
13-12-2024, 04:26 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,408
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد
 تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء التاسع
تَفْسِيرِ سُّورَةِ النِّسَاءُ
الحلقة (516)
صــ 321 إلى صــ 335
وفي هذه الآية ، الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع ، من المبتدعة والفسقة ، عند خوضهم في باطلهم .
وبنحو ذلك كان جماعة من الأئمة الماضين يقولون ، تأولا منهم هذه الآية أنه مراد بها النهي عن مشاهدة كل باطل عند خوض أهله فيه .
ذكر من قال ذلك :
10708 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبي وائل ، قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكذب ليضحك بها جلساءه ، فيسخط الله عليهم . قال : فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي ، فقال : صدق أبو وائل ، أو ليس ذلك في كتاب الله : " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم " ؟
10709 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن العلاء بن المنهال ، عن هشام بن عروة قال : أخذ عمر بن عبد العزيز قوما على شراب فضربهم ، وفيهم صائم ، فقالوا : إن هذا صائم! فتلا" فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم " .
10710 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها " ، وقوله : ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، [ سورة الأنعام : 153 ] ، وقوله : ( أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) [ سورة الشورى : 13 ] ، ونحو هذا من القرآن . قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف [ ص: 322 ] والفرقة ، وأخبرهم : إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله .
وقوله : " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " ، يقول : إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار ، فموفق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه ، كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين ، وتوازروا على التخذيل عن دين الله وعن الذي ارتضاه وأمر به وأهله .
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " وقد نزل عليكم في الكتاب " .
فقرأ ذلك عامة القرأة بضم "النون" وتثقيل"الزاي" وتشديدها ، على وجه ما لم يسم فاعله .
وقرأ بعض الكوفيين بفتح"النون" وتشديد"الزاي" ، على معنى : وقد نزل الله عليكم .
وقرأ بعض المكيين : ( وقد نزل عليكم ) بفتح "النون" ، وتخفيف"الزاي" ، بمعنى : وقد جاءكم من الله أن إذا سمعتم .
قال أبو جعفر : وليس في هذه القراءات الثلاث وجه يبعد معناه مما يحتمله الكلام . غير أن الذي أختار القراءة به ، قراءة من قرأ : ( وقد نزل ) بضم "النون" وتشديد "الزاي" ، على وجه ما لم يسم فاعله . لأن معنى الكلام فيه التقديم على ما وصفت قبل ، على معنى : " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين "" وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها " إلى قوله : "حديث غيره" " أيبتغون عندهم العزة " . فقوله : " فإن العزة لله جميعا " ، يعني التأخير ، [ ص: 323 ] فلذلك كان ضم "النون" من قوله : "نزل" أصوب عندنا في هذا الموضع .
وكذلك اختلفوا في قراءة قوله " والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل " .
فقرأه بفتح ( نزل ) و ( أنزل ) أكثر القرأة ، بمعنى : والكتاب الذي نزل الله على رسوله ، والكتاب الذي أنزل من قبل .
وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة بضمه في الحرفين كليهما ، بمعنى ما لم يسم فاعله .
وهما متقاربتا المعنى . غير أن الفتح في ذلك أعجب إلي من الضم ، لأن ذكر الله قد جرى قبل ذلك في قوله : " آمنوا بالله ورسوله " .
القول في تأويل قوله ( الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ( 141 ) )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " الذين يتربصون بكم " ، الذين ينتظرون ، أيها المؤمنون ، بكم" فإن كان لكم فتح من الله " ، يعني : فإن فتح الله [ ص: 324 ] عليكم فتحا من عدوكم ، فأفاء عليكم فيئا من المغانم"قالوا" لكم"ألم نكن معكم" ، نجاهد عدوكم ونغزوهم معكم ، فأعطونا نصيبا من الغنيمة ، فإنا قد شهدنا القتال معكم" وإن كان للكافرين نصيب " ، يعني : وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظ منكم ، بإصابتهم منكم "قالوا" ، يعني : قال هؤلاء المنافقون للكافرين" ألم نستحوذ عليكم " ، ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين"ونمنعكم" منهم ، بتخذيلنا إياهم ، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا"فالله يحكم بينكم يوم القيامة " ، يعني : فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة ، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل ، بإدخال أهل الإيمان جنته ، وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار ناره" ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، يعني : حجة يوم القيامة .
وذلك وعد من الله المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة ، ولا المؤمنين مدخل المنافقين ، فيكون بذلك للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم ، إن أدخلوا مدخلهم : ها أنتم كنتم في الدنيا أعداءنا ، وكان المنافقون أولياءنا ، وقد اجتمعتم في النار ، فجمع بينكم وبين أوليائنا! فأين الذين كنتم تزعمون أنكم تقاتلوننا من أجله في الدنيا ؟ فذلك هو"السبيل" الذي وعد الله المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
10711 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " فإن كان لكم فتح من الله " . قال : المنافقون يتربصون بالمسلمين" فإن كان لكم فتح " ، قال : إن أصاب المسلمون من عدوهم غنيمة [ ص: 325 ] قال المنافقون : " ألم نكن معكم " ، قد كنا معكم فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون"وإن كان للكافرين نصيب" ، يصيبونه من المسلمين ، قال المنافقون للكافرين : " ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين " ، قد كنا نثبطهم عنكم .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " ألم نستحوذ عليكم " .
فقال بعضهم : معناه : ألم نغلب عليكم .
