عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 16-12-2024, 04:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,734
الدولة : Egypt
افتراضي تفسير سورة يونس (الحلقة السابعة) ثلاث حقائق من الإيمان بدونها ينتقض

تفسير السور الْمِئين من كتاب رب العالمين

تفسير سورة يونس (الحلقة السابعة)

ثلاث حقائق من الإيمان بدونها يَنْتَقِضُ

الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي


بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه.

قال الله تعالى: ﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ * وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يونس: 46 - 56].

قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، فوصف رسوله صلى الله عليه وسلم بما خلقه عليه من الرأفة والرحمة؛ وقال صلى الله عليه وسلم: ((أَقِرُّوا الطَّيرَ على مَكِناتها))[1]، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ((كنَّا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، فانْطَلَقَ لحَاجَتِهِ، فَرَأيْنَا حُمَّرَةً[2] مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءتِ الحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَعْرِشُ[3]، فَجَاءَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ فَجَعَ هذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْها، ورأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا، فَقَالَ: مَنْ حَرَّقَ هذِهِ؟ قُلْنَا: نَحْنُ، قَالَ: إنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يُعَذِّبَ بالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ))[4]، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما جَبَلَهُ عليه ربُّه تعالى من الرأفة والرحمة، وهما صفتان تقتضيان فيمن اتصف بهما أقصى درجات الرِّقة والرِّفق والإحسان، وإن نفسًا هذه سَجِيَّتُها لَحَرِيَّةٌ بأن تكون أقوى شعورًا بالمسؤولية، وأحسنَ قيامًا بها، ولأنه عليه السلام كان من أعلم الرسل بوعد الله ووعيده، وأرجاهم لرضاه ورحمته، وأخشاهم لغضبه وعقابه، وأشدهم حرصًا على هداية الناس، وتبليغهم رسالة ربهم تعالى، وأعْلَمِهم بطبيعة رسالته؛ وقد قال له ربه سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، فقد خصَّ ليلَه ونهاره لِما بُعِثَ به، يبلِّغه لقومه ألطفَ تبليغ وأحسنَه، فيسأل عن أحوالهم، ويشاركهم مشاعرهم، فترتاح نفسه لمن اقترب من رحمة الله التي أُرسِل بها، ونَهَلَ من مَعِينها، ويفرح لغضارة الإيمان فيمن آمن أشدَّ الفرح، ويحزن لكريهة الإعراض فيمن أعرض أشدَّ الحزن، والله تعالى يُصبِّره كلما آذاه المشركون أو كذَّبوه؛ فيقول له مرةً: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 127، 128]، ويقول له أخرى: ﴿ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [النحل: 37]، ويضرب له المثل بصبرِ مَن سَبَقَهُ من الرسل؛ بقوله تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الأحقاف: 35]، حتى إذا رأى الحقُّ تعالى شدةَ استعجاله نتائجَ دعوته، واستبطائه إيمانَ مَنْ حوله مِن المشركين، وحزنه وأسفه لإعراضهم، وغفلتهم عما ينتظرهم في الآخرة من خَسارٍ؛ وقد قال عنهم تعالى: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [يونس: 45]، هدَّأ عز وجل من رُوعِه[5]، مذكِّرًا بواجب التأني وعدم ترقُّب النتائج قبل أوانها، ومبينًا أن ذلك ليس من شأنه أو قدرته، وإنما هو من أمره تعالى؛ بقوله عز وجل: ﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ﴾ [يونس: 46].

