عرض مشاركة واحدة
  #627  
قديم 06-01-2025, 05:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,130
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (625)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 313 إلى صـ 326



[ ص: 313 ] وأقرب الأوجه المذكورة عندنا ، هو ما يدل عليه القرآن العظيم وهو الوجه الرابع ، وهو أن معنى الآية : ولكل قوم هاد ، أي لكل أمة نبي ، فلست يا نبي الله بدعا من الرسل .

ووجه دلالة القرآن على هذا كثرة إتيان مثله في الآيات ، كقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، وقوله : ولكل أمة رسول وقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وعليه فالحكمة في الإخبار بأن لكل أمة نبيا أن المشركين عجبوا من إرساله صلى الله عليه وسلم إليهم ، كما بينه تعالى بقوله : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ 10 \ 2 ] ، وقوله : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 50 \ 2 ] ، وقوله : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا فأخبرهم أن إنذاره لهم ليس بعجب ولا غريب لأن لكل أمة منذرا ، فالآية كقوله : قل ما كنت بدعا من الرسل [ 46 \ 9 ] ، وقوله : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده [ 4 \ 163 ] ، والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك الآية .

هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على إيمان أهل الكتاب ، لأن الفرح بما أنزل على النبي دليل الإيمان .

ونظيرها قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته [ 2 \ 121 ] ، وقوله : قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله الآية [ 17 \ 107 ] .

وقد جاءت آيات تدل على خلاف ذلك كقوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين - إلى أن قال - إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم [ 98 \ 1 - 6 ] ، وبين في موضع آخر أن الكافرين من أهل الكتاب أكثر ، وهو قوله : ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون [ 3 \ 110 ] .

والجواب أن الآية من العام المخصوص ، فهي في خصوص المؤمنين من أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام ومن أسلم من اليهود وكالثمانين الذين أسلموا من النصارى [ ص: 314 ] المشهورين ، كما قاله الماوردي وغيره ، وهو ظاهر ، ويدل عليه التبعيض في قوله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله الآية [ 3 \ 199 ] .
[ ص: 315 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة إبراهيم

قوله تعالى : ويأتيه الموت من كل مكان الآية .

يفهم من ظاهره موت الكافر في النار ، وقوله : وما هو بميت [ 14 \ 17 ] ، يصرح بنفي ذلك .

والجواب أن معنى : ويأتيه الموت أي أسبابه المقتضية له عادة ، إلا أن الله يمسك روحه في بدنه مع وجود ما يقتضي موته عادة ، وأوضح هذا المعنى بعض المتأخرين ممن لا حجة في قوله بقوله :


لقد قتلتك بالهجاء فلم تمت إن الكلاب طويلة الأعمار
قوله تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض الآية .

هذه الآية الكريمة فيها التصريح بتبديل الأرض يوم القيامة ، وقد جاء في آية أخرى ما يتوهم منه أنها تبقى ولا تتغير ، وهي قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا [ 18 \ 7 - 8 ] ، فإنه تعالى في هذه الآية صرح بأنه جعل ما على الأرض زينة لها لابتلاء الخلق ، ثم بين أنه يجعل ما على الأرض صعيدا جرزا ، ولم يذكر أنه يغير نفس الأرض ، فيتوهم منه أن التغيير حاصل في ما عليها دون نفسها .

والجواب هو أن حكمة ذكر ما عليها دونها ، لأن ما على الأرض من الزينة والزخارف ومتاع الدنيا ، هو سبب الفتنة والطغيان ، ومعصية الله تعالى .

فالإخبار عنه بأنه فان زائل فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر ، عن الافتتان به ، ولهذه الحكمة خص بالذكر ، فلا ينافي تبديل الأرض المصرح به في الآية الأخرى ، كما هو [ ص: 316 ] ظاهر ، مع أن مفهوم قوله : ما عليها مفهوم لقب لأن الموصول الذي هو واقع على جميع الأجناس الكائنة على الأرض زينة لها ، ومفهوم اللقب لا يعتبر عند الجمهور ، وإذا كان لا اعتبار به لم تظهر منافاة أصلا ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 317 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحجر

قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون .

ظاهر هذه الآية أن آدم خلق من صلصال ، أي طين يابس .

وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : من طين لازب [ 37 \ 11 ] وكقوله : كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] .

والجواب أنه ذكر أطوار ذلك التراب ، فذكر طوره الأول بقوله : من تراب ، ثم بل فصار طينا لازبا ، ثم خمر فصار حمأ مسنونا ، ثم يبس فصار صلصالا كالفخار .

وهذا واضح ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 318 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النحل

قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم الآية .

