عرض مشاركة واحدة
  #484  
قديم 30-12-2024, 06:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,388
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النَّمْلِ
المجلد الثالث عشر
صـ 4683 الى صـ 4693
الحلقة (484)





القول في تأويل قوله تعالى:

[71 - 76] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون

ويقولون متى هذا الوعد أي: بالعذاب: إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف لكم أي: لحقكم أو دنا لكم: بعض الذي تستعجلون أي: من العذاب، فحصل لهم القتل ببدر. ولعذاب الآخرة أمر. قال الزمخشري : وعسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم، يدل على صدق الأمر وجده، وما لا مجال للشك بعده. وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجلون بالانتقام، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم، ووثوقهم أن عدوهم لا يفوتهم، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم. فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده. انتهى. أي: لأن حقيقة الترجي محال في حقه تعالى. فهو على هذا استعارة تمثيلية. قاله [ ص: 4684 ] الشهاب: وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون أي: لذو إفضال وإنعام عليهم، بتأخير العقوبة وعدم معاجلتهم بها. ولكن أكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه، بل بجهلهم يستعجلونها: وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون أي: من عداوة رسوله ونصب المكايد له. وهو معاقبهم على ذلك: وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين أي: وما من خافية فيهما، إلا وقد علمها الله وأحاط بها وأثبتها في اللوح البين، المثبت فيه مقدوراته تعالى. أو المراد بالكتاب القضاء العدل، على طريق الاستعارة، بتشبيهه بالكتاب الجامع للوقائع، كالسجل: إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون أي: فهو مصدق لما بين يديه، ومهيمن عليه. يقص القصص الحق، ويفصل بين ما اختلفوا فيه بالصدق. فالمعول من أنبائهم عليه، ومرد ما اختلفوا فيه إليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[77 - 81] وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون

وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين أي: بما فيه من إقامة الدلائل ورفع الشبه التي يعقلها المؤمنون المنصفون المصدقون بالحق، المذعنون له: إن ربك يقضي بينهم بحكمه أي: بين من آمن بالقرآن ومن كفر به، بعدله وحكمته: وهو العزيز أي: فلا يرد قضاؤه الغالب [ ص: 4685 ] في انتقامه من المبطلين: العليم أي: بالفصل بينهم وبين المحقين. ثم أمره تعالى بقلة المبالاة بأعدائه، وبالمضي في دعوته وانتظار الوعد الحق، بقوله: فتوكل على الله إنك على الحق المبين أي: الأبلج الذي لا ريب فيه.

قال الزمخشري : وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته، وأن مثله لا يخذل. ثم أشار تعالى إلى كفاية نفع دعوته للمؤمنين، الذين هم أولياؤه وحزبه، وإلى أن الكل لا يرجى منهم الهداية، كآية: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين تسلية عما كان يهمه من إيمانهم، بقوله سبحانه: إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون قال الزمخشري : شبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله فكانوا أقماع القول، لا تعيه آذانهم. وكان سماعهم كلا سماع. كانت حالهم، لانتفاء جدوى السماع، كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع، وكذلك تشبيههم بالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون. وشبهوا بالعمي حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم، وأن يجعلهم هداة بصراء، إلا الله عز وجل. فإن قلت: ما معنى قوله: إذا ولوا مدبرين قلت: هو تأكيد لحال الأصم . لأنه إذا تباعد عن الداعي، بأن يولي عنه مدبرا، كان أبعد عن إدراك صوته. انتهى.

وإيراد قوله: وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إثر ما تقدم، للمبالغة في نفي الهداية. وقوله تعالى: إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا أي: ما تسمع سماعا يجدي السامع نفعا، إلا من شأنه الإيمان بها فهم مسلمون تعليل لإيمانهم بها. كأنه قيل: فإنهم منقادون للحق. وقيل: معناه مخلصون، من قوله: بلى من أسلم وجهه لله يعني جعله سالما لله خالصا له.
[ ص: 4686 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[82] وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون

وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون اعلم أن في هذا الوعيد وجوها من التأويل:

الأول: أنه دنيوي، عنى به نصر الرسول صلوات الله عليه، عليهم. والمعنى أن أولئك الصم عن سماع الآيات، العمي عن النظر فيها، الجاحدين لها، سيأتيهم أنباء حقيقة ما كانوا يدعون إليه من نصر الداعي وهو الرسول وأتباعه، وتكثير سوادهم حتى يظفروا بمناوئيهم. ويظهروا على عدوهم. وذلك بأن تدب إليهم من المؤمنين دابة عظمى تملأ السهل والربا، تزلزل أركانهم وتهدم بنيانهم وتقوض خيامهم وتدك أعلامهم. فتكلمهم حينئذ بلسان الحال أو المقال، بأنهم إنما أخذوا بالعقاب، وحل بهم شديد العذاب لضلالهم وإضلالهم العباد. وسعيهم في الأرض الفساد. فإن الإيمان دعامة الصلاح والإصلاح. وقائد الفلاح والنجاح، وقد سبقت كلمته لعباده المرسلين إنهم لهم المنصورون، وإن جنده لهم الغالبون. وقد صدق الله وعده. وأعز جنده.

والوجه الثاني: أن الدابة حيوان بخلاف ما نعرفه. يختص خروجها بحين القيامة، قال بعضهم: والمعنى إذا قامت القيامة بعث الله نوعا مخصوصا من دواب هذه الأرض، كما يبعث غيره من أنواع الدواب الأخرى. وينطقه فيوبخ الإنسان على كفره، كما ينطق أعضاءه في ذلك اليوم أيضا. قال: فليس المراد من قوله: "دابة" الفرد، بل النوع. كما في قولك: أرسل الله عليهم دودة أتلفت زرعهم، أي: ديدانا كثيرة، من نوع واحد مخصوص.

وقد روي فيها أحاديث وآثار كثيرة، لم يصحح البخاري منها شيئا، لاضطراب متونها [ ص: 4687 ] وضعف رجالها. وأمثل مأثورها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: « إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى. وأيهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على إثرها قريبا » .

ومعلوم أن أمور الآخرة من عالم الغيب. ولا يؤخذ فيها إلا بما كان قطعي الثبوت.

الوجه الثالث: نقله الراغب في مفرداته قال: وقيل عنى بالدابة الأشرار الذين هم في الجهل بمنزلة الدواب. فتكون الدابة جمعا، اسما لكل ما يدب. نحو: خائنة جمع خائن. انتهى.

ولعل الآية كقوله تعالى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين فإن يأجوج ومأجوج كالدابة، لما يغطي بدبيبه وجه الأرض- فهو مثل في الكثرة. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[83-84] ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون

ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون أي: يحبس أولهم على آخرهم، حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه. كما وصفت جنود سليمان بذلك. وكذلك قوله: فوجا فإن الفوج الجماعة الكثيرة. أفاده الزمخشري : حتى إذا جاءوا أي: إلى المحشر: قال أي: ليفضحهم في هذا اليوم المشهود: [ ص: 4688 ] أكذبتم بآياتي أي: الناطقة بلقاء يومكم هذا وقوله: ولم تحيطوا بها علما جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قبحه. ومؤكدة للإنكار والتوبيخ. أي: أكذبتم بها بادئ الرأي، غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق حتما؟ وهذا نص في أن المراد بالآيات، فيما سلف في الموضعين، هي الآيات القرآنية، لأنها هي المنطوية على دلائل الصحة، وشواهد الصدق التي لم يحيطوا بها علما، مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها. لا نفس الساعة وما فيها. أفاده أبو السعود: أماذا كنتم تعملون أي: بها. أو ماذا كان عملكم؟ هل هو إلا الفساد والإفساد؟ وصد السبيل عن العباد؟ ولذا حقت كلمة العذاب عليهم. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[85 - 89] ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون

ووقع القول أي: مدلوله وهو العقاب الموعودون به: عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا أي: ليبصروا، بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في أمور المعاش: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ويوم ينفخ [ ص: 4689 ] في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه أي: حضروا الموقف بين يديه: داخرين أي: صاغرين: وترى الجبال عطف على ينفخ داخل في حكم التذكير: تحسبها جامدة أي: ثابتة في أماكنها: وهي تمر مر السحاب أي: في تخلل أجزائها وانتفاشها. كما في قوله تعالى: وتكون الجبال كالعهن المنفوش صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون أي: فيجازيهم عليه.