وقوله تعالى: ﴿ وَإِمَّا ﴾ [يونس: 46]، مكونة من "إنْ" الشرطية، مدغمةً في "ما" الزائدة، أصلها "إن نُرِكَ" وزيدت "ما" في حرف الشرط "إن" ونون التوكيد في فعله ﴿ نُرِيَنَّكَ ﴾ [يونس: 46]، فكان توكيدًا مزدوجًا لمعنى الآية الكريمة، و"نرينك" فعل الشرط مضارع مبني على الفتح في محل جزم لاتصاله بنون التوكيد، والفاعل ضمير مستتر يعود لاسم الجلالة سبحانه، والكاف مفعول به، ﴿ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ﴾ [يونس: 46]، و"بعض" مفعول ثانٍ، و"الذي" مضاف إليه، وجملة "نعدهم" صلة؛ أي: وإما أن نعجِّل لهم في الدنيا أمام عينك وبحضورك بعضَ ما توعَّدناهم به مما يستحقونه من العقاب؛ قتلًا أو أسرًا، أو تشريدًا وخِذلانًا وإهانةً، مثلما عُوقبت به الأمم الكافرة من قبلُ أمام أعيُنِ أنبيائها، فترى ذلك وتشهد عليه، ﴿ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ﴾ [يونس: 46]، وإما أن يتأخر وقوع العذاب الدنيوي فيهم إلى ما بعد وفاتك، أو إلى يوم القيامة، فتشهد عليهم حينئذٍ وترى مصيرهم وعذابهم، ﴿ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ﴾ [يونس: 46]، من السوء أعمالًا وأقوالًا، ومرجعهم دائمًا إلى الله تعالى في حياتك وبعد مماتك، لا يخفى عليه حالهم، يعلم سرهم وعلانيتهم.

