عرض مشاركة واحدة
  #382  
قديم 19-12-2024, 05:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,001
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (9)
سُورَةُ هُودٍ
من صــ 46 الى صــ 55
الحلقة (382)



قوله تعالى : وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود

[ ص: 46 ] قوله تعالى : وإلى عاد أخاهم هودا أي وأرسلنا ، فهو معطوف على أرسلنا نوحا . وقيل له أخوهم لأنه منهم ، وكانت القبيلة تجمعهم ; كما تقول : يا أخا تميم . وقيل : إنما قيل له أخوهم لأنه من بني آدم كما أنهم من بني آدم ; وقد تقدم هذا في " الأعراف " وكانوا عبدة الأوثان . وقيل : هم عادان ، عاد الأولى وعاد الأخرى ، فهؤلاء هم الأولى ; وأما الأخرى فهو شداد ولقمان المذكوران في قوله تعالى : إرم ذات العماد . وعاد اسم رجل ثم استمر على قوم انتسبوا إليه .

" قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " بالخفض على اللفظ ، و " غيره " بالرفع على الموضع ، و " غيره " بالنصب على الاستثناء .

إن أنتم إلا مفترون أي ما أنتم في اتخاذكم إلها غيره إلا كاذبون عليه جل وعز .

قوله تعالى : يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني تقدم معناه . والفطرة ابتداء الخلق .

أفلا تعقلون ما جرى على قوم نوح لما كذبوا الرسل .

قوله تعالى : ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه تقدم في أول السورة .

يرسل السماء جزم لأنه جواب وفيه معنى المجازاة .

عليكم مدرارا نصب على الحال ، وفيه معنى التكثير ; أي يرسل السماء بالمطر متتابعا يتلو بعضه بعضا ; والعرب تحذف الهاء في مفعال على النسب ; وأكثر ما يأتي مفعال من أفعل ، وقد جاء هاهنا من فعل ; لأنه من درت السماء تدر وتدر فهي مدرار . وكان قوم هود - أعني عادا - أهل بساتين وزروع وعمارة ، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن كما تقدم في " الأعراف " .

" ويزدكم " عطف على يرسل .

قوة إلى قوتكم قال مجاهد : شدة على شدتكم . الضحاك : خصبا إلى خصبكم . [ ص: 47 ] علي بن عيسى : عزا على عزكم . عكرمة : ولدا إلى ولدكم . وقيل : إن الله حبس عنهم المطر وأعقم الأرحام ثلاث سنين فلم يولد لهم ولد ; فقال لهمهود : إن آمنتم أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد ; فتلك القوة . وقال الزجاج : المعنى يزدكم قوة في النعم .

ولا تتولوا مجرمين أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه ، وتقيموا على الكفر

قوله تعالى : قالوا يا هود ما جئتنا ببينة أي حجة واضحة .

وما نحن لك بمؤمنين إصرارا منهم على الكفر .

قوله تعالى : إن نقول إلا اعتراك أي أصابك .

بعض آلهتنا أي أصنامنا .

بسوء أي ( بجنون لسبك إياها ) ، عن ابن عباس وغيره . يقال : عراه الأمر واعتراه إذا ألم به . ومنه وأطعموا القانع والمعتر .

قال إني أشهد الله أي على نفسي .

واشهدوا أي وأشهدكم ; لا أنهم كانوا أهل شهادة ; ولكنه نهاية للتقرير ; أي لتعرفوا

أني بريء مما تشركون أي من عبادة الأصنام التي تعبدونها .

فكيدوني جميعا أي أنتم وأوثانكم في عداوتي وضري .

ثم لا تنظرون أي لا تؤخرون . وهذا القول مع كثرة الأعداء يدل على كمال الثقة بنصر الله تعالى . وهو من أعلام النبوة ، أن يكون الرسول وحده يقول لقومه : فكيدوني جميعا . وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقريش . وقال نوح - صلى الله عليه وسلم - فأجمعوا أمركم وشركاءكم الآية .

قوله تعالى : إني توكلت على الله ربي وربكم أي رضيت بحكمه ، ووثقت بنصره .

ما من دابة أي نفس تدب على الأرض ; وهو في موضع رفع بالابتداء .

