
تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع
تَفْسِيرِ سُّورَةِ المائدة
الحلقة (525)
صــ 461 إلى صــ 475
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما تظاهر به تأويل [ ص: 461 ] أهل التأويل في قوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام " ، من أنها الأنعام وأجنتها وسخالها ، وعلى دلالة ظاهر التنزيل قول من قال : معنى ذلك : أوفوا بالعقود ، غير محلي الصيد وأنتم حرم ، فقد أحلت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم ، إلا ما يتلى عليكم تحريمه من الميتة منها والدم ، وما أهل لغير الله به .
وذلك أن قوله : "إلا ما يتلى عليكم" ، لو كان معناه : "إلا الصيد" ، لقيل : "إلا ما يتلى عليكم من الصيد غير محليه" . وفي ترك الله وصل قوله : "إلا ما يتلى عليكم" بما ذكرت ، وإظهار ذكر الصيد في قوله : "غير محلي الصيد" ، أوضح الدليل على أن قوله : "إلا ما يتلى عليكم" ، خبر متناهية قصته ، وأن معنى قوله : " غير محلي الصيد " ، منفصل منه .
وكذلك لو كان قوله : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) ، مقصودا به قصد الوحش ، لم يكن أيضا لإعادة ذكر الصيد في قوله : "غير محلي الصيد" وجه ، وقد مضى ذكره قبل ، ولقيل : " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محليه وأنتم حرم " . وفي إظهاره ذكر الصيد في قوله : "غير محلي الصيد" ، أبين الدلالة على صحة ما قلنا في معنى ذلك .
فإن قال قائل : فإن العرب ربما أظهرت ذكر الشيء باسمه وقد جرى ذكره باسمه ؟ قيل : ذلك من فعلها ضرورة شعر ، وليس ذلك بالفصيح المستعمل من كلامهم . وتوجيه كلام الله إلى الأفصح من لغات من نزل كلامه بلغته ، أولى ما وجد إلى ذلك سبيل من صرفه إلى غير ذلك .
قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذا : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم مما حرم وأحل ، لا محلين الصيد في حرمكم ، ففيما أحل لكم من بهيمة الأنعام المذكاة دون ميتتها ، متسع لكم ومستغنى عن الصيد في حال إحرامكم .
[ ص: 462 ] القول في تأويل قوله ( إن الله يحكم ما يريد ( 1 ) )
قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله ، وتحريم ما أراد تحريمه ، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم ، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه فأوفوا ، أيها المؤمنون ، له بما عقد عليكم من تحليل ما أحل لكم وتحريم ما حرم عليكم ، وغير ذلك من عقوده ، فلا تنكثوها ولا تنقضوها . كما : -
10937 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "إن الله يحكم ما يريد" ، إن الله يحكم ما أراد في خلقه ، وبين لعباده ، وفرض فرائضه ، وحد حدوده ، وأمر بطاعته ، ونهى عن معصيته .
القول في تأويل قوله ( ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى قول الله : " لا تحلوا شعائر الله " .
فقال بعضهم معناه : لا تحلوا حرمات الله ، ولا تتعدوا حدوده كأنهم وجهوا"الشعائر" إلى المعالم ، وتأولوا"لا تحلوا شعائر الله" ، معالم حدود الله ، وأمره ونهيه وفرائضه .
[ ذكر من قال ذلك ] :
10938 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال : حدثنا حبيب المعلم ، عن عطاء : أنه سئل عن"شعائر الله" فقال : حرمات الله ، اجتناب سخط الله ، واتباع طاعته ، فذلك"شعائر الله" .
[ ص: 463 ]
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تحلوا حرم الله فكأنهم وجهوا معنى قوله : "شعائر الله" ، أي : معالم حرم الله من البلاد .
ذكر من قال ذلك :
10939 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" ، قال : أما"شعائر الله" ، فحرم الله .
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تحلوا مناسك الحج فتضيعوها وكأنهم وجهوا تأويل ذلك إلى : لا تحلوا معالم حدود الله التي حدها لكم في حجكم .
ذكر من قال ذلك :
10940 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس قوله : "لا تحلوا شعائر الله" ، قال : مناسك الحج .
10941 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثنا معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" ، قال : كان المشركون يحجون البيت الحرام ، ويهدون الهدايا ، ويعظمون حرمة المشاعر ، ويتجرون في حجهم ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فقال الله عز وجل : "لا تحلوا شعائر الله" .