هذه الآية الكريمة تدل على أن هؤلاء الضالين يحملون أوزارهم كاملة ، ويحملون أيضا من أوزار الأتباع الذين أضلوهم .

وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه لا يحمل أحد وزر غيره ، كقوله تعالى : وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ 35 \ 18 ] ، وقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 6 \ 164 ] .

والجواب أن هؤلاء الضالين ما حملوا إلا أوزار أنفسهم ، لأنهم تحملوا وزر الضلال ووزر الإضلال .

فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ، لأن تشريعه لها لغيره ذنب من ذنوبه فأخذ به .

وبهذا يزول الإشكال أيضا في قوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم الآية [ 29 \ 13 ] .

قوله تعالى : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا .

هذه الآية الكريمة يفهم منها أن السكر المتخذ من ثمرات النخيل والأعناب لا بأس به ، لأن الله امتن به على عباده في سورة الامتنان التي هي سورة " النحل " .

وقد حرم الله تعالى الخمر بقوله : رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون الآية [ 5 \ 90 ] ، لأنه وصفها بأنها رجس ، وأنها من عمل الشيطان وأمر [ ص: 319 ] باجتنابها ورتب عليه رجاء الفلاح ، ويفهم منه أن من لم يجتنبها لم يفلح ، وهو كذلك ، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن كل ما خامر العقل فهو خمر ، وأن كل مسكر حرام ، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام .

والجواب ظاهر ، وهو أن آية تحريم الخمر ناسخة لقوله : تتخذون منه سكرا الآية ، ونسخها له هو التحقيق خلافا لما يزعمه كثير من الأصوليين أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها الأولى ، لأن إباحتها الأولى إباحة عقلية وهي المعروفة عند الأصوليين بالبراءة الأصولية ، وتسمى استصحاب العدم الأصلي .

والإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخا ، ولو كان رفعها نسخا لكان كل تكليف في الشرع ناسخا للبراءة الأصلية من التكليف به وإلى كون الإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية ، أشار في مراقي السعود بقوله :


وما من الإباحة العقلية قد أخذت فليست الشرعية
كما أشار إلى أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها ، لأنها إباحة عقلية ، وليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخا بقوله :


أباحها في أول الإسلام براءة ليست من الأحكام
وإنما قلنا : إن التحقيق هو كون تحريم الخمر ناسخا لإباحتها ، لأن قوله تتخذون منه سكرا يدل على إباحة الخمر شرعا ، فرفع هذه الإباحة المدلول عليها بالقرآن رفع حكم شرعي فهو نسخ بلا شك ولا يمكن أن تكون إباحتها عقلية إلا قبل نزول هذه الآية كما هو ظاهر .

ومعلوم عند العلماء أن الخمر نزلت في شأنها أربع آيات من كتاب الله :

الأولى : هذه الآية الدالة على إباحتها .

الثانية : الآية التي ذكر فيها بعض معائبها ، وأن فيها منافع وصرحت بأن إثمها أكبر من نفعها ، وهي قوله تعالى : قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ 2 \ 219 ] ، فشربها بعد نزولها قوم للمنافع المذكورة وتركها آخرون للإثم الذي هو أكبر من المنافع .

[ ص: 320 ] الثالثة : الآية التي دلت على تحريمها في أوقات الصلاة دون غيرها ، وهي قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون الآية [ 4 \ 43 ] .

الرابعة : الآية التي حرمتها تحريما باتا مطلقا وهي قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر - إلى قوله - فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 - 91 ] ، والعلم عند الله تعالى .

وأما على قول من زعم أن السكر الطعم ، كما اختاره ابن جرير وأبو عبيدة أو أنه الخل ، فلا إشكال في الآية .

قوله تعالى : إنما سلطانه على الذين يتولونه الآية .

هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الشيطان له سلطان على أوليائه ، ونظيرها الاستثناء في قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] .

وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على نفي سلطانه عليهم ، كقوله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان الآية [ 34 \ 20 - 21 ] .

وقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان الآية [ 14 \ 22 ] .

والجواب هو أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه ، وذلك من وجهين :

الأول : أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه ، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان ، وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن .

الثاني : أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ، ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعته ودخولهم في حزبه ، فلم يتسلط عليهم بقوة لأن الله يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ ص: 321 ] الآية [ 4 \ 76 ] ، وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم ، ذكر هذا الجواب بوجهيه ابن القيم .

قوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .

هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن معية الله خاصة بالمتقين المحسنين .

وقد جاء في آيات أخر ما يدل على عمومها وهي قوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم [ 58 \ 7 ] .

وقوله : وهو معكم أين ما كنتم [ 57 \ 4 ] .

وقوله : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ 7 \ 7 ] .

وقوله : وما تكون في شأن الآية [ 10 \ 61 ] .