إلا هو آخذ بناصيتها أي يصرفها كيف يشاء ، ويمنعها مما يشاء ; أي فلا تصلون إلى ضري . وكل ما فيه روح يقال له داب ودابة ; والهاء للمبالغة . وقال الفراء : مالكها ، والقادر عليها . وقال القتبي : قاهرها ; لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته . وقال الضحاك : يحييها ثم يميتها ; والمعنى متقارب . والناصية قصاص الشعر في مقدم الرأس . ونصوت الرجل أنصوه نصوا أي مددت ناصيته . قال ابن جريج : إنما خص الناصية ; لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع ; فيقولون . ما ناصية فلان إلا بيد فلان ; أي إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء . وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليعرفوا بذلك فخرا عليه ; فخاطبهم بما يعرفونه في كلامهم . وقال الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " قوله تعالى : ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وجهه عندنا أن الله تعالى قدر مقادير أعمال العباد ، ثم نظر إليها ، ثم خلق [ ص: 48 ] خلقه ، وقد نفذ بصره في جميع ما هم فيه عاملون من قبل أن يخلقهم ، فلما خلقهم وضع نور تلك النظرة في نواصيهم فذلك النور آخذ بنواصيهم ، يجريهم إلى أعمالهم المقدرة عليهم يوم المقادير . وخلق الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ; رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة . ولهذا قويت الرسل وصاروا من أولي العزم لأنهم لاحظوا نور النواصي ، وأيقنوا أن جميع خلقه منقادون بتلك الأنوار إلى ما نفذ بصره فيهم من الأعمال ، فأوفرهم حظا من الملاحظة أقواهم في العزم ، ولذلك ما قوي هود النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال : فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وإنما سميت ناصية لأن الأعمال قد نصت وبرزت من غيب الغيب فصارت منصوصة في المقادير ، قد نفذ بصر الخالق في جميع حركات الخلق بقدرة ، ثم وضعت حركات كل من دب على الأرض حيا في جبهته بين عينيه ، فسمي ذلك الموضع منه ناصية ; لأنها تنص حركات العباد بما قدر ; فالناصية مأخوذة بمنصوص الحركات التي نظر الله تعالى إليها قبل أن يخلقها ووصف ناصية أبي جهل فقال : ناصية كاذبة خاطئة يخبر أن النواصي فيها كاذبة خاطئة ; فعلى سبيل ما تأولوه يستحيل أن تكون الناصية منسوبة إلى الكذب والخطأ . والله أعلم .

إن ربي على صراط مستقيم قال النحاس : الصراط في اللغة المنهاج الواضح ; والمعنى أن الله جل ثناؤه وإن كان يقدر على كل شيء فإنه لا يأخذهم إلا بالحق . وقيل : معناه لا خلل في تدبيره ، ولا تفاوت في خلقه سبحانه .

قوله تعالى : فإن تولوا في موضع جزم ; فلذلك حذفت منه النون ، والأصل تتولوا ، فحذفت التاء لاجتماع تاءين .

فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم بمعنى قد بينت لكم .

ويستخلف ربي قوما غيركم أي يهلككم ويخلق من هو أطوع له منكم يوحدونه ويعبدونه . " ويستخلف " مقطوع مما قبله فلذلك ارتفع ; أو معطوف على ما يجب فيما بعد الفاء من قوله : فقد أبلغتكم . وروي عن حفص عن عاصم " ويستخلف " بالجزم حملا على موضع الفاء وما بعدها ; مثل : ويذرهم في طغيانهم يعمهون .

[ ص: 49 ] قوله تعالى : ولا تضرونه شيئا أي بتوليكم وإعراضكم . إن ربي على كل شيء حفيظ أي لكل شيء حافظ . " على " بمعنى اللام ; فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء .

قوله تعالى : ولما جاء أمرنا أي عذابنا بهلاك عاد .

نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا لأن أحدا لا ينجو إلا برحمة الله تعالى ، وإن كانت له أعمال صالحة . وفي صحيح مسلم والبخاري وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لن ينجي أحدا منكم عمله . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ ! قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه . وقيل : معنى برحمة منا بأن بينا لهم الهدى الذي هو رحمة . وكانوا أربعة آلاف . وقيل : ثلاثة آلاف .