لقد كانت هذه الآية الكريمة تَطْمِينًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسكينًا لنفسه الحريصة على إيمان المشركين، والحزينة لاستعصاء بعضهم وإصرارهم على الكفر، وَرَدَت في المدة المكية ثلاثَ مراتٍ؛ لتكشف مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على أداء رسالته، وصبره على لَأْوَاءِ التبليغ، وألمه لإعراض المشركين وشدة عداوتهم له، وردت أولًا في هذه الكريمة من سورة يونس عليه السلام، ثم وردت بسياق آخرَ في سورتين مكيتين أُخْرَيين؛ أُولاهما قوله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ [غافر: 77]؛ أي: فَاصْبِرْ - يا محمدُ - على ما تلاقيه من قومك؛ فإن بعض ما نتوعدهم به من الهلاك في الدنيا حقٌّ، إما أن ينزل بهم في حياتك فتراه، أو بعد مماتك فتشهد عليهم به في الآخرة، إذ يُبعَثون ويُحشَرون للحساب والعقاب، والثانية في قوله تعالى له صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [الرعد: 40]؛ أي: لا تحزن لإعراضهم، ولا تهتمَّ بتكذيبهم؛ لأن إلينا مصيرَهم، وعلينا حسابَهم، وبِيَدِنا ما استعجلوه من العذاب، فأَقْبِلْ على القيام بما أُمِرْتَ به من تبليغ رسالة الله، ولا تحفِل بأحد منهم؛ فإن سُنَّةَ الله في الخَلْقِ والاختبار والمجازاة بالجنة والنار سارية، وسُنَّتُه تعالى في إرسال الرسل إلى الأمم ماضية: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ﴾ [يونس: 47]، وكلمة ﴿ أُمَّةٍ ﴾ [يونس: 47]، لغةً - كما قال ابن فارس في معجمه - من: أمَّ يؤُم، أصلٌ واحد يتفرع منه أربعة أبواب؛ هي: الأصل، والمرجع، والجماعة، والدِّين، فكلُّ تجمُّعٍ حول أصل واحد أو عِرق واحد، أو وطن واحد أو دين واحد يُعَدُّ أُمَّةً؛ قال الخليل: "كلُّ شيء يُضَمُّ إليه ما سواه مما يليه، فإن العرب تُسمِّيه أُمَّة"، والأمة مطلقًا هي كل تجمُّع سكاني متآلِفٍ في بقعة من الأرض؛ لذلك فالأصل في الاجتماع الإنساني أنه كان أُمَّةً واحدة، نشأت من أول ذرية لآدم عليه السلام، متآلفة على أصل واحد، ودين واحد؛ هو الإسلام، ثم تاه بعضهم في مسارب الشيطان فاختلفوا وتباعدوا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ﴾ [يونس: 19]، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال: ((إني خلقتُ عبادي حنفاءَ، فاجتالَتْهُمُ الشياطينُ فحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانًا))، بذلك تفرَّقتِ البشرية أممًا، فبعث الله تعالى لكل أمة رسولًا؛ قال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [النحل: 36]، ووضع لهم بذلك معالم طريقٍ للهدى يهتدون بها، وموازينَ للقسط يعيشون بها، ويُقضَى فيما بينهم بها في الدنيا، ويُحكم عليهم بها في الآخرة، ﴿ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ ﴾ [يونس: 47]، ومجيء كل رسول لقومه مرتان؛ مجيء في الدنيا، ومجيء في الآخرة، أما في الدنيا فلتبليغ رسالة الله، وإقامة الحُجَّة بشارةً ونِذارةً؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال عز وجل: ﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون: 44]، وأما مجيئه في الآخرة فعند البعث؛ إذ يُجاء بالأنبياء كي يحضُرَ كلُّ واحد منهم حسابَ قومه، ويشهد لهم أو عليهم؛ قال تعالى: ﴿ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ [الزمر: 69، 70]، وقال تعالى عن شهادة محمد صلى الله عليه وسلم على قومه: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 41، 42]، وفي كلتا حالَيْ مجيء الرسل أقوامَهم يكون لأمر جَلَلٍ، تَنْبَنِي عليه أحكامٌ لها أثرها الدائم في حياة كل فرد؛ إقامةً للحُجَّةِ بالتبليغ في الدنيا، وشهادة عليهم في الآخرة يوم الحشر، ﴿ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ ﴾ [يونس: 47]، الذي أُرسِل إليهم في الدنيا يوم حشرهم في الآخرة، وشهِد عليهم بالإيمان أو الكفر، ﴿ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ﴾ [يونس: 47]، والفعل ﴿ قُضِيَ ﴾ يدل على إحكامِ أمرٍ ما، وإتقانه وإنفاذه؛ قال تعالى: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ [فصلت: 12]؛ أي: خلقَهُنَّ وأحْكَمَ خلقَهُنَّ، والقضاء الحُكْمُ؛ كما في قوله تعالى: ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72]، والقِسط لغة بكسر القاف في هذا السياق هو العدل؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة: 42]، وفي سياق آخر يكون القِسط بمعنى النصيب، ومنه يُقال: تقسَّطنا الشيءَ بيننا، فأخذ كل واحد قسطًا؛ أي: نصيبًا، أما بفتح القاف فهو الجَور والظلم؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴾ [الجن: 14، 15]، وقضاء الله في الناس بالقِسط في الدنيا هو تبليغهم جميعًا رسالةَ ربهم تامةً كاملة، والفصل في مخالفاتهم ومنازعاتهم بالعدل؛ قال تعالى: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴾ [ص: 21، 22]، وقال: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105]، والرسل بذلك قضاةُ عدلٍ وقسط في تبليغ الناس رسالةَ ربهم في الدنيا، وتربيتهم بها، وتعليمهم كيفية العمل والحكم بها، أما يوم القيامة فيُقضى في الناس وبينهم بشهادة أنبيائهم عليهم؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 109]، وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]، وقال سبحانه: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، وقال لرسوله عيسى بن مريم عليه السلام: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 116]، فإذا حَكَمَ تعالى بين عباده يوم الحشر كان حكمه بعدلٍ، ينجو به الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويَهلِك به المكذِّبون.