تنبيه:

ما ذكرناه في تفسير هذه الآية هو ما ذهب إليه كثير. قالوا: المراد بهذه الآية تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة، حينما يبيد الله تعالى العوالم، كما قال: وسيرت الجبال فكانت سرابا وكما قال: وإذا الجبال نسفت وقال: وتكون الجبال كالعهن المنفوش

وقال بعض علماء الفلك: لا يمكن أن يكون المراد بهذه الآية ما قالوه، لعدة وجوه:

الأول: أن قوله تعالى: وترى الجبال تحسبها جامدة لا يناسب مقام التهويل والتخويف إذا أريد بها بما يحصل يوم القيامة. وكذلك قوله: صنع الله الذي أتقن كل شيء لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة، على أن محل هذه الآية على المستقبل، مع أنها صريحة في إرادة الحال، شيء لا موجب له. وهو خلاف الظاهر منها.

الثاني: أن سير الجبال للفناء يوم القيامة، يحصل عند خراب العالم وإهلاك جميع الخلائق وهذا شيء لا يراه أحد من البشر كما قال: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله أي: من الملائكة. فما معنى قوله إذن: وترى الجبال تحسبها جامدة

[ ص: 4690 ] الثالث: أن تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة، إذا رآه أحد شعر به. لأنه ما دام وضعها يتغير بالنسبة للإنسان، فيحس بحركتها. وهذا ينافي قوله تعالى: تحسبها جامدة أي: ثابتة. أما في الدنيا فلا نشعر بحركتها، لأننا نتحرك معها ولا يتغير وضعنا بالنسبة لها. وهذا بخلاف ما يحصل يوم القيامة. فإن الجبال تنفصل عن الأرض وتنسف نسفا. وهذا شيء يراه كل واقف عندها.

الرابع: ورود هذه الآية في سياق الكلام على يوم القيامة، لورود آية: ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا المذكورة قبلها في نفس هذا السياق، والمراد بهما ذكر شيء من دلائل قدرة الله تعالى، المشاهدة آثارها في هذا العالم الآن من حركة الأرض وحدوث الليل والنهار، ليكون ذلك دليلا على قدرته على البعث والنشور يوم القيامة فإن القادر على ضبط حركات هذه الأجرام العظيمة، لا يصعب عليه أن يعيد الإنسان، وأن يضبط حركاته وأعماله ويحصيها عليه. ولذلك ختم هذه الآية بقوله: إنه خبير بما تفعلون فذكر هذه الأشياء في هذا السياق، هو كذكر الدليل مع المدلول، أو الحجة مع الدعوى. وهي سنة القرآن الكريم. فإنك تجد الدلائل منبثة بين دعاويه دائما، حتى لا يحتاج الإنسان لدليل آخر خارج عنها. وذلك شيء مشاهد في القرآن من أوله إلى آخره. اهـ كلامه.

وقال العلامة المرجاني في مقدمة كتابه (وفية الأسلاف، وتحية الأخلاف) في بحث علم الهيئة، ما مثاله:

ويدل على حركة الأرض قوله تعالى: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب الآية. فإنه خطاب لجناب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في هذه الرؤية. وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها، مع كونها متحركة في الواقع بحركة الأرض، ودوام مرورها مر السحاب في سرعة السير والحركة. قال: وقوله: صنع الله من المصادر المؤكدة لنفسها. وهو مضمون الجملة السابقة. يعني أن هذا المرور هو صنع الله. [ ص: 4691 ] كقوله تعالى: "وعد الله" ، صبغة الله ثم الصنع هو عمل الإنسان، بعد تدرب فيه وترو وتحري إجادة. ولا يسمى كل عمل صناعة، ولا كل عامل صانعا حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه. وقوله: الذي أتقن كل شيء كالبرهان على إتقانه، والدليل على إحكام خلقته، وتسويته مروره على ما ينبغي. لأن إتقان كل شيء، يتناول إتقانه. فهو تثنية للمراد وتكرير له، كقوله تعالى: ومن كفر فإن الله غني عن العالمين قال: وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد، وأنحاء من المبالغة. فمن ذلك تعبيره (بالصنع) الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل على الحكمة. وإضافته إليه تعالى تعظيما له وتحقيقا لإتقانه وحسن أعماله. ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء، ومن جملته هذه المرور. ثم إيراده بالجملة الاسمية الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور. ثم التقييد بالحال، لتدل على أنها لا تنفك عنها دائما. فإن قوله تعالى: وهي تمر مر السحاب حال من المفعول به، وهو الجبال. ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال.

فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال معها في هذه النشأة. وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة، أو عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام. وأن حسبانها جامدة لعدم تبين حركة كبار الأجرام إذا كانت في سمت واحد. فإن ذلك لا يلائم المقصود من التهويل على ذلك التقدير. على أن ذلك نقض وإهدام، وليس من صنع وإحكام. قال: والعجب من حذاق العلماء المفسرين، عدم تعرضهم لهذا المعنى، مع ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء. مع أنه أولى وأحق من تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية، على ما شحنوا بها كتبهم. وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى، ولا بعيد عن حكمته، ولا القول به بمصادم للشريعة والعقيدة الحقة، بعد أن تعتقد أن كل شيء حادث بقدرة الله تعالى وإرادته وخلقه بالاختيار، كائنا ما كان، وهو العلي الكبير، وعلى ما يشاء قدير.

[ ص: 4692 ] واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى: ألم يروا أنا جعلنا الليل الآية. اعتراض في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة، كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان. ومثل ذلك ليس بعزيز في القرآن.

وفائدته هنا، التنبيه على سرعة تقضي الآجال ومضي الآماد. والتهويل من هجوم ساعة الموت وقرب ورود وقت المعاد. فإن انقضاء الأزمان، وتقضي الأوان، إنما هو بالحركة اليومية المارة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان. وهذا المرور وإن لم يكن مبصرا محسوسا، لكن ما ينبعث منه تبدل الأحوال، بما يطرأ من تعاقب الليل والنهار وغيره، بمنزلة المحسوس المبصر: فاعتبروا يا أولي الأبصار فيكون هذا معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، مخصوصة به، إذ لم يخبر به غيره من الأنبياء.

فليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع عند قيام الساعة ووفاء النشأة الآخرة. إذ ليس هو من (الصنع) في شيء. بل هو إفساد أحوال الكائنات، وإخلال نظام العالم، وإهلاك بني آدم. اهـ .كلام المرجاني.

من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون أي: لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل. وقرئ: (فزع يومئذ) بالإضافة وكسر الميم وفتحها. وفزع منونا وفتح الميم، على أنه ظرف (لآمنون) أو المحذوف هو صفة للفزع. والتنوين في (يومئذ) عوض عن جملة محذوفة، أي: يوم إذا جاءوا بالحسنة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[90 - 93] ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين [ ص: 4693 ] وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون

ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون أي: من الشرك والمعاصي: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة أي: مكة: الذي حرمها أي: جعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها. وفيه تعريض بجحدهم نعمته تعالى في ذلك، حيث آمنهم من خوف، وأجلهم في أعين القبائل، ووقاهم من الفتن المنتشرة عند غيرهم، إجلالا لهذا البيت. وهم لم يرعوا هذه النعمة بالقيام بواجب شكرها، من عبادته تعالى وحده، وسعيهم بالإصلاح: وله كل شيء أي: خلقا وملكا. فهو خالق كل شيء ومليكه: وأمرت أن أكون من المسلمين أي: ممن أسلم وجهه لله، لا لغيره.

وأن أتلو القرآن أي: عليكم، تلاوة الدعوة إلى الإيمان به، لما اشتمل عليه من سعادة الدارين: فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه أي: فمن اتبع ما فيه من توحيد الله، ونفي الأنداد عنه، والدخول في الملة الحنيفية، واتباع ما أنزل علي من الوحي، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه، لا إلي: ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين أي: ومن ضل عن الإيمان وأخطأ بزيغه طريق الهدى، ولم يتبعني، فلا علي. وما أنا إلا رسول منذر، وما على الرسول إلا البلاغ المبين: وقل الحمد لله أي: على ما هدانا لهذا الدين، ومن علينا بصراطه المستقيم: سيريكم آياته فتعرفونها كقوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وقوله: ولتعلمن نبأه بعد حين وما ربك بغافل عما تعملون أي: من الشرك والتكذيب ونصب المكايد. بل هو شهيد رقيب، جل جلاله وعظم نواله، ولا إله غيره.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 53.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 52.56 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.18%)]