ونجيناهم من عذاب غليظ أي عذاب يوم القيامة . وقيل : هو الريح العقيم كما ذكر الله في " الذاريات " وغيرها وسيأتي . قال القشيري أبو نصر : والعذاب الذي يتوعد به النبي أمته إذا حضر ينجي الله منه النبي والمؤمنين معه ; نعم ! لا يبعد أن يبتلي الله نبيا وقومه فيعمهم ببلاء فيكون ذلك عقوبة للكافرين ، وتمحيصا للمؤمنين إذا لم يكن مما توعدهم النبي به .

قوله تعالى : وتلك عاد ابتداء وخبر . وحكى الكسائي أن من العرب من لا يصرف " عادا " فيجعله اسما للقبيلة .

جحدوا بآيات ربهم أي كذبوا بالمعجزات وأنكروها .

وعصوا رسله يعني هودا وحده ; لأنه لم يرسل إليهم من الرسل سواه . ونظيره قوله تعالى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده ; لأنه لم يكن في عصره رسول سواه ; وإنما جمع هاهنا لأن من كذب رسولا واحدا فقد كفر بجميع الرسل . وقيل : عصوا هودا والرسل قبله ، وكانوا بحيث لو أرسل إليهم ألف رسول لجحدوا الكل .

واتبعوا أمر كل جبار عنيد أي اتبع سقاطهم رؤساءهم . والجبار المتكبر . والعنيد الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له . قال أبو عبيد : العنيد والعنود والعاند والمعاند المعارض بالخلاف ، ومنه قيل للعرق الذي ينفجر بالدم عاند . وقال الراجز :



إني كبير لا أطيق العندا


قوله تعالى : وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة أي ألحقوها .

ويوم القيامة أي وأتبعوا [ ص: 50 ] يوم القيامة مثل ذلك ; فالتمام على قوله : ويوم القيامة .

ألا إن عادا كفروا ربهم قال الفراء : أي كفروا نعمة ربهم ; قال : ويقال كفرته وكفرت به ، مثل شكرته وشكرت له

ألا بعدا لعاد قوم هود أي لا زالوا مبعدين عن رحمة الله . والبعد الهلاك ، والبعد التباعد من الخير . يقال : بعد يبعد بعدا إذا تأخر وتباعد . وبعد يبعد بعدا إذا هلك ; قال :

لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر



وقال النابغة :



فلا تبعدن إن المنية منهل وكل امرئ يوما به الحال زائل

قوله تعالى : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب

فيه خمس مسائل :

الأولى : قوله تعالى : وإلى ثمود أي أرسلنا إلى ثمود

" أخاهم " أي في النسب .

صالحا وقرأ يحيى بن وثاب وإلى ثمود بالتنوين في كل القرآن ; وكذلك روي عن الحسن . واختلف سائر القراء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع . وزعم أبو عبيدة أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف ; إذ كان الأغلب عليه التأنيث . قال النحاس : الذي قال أبو عبيدة - رحمه الله - من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود ; لأن ثمودا يقال له حي ; ويقال له قبيلة ، وليس الغالب عليه القبيلة ; بل الأمر على ضد ما قال عند سيبويه . والأجود عند سيبويه فيما لم يقل فيه بنو فلان الصرف ، نحو قريش وثقيف وما أشبههما ، وكذلك ثمود ، والعلة في ذلك أنه لما كان التذكير الأصل ، وكان يقع له مذكر ومؤنث كان الأصل الأخف أولى . والتأنيث جيد بالغ حسن . وأنشد سيبويه في التأنيث :

غلب المساميح الوليد سماحة وكفى قريش المعضلات وسادها


الثانية : قوله تعالى : قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره تقدم . هو أنشأكم من الأرض أي ابتدأ خلقكم من الأرض ، وذلك أن آدم خلق من الأرض على ما تقدم في " البقرة " و " الأنعام " وهم منه ، وقيل : أنشأكم في الأرض . ولا يجوز إدغام الهاء من غيره في الهاء من " هو " إلا على لغة من حذف الواو في الإدراج .

