا بذلك الفرض المتروك لا بالعقائد ونحو ذلك لأنه أنفع .

ومنها أن " إن " ، بمعنى : قد وهو قول قطرب .

[ ص: 440 ] ومنها أنها صيغة شرط أريد بها ذم الكفار واستبعاد تذكرهم ، كما قال الشاعر :


لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
ومنها غير ذلك .

والذي يظهر لمقيد هذه الحروف عفا الله عنه ، هو بقاء الآية الكريمة على ظاهرها ، وأنه صلى الله عليه وسلم بعد أن يكرر لذكري تكريرا تقوم به حجة الله على خلقه مأمور بالتذكير عند ظن الفائدة ، أما إذا علم الفائدة فلا يؤمر بشيء هو عالم أنه لا فائدة فيه ، لأن العاقل لا يسعى إلى ما لا فائدة فيه .

وقد قال الشاعر :


لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن لشيء بعيد نفعه الدهر ساعيا
وهذا ظاهر ولكن الخفاء في تحقيق المناط ، وإيضاحه أن يقال : بأي وجه يتيقن عدم إفادة الذكرى ، حتى يباح تركها .

وبيان ذلك أنه تارة يعلمه بإعلام الله به ، كما وقع في أبي لهب ، حيث قال تعالى فيه : سيصلى نارا ذات لهب وامرأته الآية [ 111 \ 3 - 4 ] .

فأبو لهب هذا وامرأته لا تنفع فيهما الذكرى ، لأن القرءان نزل بأنهما من أهل النار بعد تكرار التذكير لهما تكرارا تقوم عليهما به الحجة ، فلا يلزم النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك أن يذكرهما بشيء ، لقوله تعالى في هذه الآية : فذكر إن نفعت الذكرى .

وتارة يعلم ذلك بقرينة الحال ، بحيث يبلغ على أكمل وجه ، ويأتي بالمعجزات الواضحة ، فيعلم أن بعض الأشخاص عالم بصحة نبوته ، وأنه مصر على الكفر عنادا ولجاجا ، فمثل هذا لا يجب تكرير الذكرى له دائما ، بعد أن تكرر عليه تكريرا تلزمه به الحجة .

وحاصل إيضاح هذا الجواب أن الذكرى تشتمل على ثلاث حكم :

الأولى : خروج فاعلها من عهدة الأمر بها .

الثانية : رجاء النفع لمن يوعظ بها ، وبين الله تعالى هاتين الحكمتين بقوله تعالى : [ ص: 441 ] قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون [ 7 \ 164 ] ، وبين الأولى منهما بقوله تعالى : فتول عنهم فما أنت بملوم [ 51 \ 54 ] ، وقوله تعالى : إن عليك إلا البلاغ [ 42 \ 48 ] ، ونحوها من الآيات . وبين الثانية بقوله : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 ] .

الثالثة : إقامة الحجة على الخلق ، وبينها تعالى بقوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] وبقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا الآية [ 20 \ 134 ] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كرر الذكرى حصلت الحكمة الأولى والثالثة ، فإن كان في الثانية طمع استمر على التذكير وإلا لم يكلف بالدوام ، والعلم عند الله تعالى .

وإنما اخترنا بقاء الآية على ظاهرها مع أن أكثر المفسرين على صرفها عن ظاهرها المتبادر منها ، وأن معناها : فذكر مطلقا إن نفعت الذكرى ، وإن لم تنفع ، لأننا نرى أنه لا يجوز صرف كتاب الله عن ظواهره المتبادرة منه ؟ إلا لدليل يجب الرجوع له ، وإلى بقاء هذه الآية على ظاهرها .

جنح ابن كثير حيث قال في تفسيرها : أي ذكر حيث تنفع التذكرة ، ومن هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم ، فلا يضعه في غير أهله ، كما قال علي رضي الله عنه : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم ، إلا كان فتنة لبعضهم ، وقال : حدث الله الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله .

تنبيه

هذا الإشكال الذي في هذه الآية ، إنما هو على قول من يقول باعتبار دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة ، وأما على قول من لا يعتبر مفهوم المخالفة شرطا كان أو غيره ، كأبي حنيفة ؟ فلا إشكال في الآية ، وكذلك لا إشكال فيها على قول من لا يعتبر مفهوم الشرط كالباقلاني ، فتكون الآية نصت على الأمر بالتذكير عند مظنة النفع ، وسكتت عن حكمه عند عدم مظنة النفع فيطلب من دليل آخر ، فلا تعارض الآية الآيات الدالة على التذكير مطلقا .
[ ص: 442 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الغاشية

قوله تعالى : ليس لهم طعام إلا من ضريع .

تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : ولا طعام إلا من غسلين [ 69 \ 36 ] ، وقوله تعالى : فيها عين جارية الآية [ 88 \ 12 ] .

ظاهر هذه الآية أن الجنة فيها عين واحدة ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله : إن المتقين في جنات وعيون [ 15 \ 45 ] .

والجواب هو ما تقدم في الجمع بين قوله : إن المتقين في جنات ونهر [ 54 \ 54 ] ، مع قوله : فيها أنهار من ماء غير آسن الآية [ 47 \ 15 ] .

فالمراد بالعين العيون ، كما تقدم نظيره في سورة " البقرة " وغيرها .
[ ص: 443 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الفجر

قوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا .

يوهم أنه ملك واحد ، وقوله " صفا صفا " : يقتضي أنه غير ملك واحد بل صفوف من جماعات الملائكة .

والجواب أن قوله تعالى : " والملك " ، معناه : والملائكة ، ونظيره قوله تعالى : والملك على أرجائها [ 69 \ 17 ] ، وتقدم بيانه بشواهده العربية في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن الآية [ 2 \ 29 ] .سورة البلد

قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد .

هذه الآية الكريمة يتبادر من ظاهرها أنه تعالى أخبر بأنه لا يقسم بهذا البلد الذي هو مكة المكرمة ، مع أنه تعالى أقسم به في قوله : وهذا البلد الأمين [ 95 \ 3 ] .

الأول : وعليه الجمهور ، أن " لا " هنا صلة على عادة العرب ، فإنها ربما لفظت " لا " من غير قصد معناها الأصلي ، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده كقوله : " ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني [ 20 \ 92 - 93 ] ، يعني أن تتبعني ، وقوله : ما منعك ألا تسجد [ 7 \ 12 ] ، أي أن تسجد على أحد القولين .

ويدل له قوله في سورة " ص " : ما منعك أن تسجد لما خلقت الآية [ 38 ] ، وقوله : لئلا يعلم أهل الكتاب [ 57 \ 29 ] ، أي ليعلم أهل الكتاب ، وقوله : فلا وربك لا يؤمنون [ 4 \ 65 ] ، أي فوربك ، وقوله : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة [ ص: 444 ] [ 21 ] ، أي والسيئة وقوله : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [ 21 \ 95 ] على أحد القولين .

وقوله : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] ، على أحد القولين ، وقوله : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا [ 6 \ 151 ] ، على أحد الأقوال الماضية .

وكقول أبي النجم :


فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا
يعني أن تسخر ، وكقول الشاعر :


وتلحينني في اللهو أن لا أحبه وللهو داع دائب غير غافل
يعني أن أحبه و : لا ، زائدة .

وقول الآخر :


أبى جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
يعني أبى جوده البخل ، و " لا " ، زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير ، ولا سيما على رواية " البخل " بالجر لأن : لا ، عليها مضاف بمعنى لفظة لا ، فليست زائدة على رواية الجر .

وقول امرئ القيس :


فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أنى أفر
يعني وأبيك .

وأنشد الفراء لزيادة " لا " في الكلام الذي فيه معنى الجحد قول الشاعر :


ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر
يعني وعمر ، و : لا ، صلة .

وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج :

[ ص: 445 ]
في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتى رأى الصبح جشر
فالحور الهلكة يعني في بئر هلكة ، و " لا " صلة ، قاله أبو عبيدة وغيره .

وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي :


أفعنك لا برق كأن وميضه غاب تسنمه ضرام مثقب
ويروى أفمنك ، وتشيمه بدل أفعنك ، وتسنمه .

يعني أعنك برق و " لا " ، صلة .

ومن شواهد زيادتها قول الشاعر :


تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يقطع
يعني كاد يتقطع .

وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ :


أعائش ما لقومك لا أراهم يضيعون الهجان مع المضيع
فغلط منه لأن : لا ، في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله مع أن أهلها يحفظون مالهم ، أي لا أرى قومك يضيعون مالهم ، وأنت تعاتبينني في حفظ مالي .

وما ذكره الفراء من أن لفظة : لا ، لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، فهو أغلبني لا يصح على الإطلاق ، بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها ، كهذه الآية على القول بأن " لا " فيها صلة ، وكبيت ساعدة الهذلي .

وما ذكره الزمخشري من زيادة " لا " في أول الكلام دون غيره فلا دليل عليه .