10942 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "شعائر الله" ، الصفا والمروة ، والهدي ، والبدن ، كل هذا من"شعائر الله" . [ ص: 464 ]
10943 - حدثني المثنى قال : حدثني أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : معنى ذلك : لا تحلوا ما حرم الله عليكم في حال إحرامكم .
ذكر من قال ذلك :
10944 - حدثنا محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "لا تحلوا شعائر الله" ، قال : "شعائر الله" ، ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرم .
وكأن الذين قالوا هذه المقالة ، وجهوا تأويل ذلك إلى : لا تحلوا معالم حدود الله التي حرمها عليكم في إحرامكم .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بقوله : "لا تحلوا شعائر الله" ، قول عطاء الذي ذكرناه من توجيهه معنى ذلك إلى : لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه .
لأن"الشعائر" جمع"شعيرة" ، "والشعيرة""فعيلة" من قول القائل : "قد شعر فلان بهذا الأمر" ، إذا علم به . ف"الشعائر" ، المعالم ، من ذلك .
وإذا كان ذلك كذلك ، كان معنى الكلام : لا تستحلوا ، أيها الذين آمنوا ، معالم الله فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحج : من تحريم ما حرم الله إصابته فيها على المحرم ، وتضييع ما نهى عن تضييعه فيها ، وفيما حرم من استحلال حرمات حرمه ، وغير ذلك من حدوده وفرائضه ، وحلاله وحرامه ، لأن [ ص: 465 ] كل ذلك من معالمه وشعائره التي جعلها أمارات بين الحق والباطل ، يعلم بها حلاله وحرامه ، وأمره ونهيه .
وإنما قلنا ذلك القول أولى بتأويل قوله تعالى : "لا تحلوا شعائر الله" ، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها نهيا عاما ، من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء ، فلم يجز لأحد أن يوجه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها ، ولا حجة بذلك كذلك .
القول في تأويل قوله ( ولا الشهر الحرام )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "ولا الشهر الحرام" ، ولا تستحلوا الشهر الحرام بقتالكم فيه أعداءكم من المشركين وهو كقوله : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) [ سورة البقرة : 217 ] .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن عباس وغيره .
ذكر من قال ذلك :
10945 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "ولا الشهر الحرام" ، يعني : لا تستحلوا قتالا فيه .
10946 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت .
[ ص: 466 ]
وأما"الشهر الحرام" الذي عناه الله بقوله : "ولا الشهر الحرام" ، فرجب مضر ، وهو شهر كانت مضر تحرم فيه القتال .
وقد قيل : هو في هذا الموضع"ذو القعدة" .
ذكر من قال ذلك :
10947 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قال : هو ذو القعدة .
وقد بينا الدلالة على صحة ما قلنا في ذلك فيما مضى ، وذلك في تأويل قوله : " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه " .
القول في تأويل قوله ( ولا الهدي ولا القلائد )
قال أبو جعفر : "أما الهدي" ، فهو ما أهداه المرء من بعير أو بقرة أو شاة أو غير ذلك ، إلى بيت الله ، تقربا به إلى الله ، وطلب ثوابه .
يقول الله عز وجل : فلا تستحلوا ذلك ، فتغصبوه أهله غلبة ولا تحولوا بينهم وبين ما أهدوا من ذلك أن يبلغوا به المحل الذي جعله الله جل وعز محله من كعبته .
[ ص: 467 ]
وقد روي عن ابن عباس أن"الهدي" إنما يكون هديا ما لم يقلد .
10948 - حدثني بذلك محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "ولا الهدي" ، قال : الهدي ما لم يقلد ، وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلده .
وأما قوله : "ولا القلائد" ، فإنه يعني : ولا تحلوا أيضا القلائد .
ثم اختلف أهل التأويل في"القلائد" التي نهى الله عز وجل عن إحلالها .
فقال بعضهم : عنى ب "القلائد" ، قلائد الهدي . وقالوا : إنما أراد الله جل وعز بقوله : "ولا الهدي ولا القلائد" ، ولا تحلوا الهدايا المقلدات منها وغير المقلدات . فقوله : "ولا الهدي" ، ما لم يقلد من الهدايا "ولا القلائد" ، المقلد منها . قالوا : ودل بقوله : "ولا القلائد" ، على معنى ما أراد من النهي عن استحلال الهدايا المقلدة .