والجواب أن لله معية خاصة ومعية عامة ، فالمعية الخاصة بالنصر والتوفيق والإعانة ، وهذه لخصوص المتقين المحسنين ، كقوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا الآية [ 16 \ 128 ] .

وقوله : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم الآية [ 8 \ 12 ] .

وقوله : إنني معكما أسمع وأرى [ 20 \ 46 ] .

وقوله : لا تحزن إن الله معنا [ 9 \ 40 ] .

ومعية عامة بالإحاطة والعلم ، لأنه تعالى أعظم وأكبر من كل شيء ، محيط بكل شيء ، فجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ، وله المثل الأعلى ، وسيأتي له زيادة إيضاح في سورة " الحديد " إن شاء الله ، وهي عامة لكل الخلائق ، كما دلت عليه الآيات المتقدمة .
[ ص: 322 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة بني إسرائيل

قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .

هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى ينذره على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام .

ونظيرها قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .

وقوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك الآية [ 20 \ 134 ] .

وقوله : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون [ 6 \ 131 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

ويؤيده تصريحه تعالى بأن كل أفواج أهل النار جاءتهم الرسل في دار الدنيا في قوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا الآية [ 67 \ 8 - 9 ] .

ومعلوم أن " كلما " صيغة عموم ونظيرها قوله تعالى : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا - إلى قوله - قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين [ 39 \ 71 ] .

فقوله : وسيق الذين كفروا يعم كل كافر لما تقرر في الأصول ، من أن الموصولات من صيغ العموم لعمومها كلما تشمله صلاتها ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :

[ ص: 323 ]
صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع
ومعنى قوله : " وقد تلا الذي إلخ . . . " أن الذي والتي وفروعها صيغ عموم ككل وجميع .

ونظيره أيضا قوله تعالى : وهم يصطرخون فيها - إلى قوله - وجاءكم النذير [ 35 \ 37 ] ، فإنه عام أيضا لأن أول الكلام : والذين كفروا لهم نار جهنم [ 35 \ 36 ] .

وأمثال هذا كثيرة في القرآن مع إنه جاء في بعض الآيات ما يفهم منه أن أهل الفترة في النار ، كقوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ، [ 9 \ 113 ] فإن عمومها يدل على دخول من لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك عموم قوله تعالى : ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما [ 4 \ 18 ] .

وقوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين [ 2 \ 161 ] .

وقوله : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا الآية [ 3 \ 91 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

اعلم أولا أن من لم يأته نذير في دار الدنيا وكان كافرا حتى مات ، اختلف العلماء فيه ، هل هو من أهل النار لكفره ، أو هو معذور لأنه لم يأته نذير ؟ كما أشار له في مراقي السعود بقوله :


ذو فترة بالفرع لا يراع وفي الأصول بينهم نزاع
وسنذكر إن شاء الله جواب أهل كل واحد من القولين ، ونذكر ما يقتضي الدليل رجحانه ، فنقول وبالله نستعين :

قد قال قوم : إن الكافر في النار ، ولو مات في زمن الفترة ، وممن جزم بهذا القول النووي في شرح مسلم لدلالة الأحاديث على تعذيب بعض أهل الفترة .

[ ص: 324 ] وحكى القرافي في شرح التفيح الإجماع على أن موتى أهل الجاهلية في النار لكفرهم ، كما حكاه عنه صاحب نشر البنود .

وأجاب أهل هذا القول عن آية : وما كنا معذبين وأمثالها من ثلاثة أوجه :

الأول : أن التعذيب المنفي في قوله : وما كنا معذبين وأمثالها هو التعذيب الدنيوي ، فلا ينافي ثبوت التعذيب في الآخرة .

وذكر الشوكاني في تفسيره : أن اختصاص هذا التعذيب المنفي بالدنيا دون الآخرة ، ذهب إليه الجمهور واستظهر هو خلافه ، ورد التخصيص بعذاب الدنيا بأنه خلاف الظاهر من الآيات ، وبأن الآيات المتقدمة الدالة على اعتراف أهل النار جميعا ، بأن الرسل أنذروهم في دار الدنيا صريح في نفيه .

الثاني : أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله : وما كنا معذبين الآية ، وأمثالها في غير الواضح الذي لا يلتبس على عاقل .

أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل كعبادة الأوثان فلا يعذر فيه أحد ، لأن جميع الكفار يقرون بأن الله هو ربهم وهو خالقهم ورازقهم ، ويتحققون أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر ، لكنهم غالطوا أنفسهم ، فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى ، وأنها شفعاؤهم عند الله ، مع أن العقل يقطع بنفي ذلك .