الوجه الثاني : أن " لا نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : " أقسم " إثبات مستأنف ، وهذا القول وإن قال به كثير من العلماء فليس بوجيه عندي لقوله تعالى في سورة " القيامة " : ولا أقسم بالنفس اللوامة [ 75 ] ، لأن قوله تعالى : [ ص: 446 ] ولا أقسم بالنفس اللوامة يدلا على أنه لم يرد الإثبات المؤتنف بعد النفي بقوله : " أقسم " ، والله تعالى أعلم .

الوجه الثالث : أنها حرف نفي أيضا ، ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به ، فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية ، والمراد أنه لا يعظم بالقسم بل هو نفسه عظيم أقسم به أولا .

وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني ، ولا يخلو عندي من بعد .

الوجه الرابع : أن اللام لام الابتداء أشبعت فتحتها ، والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف والكسرة بياء والضمة بواو .

فمثاله في الفتحة قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي :


وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترا قبلي أسيرا يمانيا
فالأصل كأن لم تر ، ولكن الفتحة أشبعت .

وقول الراجز :


إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملقي
فالأصل ترضها ، لأن الفعل مجزوم بلا الناهية .

وقول عنترة في معلقته :


ينباع من ذفرى غضوب جسرة زيافة مثل الفنـيق المكدم
فالأصل ينبع يعني أن العرق ينبع من عظم الذفرى من ناقته ، فأشبع الفتحة فصار ينباع على الصحيح .

وقول الراجز :


قلت وقد خرت على الكلكال يا ناقتي ما جلت من مجالي
فقوله : " الكلكال " ، يعني الكلكل ، وليس إشباع الفتحة في هذه الشواهد من ضرورة [ ص: 447 ] الشعر ، لتصريح علماء العربية بأن إشباع الحركة بحرف يناسبها أسلوب من أساليب اللغة العربية ، ولأنه مسموع في النثر كقولهم : كلكال ، وخاتام ، وداناق ، يعنون : كلكلا وخاتما ودانقا .

ومثله في إشباع الضمة بالواو ، وقولهم : برقوع ومعلوق ، يعنون : برقعا ومعلقا .

ومثال إشباع الكسرة بالياء قول قيس بن زهير :


ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد
فالأصل يأتك لمكان الجازم ، وأنشد له الفراء :


لا عهد لي بنيضال أصبحت كالشن البال
ومنه قول امرئ القيس :


كأني بفتخاء الجناحين لقوة على عجل مني أطأطئ شيمالي
ويروى : " صيود من العقبان طأطأن شيمالي " .

ويروى " دفوف من العقبان " . إلخ .

ويروى " شملال " بدل شيمال " ، وعليه فلا شاهد في البيت ، إلا أن رواية الياء مشهورة . ومثال إشباع الضمة بالواو قول الشاعر :


هجوت زبان ثم جئت معتذرا من هجو زبان لم تهج ولم تدع
وقول الآخر :


الله أعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى إخواننا صور
وإنني حيثما يثني الهوى بصري من حيثما سلكوا أدنو فأنظور
يعني فأنظر ، وقول الراجز :


لو أن عمرا هم أن يرقودا فانهض فشد المئزر المعقودا
يعني " يرقد " ، ويدل لهذا الوجه قراءة قنبل : " لأقسم بهذا البلد " بلام الابتداء ، وهو مروي عن البزي والحسن ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 448 ] قوله تعالى : أو مسكينا ذا متربة .

يدل ظاهره على أن المسكين لاصق بالتراب ليس عنده شيء ، فهو أشد فقرا من مطلق الفقير ، كما ذهب إليهمالك وكثير من العلماء .

وقوله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون الآية [ 18 \ 79 ] ، يدل على خلاف ذلك لأنه سماهم مساكين مع أن لهم سفينة عاملة للإيجار .

والجواب عن هذا محتاج إليه عن كلا القولين .

أما على قول من قال إن المسكين من عنده ما لا يكفيه كالشافعي ، فالذي يظهر لي أن الجواب أنه يقول : المسكين عند الإطلاق ينصرف إلى من عنده شيء لا يكفيه ، فإذا قيد بما يقتضي أنه لا شيء عنده ، فذلك يعلم من القيد الزائد لا من مطلق لفظ المسكين .

وعليه ، فالله في هذه الآية قيد المسكين بكونه : ذا متربة ، فلو لم يقيده لانصرف إلى من عنده ما لا يكفيه ، فمدلول اللفظ حالة الإطلاق لا يعارض بمدلوله حالة التقييد .