ذكر من قال ذلك :
10949 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "ولا القلائد" ، القلائد ، مقلدات الهدي . وإذا قلد الرجل هديه فقد أحرم . فإن فعل ذلك وعليه قميصه ، فليخلعه .
وقال آخرون : يعني بذلك : القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة ، من لحاء السمر وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها ، من الشعر .
[ ص: 468 ]
ذكر من قال ذلك :
10950 - حدثني الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" ، قال : كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج ، تقلد من السمر ، فلم يعرض له أحد . فإذا رجع تقلد قلادة شعر ، فلم يعرض له أحد .
وقال آخرون : بل كان الرجل منهم يتقلد إذا أراد الخروج من الحرم ، أو خرج من لحاء شجر الحرم ، فيأمن بذلك من سائر قبائل العرب أن يعرضوا له بسوء .
ذكر من قال ذلك :
10951 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن مالك بن مغول ، عن عطاء : "ولا القلائد" ، قال : كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم ، يأمنون بذلك إذا خرجوا من الحرم ، فنزلت : "لا تحلوا شعائر الله" ، الآية ، "ولا الهدي ولا القلائد" .
10952 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "ولا القلائد" ، قال : "القلائد" ، اللحاء في رقاب الناس والبهائم ، أمن لهم .
10953 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
10954 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : "ولا الهدي ولا القلائد" ، قال : إن العرب كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة ، فيقيم الرجل بمكانه ، حتى إذا انقضت الأشهر الحرم ، فأراد أن يرجع إلى أهله ، قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر ، فيأمن حتى يأتي أهله .
[ ص: 469 ]
10955 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "ولا القلائد" ، قال : "القلائد" ، كان الرجل يأخذ لحاء شجرة من شجر الحرم ، فيتقلدها ، ثم يذهب حيث شاء ، فيأمن بذلك . فذلك "القلائد" .
وقال آخرون : إنما نهى الله المؤمنين بقوله : "ولا القلائد" ، أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم فيتقلدوه ، كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم .
ذكر من قال ذلك :
10956 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء في قوله : "ولا الهدي ولا القلائد" ، كان المشركون يأخذون من شجر مكة ، من لحاء السمر ، فيتقلدونها ، فيأمنون بها من الناس . فنهى الله أن ينزع شجرها فيتقلد .
10957 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير ، وعنده رجل فحدثهم في قوله : "ولا القلائد" ، قال : كان المشركون يأخذون من شجر مكة ، من لحاء السمر ، فيتقلدون ، فيأمنون بها في الناس . فنهى الله عز ذكره أن ينزع شجرها فيتقلد .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل قوله : "ولا القلائد" إذ كانت معطوفة على أول الكلام ، ولم يكن في الكلام ما يدل على انقطاعها عن أوله ، ولا أنه عنى بها النهي عن التقلد أو اتخاذ القلائد من شيء أن يكون معناه : ولا تحلوا القلائد .
فإذا كان ذلك بتأويله أولى ، فمعلوم أنه نهي من الله جل ذكره عن استحلال حرمة المقلد ، هديا كان ذلك أو إنسانا ، دون حرمة القلادة . وإن الله عز ذكره ، إنما دل بتحريمه حرمة القلادة ، على ما ذكرنا من حرمة المقلد ، فاجتزأ بذكره [ ص: 470 ] "القلائد" من ذكر"المقلد" ، إذ كان مفهوما عند المخاطبين بذلك معنى ما أريد به .
فمعنى الآية إذ كان الأمر على ما وصفنا : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ، ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ، ولا المقلد نفسه بقلائد الحرم .
وقد ذكر بعض الشعراء في شعره ما ذكرنا عمن تأول "القلائد" أنها قلائد لحاء شجر الحرم الذي كان أهل الجاهلية يتقلدونه ، فقال وهو يعيب رجلين قتلا رجلين كانا تقلدا ذلك :
ألم تقتلا الحرجين إذ أعوراكما يمران بالأيدي اللحاء المضفرا
و"الحرجان" ، المقتولان كذلك . ومعنى قوله : "أعوراكما" ، أمكناكما من عورتهما .
