
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (627)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 341 إلى صـ 354
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنبياء
قوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون .
هذه الآية تدل على أن جميع المعبودات مع عابديها في النار .
وقد أشارت آيات أخر إلى أن بعض المعبودين كعيسى والملائكة ليسوا من أهل النار ، كقوله تعالى : ولما ضرب ابن مريم مثلا [ 43 \ 57 ] وقوله تعالى : ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون [ 43 \ 40 ] وقوله : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب الآية [ 17 : 57 ] .
والجواب من وجهين :
الأول : أن هذه الآية لم تتناول الملائكة ولا عيسى لتعبيره بـ : " ما " الدالة على غير العاقل .
وقد أشار تعالى إلى هذا الجواب بقوله : ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون [ 43 \ 58 ] لأنهم لو أنصفوا لما ادعوا دخول العقلاء في لفظ لا يتناولهم لغة .
الثاني : أن الملائكة وعيسى نص الله على إخراجهم من هذا دفعا للتوهم ولهذه الحجة الباطلة بقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون الآية [ 21 \ 101 ] ، ، وقوله تعالى : قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [ 21 \ 108 ] .
عبر في هذه الآية الكريمة بلفظ : " إنما " وهي تدل على الحصر عند الجمهور ، [ ص: 343 ] وعليه فهي تدل على حصر الوحي في توحيد الألوهية .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه أوصى إليه غير ذلك كقوله : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن الآية [ 72 ] ، وقوله : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك [ 11 \ 49 ] ، وقوله : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك الآية [ 12 \ 3 ] .
والجواب أن حصر الوحي في توحيد الألوهية حصر له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع ، لأن شرائع كل الأنبياء داخلة في ضمن لا إله إلا الله ، لأن معناها خلع كل الأنداد سوى الله في جميع أنواع العبادات ، وإفراد الله بجميع أنواع العبادات ، فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية .
[ ص: 344 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحج
قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا .
هذه الآية الكريمة تدل على أن قتال الكفار مأذون فيه لا واجب ، وقد جاءت آيات تدل على وجوبه كقوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الآية [ 9 \ 5 ] .
وقوله : وقاتلوا المشركين كافة الآية [ 9 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب ظاهر ، وهو أنه أذن فيه أولا من غير إيجاب ، ثم أوجب بعد ذلك كما تقدم في سورة " البقرة " ، ويدل لهذا ما قاله ابن عباس وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره من أن آية : أذن للذين يقاتلون هي أول آية نزلت في الجهاد ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
ظاهر هذه الآية أن الأبصار لا تعمى ، وقد جاءت آيات أخر تدل على عمى الأبصار كقوله : أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وكقوله : ليس على الأعمى حرج [ 24 \ 61 ] .
والجواب أن التمييز بين الحق والباطل ، وبين الضار والنافع ، وبين القبيح والحسن ، لما كان كله بالبصائر لا بالأبصار ، صار العمى الحقيقي هو عمى البصائر لا عمى الأبصار ، ألا ترى أن صحة العينين لا تفيد مع عدم العقل كما هو ضروري ، وقوله : فأصمهم وأعمى أبصارهم يعني بصائرهم أو أعمى أبصارهم عن الحق وإن رأت غيره .
[ ص: 345 ] قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون .
هذه الآية الكريمة تدل على أن مقدار اليوم عند الله ألف سنة ، وكذلك قوله تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ 32 \ 5 ] .
وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك ، هي قوله تعالى في سورة " سأل سائل " : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة الآية [ 70 \ 4 ] .
اعلم أولا أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلا من ابن عباس وسعيد بن المسيب سئل عن هذه الآيات فلم يدر ما يقول فيها ، ويقول : لا أدري .
وللجمع بينهما وجهان :
الأول : هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس ، من أن يوم الألف في سورة " الحج " هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، ويوم الألف في سورة " السجدة " ، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ، ويوم الخمسين ألفا هو يوم القيامة .
الوجه الثاني : أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر ، ويدل لهذا قوله تعالى : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] ، ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن كل رسول وكل نبي يلقي الشيطان في أمنيته ، أي تلاوته إذا تلا .
ومنه قول الشاعر في عثمان رضي الله عنه :
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
[ ص: 346 ] وقول الآخر :
تمنى كتاب الله آخر ليلة تمني داود الزبور على رسل
ومعنى تمنى في البيتين قرأ وتلا ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال : إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ، إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه .
وقال بعض العلماء : إذا تمنى أحب شيئا وأراده ، فكل نبي يتمنى إيمان أمته ، والشيطان يلقي عليهم الوساوس والشبه ، ليصدهم عن سبيل الله ، وعلى أن تمنى بمعنى قرأ وتلا ، كما عليه الجمهور ، فمعنى إلقاء الشيطان في تلاوته ، إلقاؤه الشبه والوساوس فيما يتلوه النبي ليصد الناس عن الإيمان به ، أو إلقاؤه في المتلو ما ليس منه ليظن الكفار أنه منه .
وهذه الآية لا تعارض بينها وبين الآية المصرحة بأن الشيطان لا سلطان له على عباد الله المؤمنين المتوكلين ، ومعلوم أن خيارهم الأنبياء كقوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] ، وقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، وقوله : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 38 \ 82 - 83 ] . وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 22 ] .
ووجه كون الآيات لا تعارض بينها ، أن سلطان الشيطان المنفي عن المؤمنين المتوكلين في معناه وجهان للعلماء :
الأول : أن معنى السلطان الحجة الواضحة ، وعليه فلا إشكال ، إذ لا حجة مع الشيطان البتة ، كما اعترف به فيما ذكر الله عنه في قوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي .
الثاني : أن معناه أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه ، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء وغيرهما ، فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة منه ، فإلقاء الشيطان في أمنية النبي سواء فسرناها بالقراءة أو التمني لإيمان أمته ، لا يتضمن [ ص: 347 ] سلطانا للشيطان على النبي ، بل من جنس الوسوسة وإلقاء الشبه لصد الناس عن الحق كقوله : وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل الآية [ 27 \ 24 ] .
فإن قيل : ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة " النجم ، بمكة ، فلما بلغ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ 53 \ 19 - 20 ] ، ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترجى ، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون ، وقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى رجع المهاجرون من الحبشة ، ظنا منهم أن قومهم أسلموا ، فوجدوهم على كفرهم .
وعلى هذا الذي ذكره كثير من المفسرين ، فسلطان الشيطان بلغ إلى حد أدخل به في القرآن ، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الكفر البواح ، حسبما يقتضيه ظاهر القصة المزعومة .
فالجواب أن قصة الغرانيق مع استحالتها شرعا لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج ، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من العلماء ، كما بيناه بيانا شافيا في رحلتنا .
والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ومعلوم أن الكلبي متروك .
وقد بين البزار أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله .
وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره لثبوت هذه القصة ، بأن طرقها كلها ، إما منقطعة أو ضعيفة ، إلا طريق سعيد بن جبير .
وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق سعيد بن جبير لم يروها بها أحد متصلة إلا أمية بن خالد ، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها ، فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب ، ثم ساق حديث القصة المذكورة ، وقال : البزار لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور .
وقال البزار : وإنما يروى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، والكلبي [ ص: 348 ] متروك ، فتحصل أن قصة الغرانيق لم ترد متصلة إلا من هذا الطريق الذي شك راويه في الوصل ، وما كان كذلك فضعفه ظاهر .
ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره إنه لم يرها مسندة من وجه صحيح . وقال العلامة الشوكاني في هذه القصة : ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه ومع عدم صحته بل بطلانه ، فقد دفعه المحققون بكتاب الله كقوله : ولو تقول علينا بعض الأقاويل الآية [ 69 \ 44 ] ، وقوله : وما ينطق عن الهوى [ 53 3 ] ، وقوله : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم الآية [ 17 ] .
فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون ، ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل ، وعن البيهقي أنه قال : هي غير ثابتة من جهة النقل .
وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة أن هذه القصة من وضع الزنادقة ، وأبطلها عياض وابن العربي المالكيين والفخر الرازي وجماعات كثيرة .
ومن أصرح الأدلة القرآنية في بطلانها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعد ذلك في سورة " النجم " قوله تعالى : إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] ، فلو فرضنا أنه قال تلك الغرانيق العلا ، ثم أبطل ذلك بقوله : إن هي إلا أسماء سميتموها فكيف يفرح المشركون بعد هذا الإبطال والذم التام لأصنامهم ، بأنها أسماء بلا مسميات ، وهذا هو الأخير .
وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة " النجم " بمكة وسجود المشركين ثابت في الصحيح ، ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق ، وعلى القول ببطلانها فلا إشكال .
وأما على القول بثبوت القصة ، كما هو رأي الحافظ ابن حجر ، فإنه قال في فتح الباري : إن هذه القصة ثبتت بثلاثة أسانيد ، كلها على شرط الصحيح ، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها ، دل ذلك على أن لها أصلا .
فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة ، من أحسنها وأقربها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة ترتيلا تتخلله سكتات فلما قرأ : ومناة الثالثة الأخرى ، قال الشيطان لعنه الله محاكيا [ ص: 349 ] لصوته صلى الله عليه وسلم : تلك الغرانيق العلا إلخ . . . فظن المشركون أن الصوت صوته صلى الله عليه وسلم ، وهو بريء من ذلك براءة الشمس من اللمس .
وقد بينا هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتنا ، فلذلك اختصرناها هنا ، فظهر أنه لا تعارض بين الآيات ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 350 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة قد أفلح المؤمنون
قوله تعالى : قال رب ارجعون .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من رجوع الضمير إلى الرب ، والضمير بصيغة الجمع والرب جل وعلا واحد .
والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : وهو أظهرها ، أن الواو لتعظيم المخاطب ، وهو الله تعني كما في قول الشاعر :
ألا فارحموني يا إله محمد فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل
وقول الآخر :
وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
الوجه الثاني : أن قوله : " رب " استغاثة به تعالى ، وقوله : " ارجعون " خطاب للملائكة ، ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير عن ابن جريج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة : إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا : نرجعك إلى دار الدنيا ؟ فيقول : إلى دار الهموم والأحزان ؟ فيقول : بل قدموني إلى الله ، وأما الكفار فيقولون له : نرجعك ، فيقول : رب ارجعون .
الوجه الثالث : وهو قول المازني ، أنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال : رب ارجعني ارجعني . ولا يخلو هذا القول عندي من بعد ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون .
هذه الآية الكريمة تدل على أنهم لا أنساب بينهم يومئذ ، وأنهم لا يتساءلون يوم [ ص: 351 ] القيامة ، وقد جاءت آيات أخر تدل على ثبوت الأنساب بينهم ، كقوله : يوم يفر المرء من أخيه الآية [ 80 ] ، وآيات أخرى تدل على أنهم يتساءلون كقوله تعالى : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ 37 \ 27 ] .
والجواب عن الأول : أن المراد بنفي الأنساب انقطاع فوائدها وآثارها التي كانت مترتبة عليها في الدنيا ، من العواطف والنفع والصلات والتفاخر بالآباء لا نفي حقيقتها .
والجواب عن الثاني من ثلاثة أوجه :
الأول : أن نفي السؤال بعد النفخة الأولى ، وقبل الثانية وإثباته بعدهما معا .
الثاني : أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط ، وإثباته فيما عدا ذلك وهو عن السدي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
الثالث : أن السؤال المنفي سؤال خاص ، وهو سؤال بعضهم العفو من بعض فيما بينهم من الحقوق لقنوطهم من الإعطاء ، ولو كان المسؤول أبا أو ابنا أو أما أو زوجة ، ذكر هذه الأوجه الثلاثة أيضا صاحب الإتقان .
قوله تعالى : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يزعمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا إلا يوما أو بعض يوم ، وقد جاءت آيات أخر يفهم منها خلاف ذلك ، كقوله تعالى : يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا [ 20 ] ، وقوله تعالى : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة [ 30 ] .
والجواب عن هذا بما دل عليه القرءان ، وذلك أن بعضهم يقول : لبثنا يوما أو بعض يوم [ 18 \ 19 ] . وبعضهم يقول : لبثنا ساعة . وبعضهم يقول : لبثنا عشرا .
ووجه دلالة القرءان على هذا أنه بين أن أقواهم إدراكا وأرجحهم عقلا وأمثلهم طريقة ، هو من يقول : إن مدة لبثهم يوم ، وذلك قوله تعالى : إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما [ 20 \ 104 ] ، فدل ذلك على اختلاف أقوالهم في مدة لبثهم ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 352 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النور
قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين هذه الآية الكريمة تدل على تحريم نكاح الزواني والزناة على الأعفاء والعفائف ، ويدل لذلك قوله : محصنات غير مسافحات الآية [ 4 \ 25 ] ، وقوله : محصنين غير مسافحين الآية [ 4 \ 24 ] .
وقد جاءت آيات أخر تدل بعمومها على خلاف ذلك كقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم الآية [ 24 ] ، وقوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 24 ] .
والجواب عن هذا مختلف فيه ، اختلافا مبنيا على الاختلاف في حكم تزوج العفيف للزانية أو العفيفة للزاني ، فمن يقول هو حرام ، يقول : هذه الآية مخصصة لعموم : وأنكحوا الأيامى منكم وعموم : وأحل لكم ما وراء ذلكم .