وأما على قول من قال : بأن المسكين أحوج من مطلق الفقير ، وأنه لا شيء عنده فيجاب عن آية الكهف بأجوبة : منها أن المراد بقوله : " مساكين " ؛ أنهم قوم ضعاف لا يقدرون على مدافعة الظلمة ، ويزعمون أنهم عشرة ، خمسة منهم زمنى .

ومنها أن السفينة لم تكن ملكا لهم ، بل كانوا أجراء فيها أو أنها عارية واللام للاختصاص .

ومنها أن اسم المساكين أطلق عليهم ترحما لضعفهم .

والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن هذه الأجوبة لا دليل على شيء منها ، فليس فيها حجة يجب الرجوع إليها ، وما احتج به بعضهم - من قراءة علي رضي الله عنه " لمساكين " ، بتشديد السين جمع تصحيح لمساك بمعنى الملاح أو دابة المسوك التي هي الجلود ، فلا يخفى سقوطه لضعف هذه القراءة وشذوذها . والذي يتبادر إلى ذهن المنصف أن مجموع الآيتين دل على أن لفظ المسكين مشكك لتفاوت أفراده فيصدق بمن عنده ما لا يكفيه بدليل آية " الكهف " ، ومن هو لاصق بالتراب لا شيء عنده بدليل آية " البلد " ، [ ص: 449 ] كاشتراك الشمس والسراج في النور مع تفاوتهما ، واشتراك الثلج والعاج في البياض مع تفاوتهما .

والمشكك إذا أطلق ولم يقيد بوصف الأشدية انصرف إلى مطلقه ، هذا ما ظهر ، والعلم عند الله تعالى .

والفقير أيضا قد تطلقه العرب على من عنده بعض المال ، كقول مالك ، ومن شواهده قول راعي نمير :


أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد
فسماه فقيرا مع أن عنده حلوبة قدر عياله .[ ص: 450 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الشمس

قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها .

يدل على أن الله هو الذي يجعل الفجور والتقوى في القلب ، وقد جاءت آيات تدل على أن فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته كقوله تعالى : فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .

وقوله تعالى : اشتروا الضلالة بالهدى [ 2 \ 16 ] ، ونحو ذلك ، وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية .

أما القدرية فضلوا بالتفريط حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا من غير تأثير لقدرة الله فيه .

وأما الجبرية فضلوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به .

وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا ، فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية ، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الاتعاشية ليست كالحركة الاختيارية ، وأثبتوا أن الله خالق كل شيء فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته ، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى .

فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى ؛ مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب .

ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا فقال الجبري : حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل ، وإني لا بد أن تنفذ في مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي ، فأنا مجبور ، فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه ؟ فإن السني يقول له : كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك ، جعل لك سمعا تسمع به ، وبصرا تبصر به ، وعقلا تعقل به ، [ ص: 451 ] وأرسل لك رسولا ، وجعل لك اختيارا وقدرة ، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق وهو ملكه المحض ، إن أعطاه ففضل ، وإن منعه فعدل .

كما أشار له تعالى بقوله : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] ، يعني أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق ، فمن أعطيه ففضل ، ومن منعه فعدل .

ولما تناظر أبو إسحاق الاسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي ، قال عبد الجبار : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة الله ، لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم .

فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل ، ثم قال : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء .

فقال عبد الجبار : أتراه يخلقه ويعاقبني عليه ؟

فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبرا عليه ؟ أأنت الرب وهو العبد ؟

فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى علي بالردى أتراه أحسن إلي أم أساء ؟

فقال أبو إسحاق : إن كان الذي منعك منه ملكا لك فقد أساء ، وإن كان له فإن أعطاك ففضل ، وإن منعك فعدل . فبهت عبد الجبار ، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب .

وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال له : ادع الله لي أن يرد علي حمارة سرقت مني ، فقال : اللهم إن حمارته سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه ، فقال له الأعرابي : يا هذا كف عني دعائك الخبيث ، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد .

وقد رفع الله إشكال هذه المسألة بقوله تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 ] ، فأثبت للعبد مشيئة ، وصرح بأنه لا مشيئة للعبد إلا بمشيئة الله جل وعلا ، فكل شيء صادر عن قدرته ومشيئته جل وعلا .

وقوله : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين .

[ ص: 452 ] وأما على قول من فسر الآية الكريمة بأن معنى : فألهمها فجورها وتقواها أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر ، فلا إشكال في الآية : وبهذا المعنى فسرها جماعة من العلماء ، والعلم عند الله تعالى .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.66 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.52%)]