واستعمركم فيها أي جعلكم [ ص: 51 ] عمارها وسكانها . قال مجاهد : ومعنى استعمركم أعمركم من قوله : أعمر فلان فلانا داره ; فهي له عمرى . وقال قتادة : أسكنكم فيها ; وعلى هذين القولين تكون استفعل بمعنى أفعل ; مثل استجاب بمعنى أجاب . وقال الضحاك : أطال أعماركم ، وكانت أعمارهم من ثلاثمائة إلى ألف . ابن عباس : أعاشكم فيها . زيد بن أسلم : أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن ، وغرس أشجار . وقيل : المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها .

الثالثة : قال ابن العربي قال بعض علماء الشافعية : الاستعمار طلب العمارة ; والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب ، قال القاضي أبو بكر : تأتي كلمة استفعل في لسان العرب على معان : منها ; استفعل بمعنى طلب الفعل كقوله : استحملته أي طلبت منه حملانا ; وبمعنى اعتقد ، كقولهم : استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلا ، أو وجدته سهلا ، واستعظمته أي اعتقدته عظيما ووجدته ، ومنه استفعلت بمعنى أصبت ; كقولهم : استجدته أي أصبته جيدا : ومنها بمعنى فعل ; كقوله : قر في المكان واستقر ; وقالوا وقوله : " يستهزئون " و " يستسخرون " منه ; فقوله تعالى : استعمركم فيها خلقكم لعمارتها ، لا على معنى استجدته واستسهلته ; أي أصبته جيدا وسهلا ; وهذا يستحيل في الخالق ، فيرجع إلى أنه خلق ; لأنه الفائدة ، وقد يعبر عن الشيء بفائدته مجازا ; ولا يصح أن يقال : إنه طلب من الله تعالى لعمارتها ، فإن هذا اللفظ لا يجوز في حقه ، أما أنه يصح أن يقال : إنه استدعى عمارتها فإنه جاء بلفظ استفعل ، وهو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه إذا كان أمرا ، وطلب للفعل إذا كان من الأدنى إلى الأعلى رغبة .

قلت : لم يذكر استفعل بمعنى أفعل ، مثل قوله : استوقد بمعنى أوقد ، وقد ذكرناه وهي :

الرابعة : ويكون فيها دليل على الإسكان والعمرى وقد مضى القول في " البقرة " في السكنى والرقبى . وأما العمرى فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال :

أحدها - أنها تمليك لمنافع الرقبة حياة المعمر مدة عمره ; فإن لم يذكر عقبا فمات المعمر رجعت إلى الذي أعطاها أو لورثته ; هذا قول القاسم بن محمد ويزيد بن قسيط والليث بن سعد ، وهو مشهور مذهب مالك ، وأحد أقوال الشافعي ، وقد تقدم في " البقرة " حجة هذا القول .

الثاني : أنها تمليك الرقبة ومنافعها وهي هبة مبتولة ; وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري [ ص: 52 ] والحسن بن حي وأحمد بن حنبل وابن شبرمة وأبي عبيد ; قالوا : من أعمر رجلا شيئا حياته فهو له حياته ; وبعد وفاته لورثته ; لأنه قد ملك رقبتها ، وشرط المعطي الحياة والعمر باطل ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : العمرى جائزة و العمرى لمن وهبت له .

الثالث : إن قال عمرك ولم يذكر العقب كان كالقول الأول ، وإن قال لعقبك كان كالقول الثاني ; وبه قال الزهري وأبو ثور وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن أبي ذئب ، وقد روي عن مالك ; وهو ظاهر قوله في الموطأ . والمعروف عنه وعن أصحابه أنها ترجع إلى المعمر ; إذا انقرض عقب المعمر ; إن كان المعمر حيا ، وإلا فإلى من كان حيا من ورثته ، وأولى الناس بميراثه . ولا يملك المعمر بلفظ العمرى عند مالك وأصحابه رقبة شيء من الأشياء ، وإنما يملك بلفظ العمرى المنفعة دون الرقبة . وقد قال مالك في الحبس أيضا : إذا حبس على رجل وعقبه أنه لا يرجع إليه . وإن حبس على رجل بعينه حياته رجع إليه ، وكذلك العمرى قياسا ، وهو ظاهر الموطأ . وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أيما رجل أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقال قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد فإنها لمن أعطيها وأنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث وعنه قال : إن العمرى التي أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : هي لك ولعقبك ، فأما إذا قال : هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها ; قال معمر : وبذلك كان الزهري يفتي .