والذين يقولون بعدم المنع ، وهم الأكثر ، أجابوا بأجوبة :
منها أنها منسوخة بقوله : وأنكحوا الأيامى منكم واقتصر صاحب الإتقان على النسخ ، وممن قال بالنسخ : سعيد بن المسيب والشافعي .
ومنها أن النكاح في هذه الآية الوطء ، وعليه فالمراد بالآية أن الزاني لا يطاوعه على فعله ويشاركه في مراده إلا زانية مثله ، أو مشركة لا ترى حرمة الزنا .
ومنها أن هذا خاص ، لأنه كان في نسوة بغايا كان الرجل يتزوج إحداهن على أن تنفق عليه مما كسبته من الزنا ، لأن ذلك هو سبب نزول الآية ، فزعم بعضهم أنها مختصة بذلك السبب بدليل قوله : وأحل لكم الآية ، وقوله : وأنكحوا الأيامى الآية ، وهذا أضعفها ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 353 ] قوله تعالى : الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات .
هذه الآية الكريمة نزلت في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما رميت به ، وذلك يؤيد ما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من أن معناها : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء ، أي فلو كانت عائشة رضي الله عنها غير طيبة لما جعلها الله زوجة لأطيب الطيبين صلوات الله عليه وسلامه .
وعلى هذا فالآية الكريمة يظهر تعارضها مع قوله تعالى : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط - إلى قوله - مع الداخلين [ 66 \ 10 ] .
وقوله أيضا : وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون الآية [ 66 \ 11 ] .
إذ الآية الأولى دلت على خبث الزوجتين الكافرتين مع أن زوجيهما من أطيب الطيبين ، وهما نوح ولوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ، والآية الثانية دلت على طيب امرأة فرعون مع خبث زوجها .
والجواب أن في معنى الآية وجهين للعلماء :
الأول : وبه قال ابن عباس وروي عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت والضحاك ، كما نقله عنهم ابن كثير واختاره ابن جرير : أن معناها الخبيثات من القول ، للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول ، والطيبات من القول للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من القول ، أي فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة من كلام خبيث هم أولى به ، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم ، ولذا قال تعالى : أولئك مبرءون مما يقولون [ 24 \ 26 ] ، وعلى هذا الوجه فلا تعارض أصلا بين الآيات .
الوجه الثاني : هو ما قدمنا عن عبد الرحمن بن زيد ، وعليه فالإشكال ظاهر بين الآيات ، والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه أن قوله الخبيثات للخبيثين إلى آخره على هذا القول من العام المخصوص ، بدليل امرأة نوح وامرأة فرعون .
[ ص: 354 ] وعليه فالغالب تقييض كل من الطيبات والطيبين والخبيثات والخبيثين لجنسه وشكله الملائم له في الخبث أو الطيب ، مع أنه تعالى ربما قيض خبيثة لطيب كامرأة نوح ولوط ، أو طيبة لخبيث كامرأة فرعون لحكمة بالغة ، كما دل عليه قوله : ضرب الله مثلا للذين كفروا وقوله : وضرب الله مثلا للذين آمنوا مع قوله : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] .
فدل ذلك على أن تقييض الخبيثة للطيب أو الطيبة للخبيث فيه حكمة لا يعقلها إلا العلماء ، وهي في تقييض الخبيثة للطيب أن يبين للناس أن القرابة من الصالحين لا تنفع الإنسان ، وإنما ينفعه عمله ، ألا ترى أن أعظم ما يدافع عنه الإنسان زوجته ، وأكرم الخلق على الله رسله ، فدخول امرأة نوح وامرأة لوط النار ، كما قال تعالى : فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين [ 66 \ 10 ] فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن الاغترار بالقرابة من الصالحين والأعلام ، بأن الإنسان إنما ينفعه عمله : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به الآية [ 4 \ 123 ] .
كما أن دخول امرأة فرعون الجنة يعلم منه أن الإنسان إذا دعته الضرورة لمخالطة الكفار من غير اختياره ، وأحسن عمله وصبر على القيام بدينه أنه يدخل الجنة ولا يضره خبث الذين يخالطهم ويعاشرهم ، فالخبيث خبيث وإن خالط الصالحين ، كامرأة نوح ولوط ، والطيب طيب وإن خالط الأشرار كامرأة فرعون ، ولكن مخالطة الأشرار لا تجوز اختيارا ، كما دلت عليه أدلة أخر .
قوله تعالى : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من أن الضمير في قوله : " جاءه " يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء ، لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل ، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضائفين ، فلا تدرك إلا بإدراكهما ، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل إلا بإدراك فاعل وقع منه المجيء ، وقوله تعالى : لم يجده شيئا يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى : " جاءه " .