[ ص: 471 ] القول في تأويل قوله ( ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا )
قال أبو جعفر : يعني بقوله عز ذكره : " ولا آمين البيت الحرام " ، ولا تحلوا قاصدي البيت الحرام العامديه .
تقول منه : "أممت كذا" ، إذا قصدته وعمدته ، وبعضهم يقول : "يممته" كما قال الشاعر :
إني كذاك إذا ما ساءني بلد يممت صدر بعيري غيره بلدا
" والبيت الحرام" ، بيت الله الذي بمكة ، وقد بينت فيما مضى لم قيل له "الحرام" .
" يبتغون فضلا من ربهم " ، يعني : يلتمسون أرباحا في تجاراتهم من الله [ ص: 472 ] "ورضوانا" ، يقول : وأن يرضى الله عنهم بنسكهم .
وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له : "الحطم" .
ذكر من قال ذلك :
10958 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أقبل الحطم بن هند البكري ، ثم أحد بني قيس بن ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، وخلف خيله خارجة من المدينة . فدعاه ، فقال : إلام تدعو ؟ فأخبره وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة ، يتكلم بلسان شيطان! فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال : انظر ، ولعلي أسلم ولي من أشاوره . فخرج من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بعقب غادر! فمر بسرح من سرح المدينة فساقه ، فانطلق به وهو يرتجز [ ص: 473 ]
قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر الوضم باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين ممسوح القدم
ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد وأهدى ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، فنزلت هذه الآية ، حتى بلغ : "ولا آمين البيت الحرام" . قال له ناس من أصحابه : يا رسول الله ، خل بيننا وبينه ، فإنه صاحبنا! قال : إنه قد قلد! قالوا : إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية! فأبى عليهم ، فنزلت هذه الآية .
10959 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قال : قدم الحطم ، أخو بني ضبيعة بن ثعلبة البكري ، المدينة في عير له يحمل طعاما ، فباعه . ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 474 ] فبايعه وأسلم . فلما ولى خارجا ، نظر إليه فقال لمن عنده : لقد دخل علي بوجه فاجر ، وولى بقفا غادر! فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام ، وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة . فلما سمع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقتطعوه في عيره ، فأنزل الله عز وجل : "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" ، الآية ، فانتهى القوم .
قال ابن جريج قوله : "ولا آمين البيت الحرام" ، قال : ينهى عن الحجاج أن تقطع سبلهم . قال : وذلك أن الحطم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ليرتاد وينظر ، فقال : إني داعية قوم فاعرض علي ما تقول . قال له : أدعوك إلى الله أن تعبده ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم شهر رمضان ، وتحج البيت . قال الحطم : في أمرك هذا غلظة ، أرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت ، فإن قبلوه أقبلت معهم ، وإن أدبروا كنت معهم . قال له : ارجع . فلما خرج قال : لقد دخل علي بوجه كافر ، وخرج من عندي بعقبي غادر ، وما الرجل بمسلم ! فمر على سرح لأهل المدينة فانطلق به ، فطلبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاتهم ، وقدم اليمامة ، وحضر الحج ، فجهز خارجا ، وكان عظيم التجارة ، فاستأذنوا أن يتلقوه ويأخذوا ما معه ، فأنزل الله عز وجل : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام" .
10960 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "ولا آمين البيت الحرام" الآية ، قال : هذا يوم الفتح ، جاء ناس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة ، فقال المسلمون : يا رسول الله ، إنما هؤلاء مشركون كمثل هؤلاء فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم . فنزل القرآن : "ولا آمين البيت الحرام " .
10961 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي [ ص: 475 ] قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "ولا آمين البيت الحرام" ، يقول : من توجه حاجا .
10962 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : "ولا آمين البيت الحرام" ، يعني : الحاج .
10963 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير وعنده رجل ، فحدثهم فقال : " ولا آمين البيت الحرام " ، قال : الذين يريدون البيت .
ثم اختلف أهل العلم فيما نسخ من هذه الآية ، بعد إجماعهم على أن منها منسوخا .
فقال بعضهم : نسخ جميعها .
ذكر من قال ذلك :
10964 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير ، عن بيان ، عن عامر ، قال : لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية : " لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد " .
10965 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " ، نسختها ، ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، [ سورة التوبة : 5 ] .