الثالث : أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبله صلى الله عليه وسلم تقوم عليهم بها الحجة ، ومال إليه بعض الميل ابن قاسم في الآيات البينات .

وقد قدمنا في سورة " آل عمران " أن هذا القول يرده القرءان في آيات كثيرة مصرحة بنفي أصل النذير عنهم ، كقوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] .

وقوله : أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك .

وقوله : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك [ 28 \ 46 ] .

[ ص: 325 ] وقوله : وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير [ 34 \ 44 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وأجاب القائلون : بأن أهل الفترة معذورون عن مثل قوله : ما كان للنبي - إلى قوله - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم [ 9 \ 113 ] .

من الآيات المتقدمة بأنهم لا يتبين لهم أنهم من أصحاب الجحيم ولا يحكم لهم بالنار ولو ماتوا كفارا إلا بعد إنذارهم وامتناعهم من الإيمان ، كأبي طالب ، وحملوا الآيات المذكورة على هذا المعنى .

واعترض هذا الجواب بما ثبت في الصحيح من دخول بعض أهل الفترة النار ، كحديث : إن أبي وأباك في النار الثابت في صحيح مسلم وأمثاله من الأحاديث ، واعترض هذا الاعتراض بأن الأحاديث وإن صحت فهي أخبار آحاد ، يقدم عليها القاطع كقوله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .

واعترض هذا الاعتراض أيضا بأنه لا يتعارض عام وخاص ، فما أخرجه حديث صحيح خرج من العموم ، وما لم يخرجه نص صحيح بقي داخلا في العموم .

واعترض هذا الاعتراض أيضا بأن هذا التخصيص يبطل علة العام لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف وصرح بأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار الدنيا ، وبين أن ذلك الإنصاف التام علة لعدم التعذيب ، فلو عذب إنسانا واحدا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة ، ولثبتت لذلك المعذب الحجة التي بعث الله الرسل لقطعها ، كما صرح به في قوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .

وهذه الحجة بينهما في سورة " طه " بقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله [ 20 \ 134 ] .

وأشار لها في سورة " القصص " بقوله : ولولا أن تصيبهم مصيبة - إلى قوله - ونكون من المؤمنين [ 28 \ 47 ] .

وهذا الاعتراض الأخير يجري على الخلاف في النقض هل هو قادح في العلة أو [ ص: 326 ] تخصيص لها ؟ وهو اختلاف كثير معروف في الأصول عقده في مراقي السعود بقوله في تعداد القوادح في الدليل :


منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض رعاة العلم
والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح
وقد روي عن مالك تخصيص إن يك الاستنباط لا التنصيص
وعكس هذا قد رآه البعض ومنتقى ذي الاختصار النقض
إن لم يكن منصوصه بظاهر وليس فيما استنبطت بضائر
إن جاء لفقد الشرط أو لما منع والوفق في مثل العرايا قد وقع
والمحققون من أهل الأصول على أن عدم تأثير العلة ، إن كان لوجود مانع من التأثير أو انتفاء شرط التأثير ، فوجودها من تخلف الحكم لا ينقضها ، ولا يقدح فيها ، وخروج بعض أفراد الحكم حينئذ تخصيص للعلة لا نقض لها ، كالقتل عمدا عدوانا ، فإنه علة القصاص إجماعا ، ولا يقدح في هذه العلة تخلف الحكم عنها في قتل الوالد لولده ، لأن تأثيرها منع منه مانع هو الأبوة ، وأما إن كان عدم تأثيرها لا لوجود مانع أو انتفاء شرط فإنه يكون نقضا لها وقدحا فيها ، ولكن يرد على هذا التحقيق ما ذكره بعض العلماء من أن قوله تعالى : ذلك بأنهم شاقوا الله ، [ 8 \ 13 ] ، علة منصوصة لقوله : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم الآية [ 59 \ 3 ] .

مع أن هذه العلة قد توجد ولا يوجد ما عذب به بنو النضير من جلاء أو تعذيب دنيوي ، وهو يؤيد كون النقض تخصيصا مطلقا لا قدحا .

ويجاب عن هذا بأن بعض المحققين من الأصوليين قال : إن التحقيق المذكور محله في العلة المستنبطة دون المنصوصة وهذه منصوصة ، كما قدمنا ذلك في أبيات مراقي السعود في قوله :


. . . . . . وليس فيما استنبطت بضائر إن جاء لفقد الشرط أو لما منع . . . . .
هذا ملخص كلام العلماء وحججهم في المسألة ، والذي يظهر رجحانه بالدليل هو الجمع بين الأدلة لأن الجمع واجب إذا أمكن بلا خلاف ، كما أشار له في المراقي بقوله :

[ ص: 327 ]
والجمع واجب إذا ما أمكنا
إلخ .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.31 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.53%)]