قلت : معنى القرآن يجري مع أهل القول الثاني ; لأن الله سبحانه قال : واستعمركم بمعنى أعمركم ; فأعمر الرجل الصالح فيها مدة حياته بالعمل الصالح ، وبعد موته بالذكر الجميل والثناء الحسن ; وبالعكس الرجل الفاجر ; فالدنيا ظرف لهما حياة وموتا . وقد يقال : إن الثناء الحسن يجري مجرى العقب . وفي التنزيل : واجعل لي لسان صدق في الآخرين أي ثناء حسنا . وقيل : هو محمد - صلى الله عليه وسلم - . قال : وجعلنا ذريته هم الباقين وقال : وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين .

[ ص: 53 ] الخامسة : قوله تعالى : فاستغفروه أي سلوه المغفرة من عبادة الأصنام .

ثم توبوا إليه أي ارجعوا إلى عبادته ،

إن ربي قريب أي قريب الإجابة لمن دعاه . وقد مضى في " البقرة " عند قوله : فإني قريب أجيب دعوة الداعي القول فيه .

قوله تعالى : قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل هذا ; أي قبل دعوتك النبوة . وقيل : كان صالح يعيب آلهتهم ويشنؤها ، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم ، فلما دعاهم إلى الله قالوا : انقطع رجاؤنا منك .

أتنهانا استفهام معناه الإنكار .

أن نعبد أي عن أن نعبد

ما يعبد آباؤنا فأن في محل نصب بإسقاط حرف الجر .

وإننا لفي شك وفي سورة " إبراهيم " و " وإنا " والأصل وإننا ; فاستثقل ثلاث نونات فأسقط الثالثة .

مما تدعونا الخطاب لصالح ، وفي سورة إبراهيم تدعوننا لأن الخطاب للرسل - صلوات الله وسلامه عليهم -

إليه مريب من أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة . قال الهذلي :



كنت إذا أتوته من غيب يشم عطفي ويبز ثوبي





كأنما أربته بريب


قوله تعالى : قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة تقدم معناه في قول نوح . فمن ينصرني من الله إن عصيته استفهام معناه النفي ; أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد .

فما تزيدونني غير تخسير أي تضليل وإبعاد من الخير ; قاله الفراء . والتخسير لهم لا له - صلى الله عليه وسلم - ; كأنه قال : غير تخسير لكم لا لي . وقيل : المعنى ( ما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم ) ; عن ابن عباس .

قوله تعالى : قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود

[ ص: 54 ] قوله تعالى : ويا قوم هذه ناقة الله ابتداء وخبر .

لكم آية نصب على الحال ، والعامل معنى الإشارة أو التنبيه في هذه . وإنما قيل : ناقة الله ; لأنه أخرجها لهم من جبل - على ما طلبوا - على أنهم يؤمنون . وقيل : أخرجها من صخرة صماء منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ، فلما خرجت الناقة - على ما طلبوا - قال لهم نبي الله صالح : هذه ناقة الله لكم آية .

فذروها تأكل أمر وجوابه ; وحذفت النون من فذروها لأنه أمر . ولا يقال : وذر ولا واذر إلا شاذا . وللنحويين فيه قولان ; قال سيبويه : استغنوا عنه ب " ترك " . وقال غيره : لما كانت الواو ثقيلة وكان في الكلام فعل بمعناه لا واو فيه ألغوه ; قال أبو إسحاق الزجاج : ويجوز رفع تأكل على الحال والاستئناف .

" ولا تمسوها " جزم بالنهي .

" بسوء " قال الفراء : بعقر .

" فيأخذكم " جواب النهي .

عذاب قريب أي قريب من عقرها .