إن الإيمان بالبعث والحساب والجزاء حقٌّ من حقوق الله على العباد، من أنكره فلا حظَّ له في الإسلام، ولكنه تعالى أحاطه بشروطٍ وضوابطَ ألزم نفسه بها قسطًا منه وعدلًا، ومن القسط أنه تعالى لا يُحاسِب أمة إلا إذا أرسل إليها رسولًا بالهدى ودين الحق، فإن أجابت حكم لها بالجنة، وإن أعرضت كان لزامًا معاقبتها بالقسط؛ قال تعالى: ﴿ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]؛ ولذلك عقَّب سبحانه بقوله تعالى: ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [يونس: 47]، لا يُظلَمون في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن الله أعذر إليهم في الدنيا، وأقام لهم الأدلة والبينات، ووضَّح لهم الطريق، وفي الآخرة لم تبقَ لهم حُجَّةٌ بعد شهادة رُسُلهم عليهم؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [الإسراء: 71]، وقال عز وجل: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17]، لا يُظلَمون في الدنيا بعدم تبليغهم رسالة ربهم كاملة بيِّنة واضحة، ولا يُظلمون في الآخرة بحساب حسناتهم وسيئاتهم، أو بتقدير جزائهم عدلًا وقسطًا، جنَّةً أو نارًا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ﴾ [الانشقاق: 6 – 11].

وبالتفاتٍ بيانيٍّ يخاطب الحق تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم مندِّدًا بما يقوله المشركون فيما بينهم؛ تكذيبًا منهم للقرآن، واستعجالًا ساخرًا بما حُذِّروا منه، واستبعادًا لِما أُخبروا باحتمال وقوعه؛ فيقول سبحانه: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 48]؛ أي: متى يقع ما حذرتنا منه وخوفَّتنا من وقوعه؟ ويعنُون بسؤالهم الساخر هذا الردَّ على قوله تعالى في الآيات الثلاثة السابقة: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَار... ﴾ [يونس: 45]، وقوله عز وجل: ﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ... ﴾ [يونس: 46]، وقوله عز وجل: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْط ﴾ [يونس: 47]، فيُلقِّنه الحق تعالى الردَّ على أسئلتهم المتشنجة هذه بما يهدِّئ روعهم، ويردُّهم إلى صواب السمع وسلامة الاستيعاب؛ بقوله سبحانه: ﴿ قُلْ ﴾ [يونس: 49]، لهم يا محمد: ﴿ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ﴾ [يونس: 49]، ليس لي قدرة على مجرد دفع الضرر عن نفسي أو عن غيري، ولا على جلب النفع لنفسي أو لغيري، ﴿ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ [يونس: 49]، إلا إذا شاء الله لي أو لأحد نفعًا أو ضررًا، بيدي أو على يدي، فيُقدرني عليه، ﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ [يونس: 49]، أنتم يا معشرَ مشركي قريش من جملة أمم الأرض، وكل أمة كتب الله لِما ينفعها أو يضرها، ولبقائها أو فنائها أجَلًا، ﴿ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ﴾ [يونس: 49]، الذي وُقِّت لهم، ﴿ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ﴾ [يونس: 49]، عن الموعد الذي أُجِّل لهم، ﴿ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [يونس: 49]، ساعة عنه، فلا تستعجلوا ما أُنذِرتموه، ولا تستبطئوا ما حُذِّرتموه؛ فإن الله تعالى لا يعجِّل لعجلةِ أَحَدٍ، أو يبطِّئها لتبطئة أحدٍ؛ وقد قال: ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [يونس: 11]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [النحل: 61]، وفي الصحيح عن ابن مسعود قال) قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: اللَّهُمَّ بَارِكَ لِي فِي زَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَأَخِي مُعَاوِيَةَ، فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ عَنْ آجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَآثَارٍ مَبْلُوغَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَا يُعَجَّلُ مِنْهَا شَيْءٌ قَبْلَ حلِّهِ، فَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ أَوْ عَذَابِ الْقَبْرِ، كَانَ خَيْرًا))[6].

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.37 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.90%)]