قوله تعالى : فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : " فعقروها " إنما عقرها بعضهم ; وأضيف إلى الكل لأنه كان برضا الباقين . وقد تقدم الكلام في عقرها في " الأعراف " . ويأتي أيضا . فقال تمتعوا أي قال لهم صالح تمتعوا ; أي بنعم الله - عز وجل - قبل العذاب . في داركم أي في بلدكم ، ولو أراد المنزل لقال في دوركم . وقيل : أي يتمتع كل واحد منكم في داره ومسكنه ; كقوله : يخرجكم طفلا أي كل واحد طفلا . وعبر عن التمتع بالحياة لأن الميت لا يتلذذ ولا [ ص: 55 ] يتمتع بشيء ; فعقرت يوم الأربعاء ، فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد . وإنما أقاموا ثلاثة أيام ; لأن الفصيل رغا ثلاثا على ما تقدم في " الأعراف " فاصفرت ألوانهم في اليوم الأول ، ثم احمرت في الثاني ، ثم اسودت في الثالث ، وهلكوا في الرابع ; وقد تقدم في " الأعراف " .

الثانية : استدل علماؤنا بإرجاء الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أن المسافر إذا لم يجمع على إقامة أربع ليال قصر ; لأن الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة وقد تقدم في " النساء " ما للعلماء في هذا .

قوله تعالى : ذلك وعد غير مكذوب أي غير كذب . وقيل : غير مكذوب فيه .

قوله تعالى : فلما جاء أمرنا أي عذابنا .

نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا تقدم . ومن خزي يومئذ أي ونجيناهم من خزي يومئذ ; أي من فضيحته وذلته . وقيل : الواو زائدة ; أي نجيناهم من خزي يومئذ . ولا يجوز زيادتها عند سيبويه وأهل البصرة . وعند الكوفيين يجوز زيادتها مع " لما " و " حتى " لا غير . وقرأ نافع والكسائي يومئذ بالنصب . الباقون بالكسر على إضافة يوم إلى إذ وقال أبو حاتم : حدثنا أبو زيد عن أبي عمرو أنه قرأ ومن خزي يومئذ أدغم الياء في الياء ، وأضاف ، وكسر الميم في يومئذ . قال النحاس : الذي يرويه النحويون : مثل سيبويه ومن قاربه عن أبي عمرو في مثل هذا : الإخفاء ; فأما الإدغام فلا يجوز ; لأنه يلتقي ساكنان ، ولا يجوز كسر الزاي .

قوله تعالى : وأخذ الذين ظلموا الصيحة أي في اليوم الرابع صيح بهم فماتوا ; وذكر لأن الصيحة والصياح واحد . قيل : صيحة جبريل . وقيل : صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة ; وصوت كل شيء في الأرض ، فتقطعت قلوبهم وماتوا . وقال هنا : وأخذ الذين ظلموا الصيحة وقال في الأعراف فأخذتهم الرجفة وقد تقدم بيانه هناك . وفي التفسير : أنهم لما أيقنوا بالعذاب قال بعضهم لبعض ما مقامكم أن يأتيكم الأمر بغتة ؟ ! قالوا : فما نصنع ؟ فأخذوا سيوفهم ورماحهم وعددهم ، وكانوا فيما يقال اثني عشر ألف قبيلة ، في كل قبيلة اثنا عشر ألف مقاتل ، فوقفوا على الطرق والفجاج ، زعموا يلاقون العذاب ; فأوحى الله تعالى إلى الملك الموكل بالشمس أن يعذبهم بحرها ; فأدناها من رءوسهم فاشتوت أيديهم ، وتدلت ألسنتهم على صدورهم من العطش ، ومات كل ما كان معهم من البهائم . وجعل الماء [ ص: 56 ] يتفور من تلك العيون من غليانه حتى يبلغ السماء ، لا يسقط على شيء إلا أهلكه من شدة حره ، فما زالوا كذلك ، وأوحى الله إلى ملك الموت ألا يقبض أرواحهم تعذيبا لهم إلى أن غربت الشمس ; فصيح بهم فأهلكوا .

فأصبحوا في ديارهم جاثمين أي ساقطين على وجوههم ، قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت .

ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود تقدم معناه .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 50.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 50.32 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.23%)]