ذكر من قال ذلك :
10712 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " ألم نستحوذ عليكم " ، قال : نغلب عليكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : ألم نبين لكم أنا معكم على ما أنتم عليه .
ذكر من قال ذلك :
10713 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : " ألم نستحوذ عليكم " ، ألم نبين لكم أنا معكم على ما أنتم عليه .
قال أبو جعفر : وهذان القولان متقاربا المعنى . وذلك أن من تأوله بمعنى : "ألم نبين لكم" ، إنما أراد - إن شاء الله - : ألم نغلب عليكم بما كان منا من البيان لكم أنا معكم .
وأصل "إلاستحواذ" في كلام العرب ، فيما بلغنا ، الغلبة ، ومنه قول الله جل ثناؤه : ( استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ) ، [ سورة المجادلة : 19 ] ، بمعنى : غلب عليهم . يقال منه : "حاذ عليه واستحاذ ، يحيذ ويستحيذ ، وأحاذ [ ص: 326 ] يحيذ" . ومن لغة من قال : "حاذ" ، قول العجاج في صفة ثور وكلب :
يحوذهن وله حوذي
وقد أنشد بعضهم :
يحوزهن وله حوزي
وهما متقاربا المعنى . ومن لغة من قال"أحاذ" ، قول لبيد في صفة عير وأتن :
إذا اجتمعت وأحوذ جانبيها وأوردها على عوج طوال
يعني بقوله : "وأحوذ جانبيها" ، غلبها وقهرها حتى حاذ كلا جانبيها ، فلم يشذ منها شيء .
وكان القياس في قوله : ( استحوذ عليهم الشيطان ) أن يأتي : "استحاذ عليهم" ، لأن"الواو" إذا كانت عين الفعل وكانت متحركة بالفتح وما قبلها ساكن ، جعلت العرب حركتها في"فاء" الفعل قبلها ، وحولوها"ألفا" ، متبعة حركة ما قبلها ، كقولهم : "استحال هذا الشيء عما كان عليه" ، من"حال يحول" و"استنار [ ص: 327 ] فلان بنور الله" ، من"النور" و"استعاذ بالله" من"عاذ يعوذ" . وربما تركوا ذلك على أصله كما قال لبيد : "وأحوذ" ، ولم يقل"وأحاذ" ، وبهذه اللغة جاء القرآن في قوله : ( استحوذ عليهم الشيطان ) .
وأما قوله : " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، فلا خلاف بينهم في أن معناه : ولن يجعل الله للكافرين يومئذ على المؤمنين سبيلا .
ذكر الخبر عمن قال ذلك :
10714 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن ذر ، عن يسيع الحضرمي قال : كنت عند علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، أرأيت قول الله : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون ؟ قال له علي : ادنه ، ادنه! ثم قال : " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، يوم القيامة .
10715 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن ذر ، عن يسيع الكندي في قوله : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : كيف هذه الآية : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ؟ فقال علي : ادنه ، " فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله " ، يوم القيامة ، " للكافرين على المؤمنين سبيلا " .
10716 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن ذر ، عن يسيع الحضرمي ، عن علي بنحوه .
10717 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا غندر ، عن شعبة قال : سمعت [ ص: 328 ] سليمان يحدث ، عن ذر ، عن رجل ، عن علي رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، قال : في الآخرة .
10718 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، يوم القيامة .
10719 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، قال : ذاك يوم القيامة .
وأما"السبيل" ، في هذا الموضع ، فالحجة ، كما : -
10720 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " ، قال : حجة .
القول في تأويل قوله ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ( 142 ) )
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى قبل على معنى"خداع المنافق ربه " ، ووجه"خداع الله إياهم" ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، مع اختلاف المختلفين في ذلك .
فتأويل ذلك : إن المنافقين يخادعون الله ، بإحرازهم بنفاقهم دماءهم وأموالهم ، والله خادعهم بما حكم فيهم من منع دمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان ، مع علمه بباطن ضمائرهم واعتقادهم الكفر ، استدراجا منه لهم في الدنيا ، حتى يلقوه في الآخرة ، فيوردهم بما استبطنوا من الكفر نار جهنم ، كما : -
10721 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " ، قال : يعطيهم يوم القيامة نورا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا ، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه ، فيقومون في ظلمتهم ، ويضرب بينهم بالسور .
10722 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " ، قال : نزلت في عبد الله بن أبي ، وأبي عامر بن النعمان ، وفي المنافقين"يخادعون الله وهو خادعهم" ، قال : مثل قوله في"البقرة" : ( هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم ) [ سورة البقرة : 9 ] . قال : وأما قوله : " وهو خادعهم " ، فيقول : في النور الذي يعطى المنافقون مع المؤمنين ، فيعطون النور ، فإذا بلغوا السور سلب ، وما ذكر الله من قوله ( انظرونا نقتبس من نوركم ) [ سورة الحديد : 13 ] . قال قوله : " وهو خادعهم " .
10723 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن : أنه كان إذا قرأ : " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " ، قال : يلقى على كل مؤمن ومنافق نور يمشون به ، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، ومضى المؤمنون بنورهم ، فينادونهم : ( انظرونا نقتبس من نوركم ) إلى قوله : ( ولكنكم فتنتم أنفسكم ) [ سورة الحديد : 13 ، 14 ] . قال الحسن : فذلك خديعة الله إياهم .
وأما قوله : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس " ، فإنه يعني : أن المنافقين لا يعملون شيئا من الأعمال التي فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرب بها إلى الله ، لأنهم غير موقنين بمعاد ولا ثواب ولا عقاب ، وإنما يعملون ما عملوا [ ص: 331 ] من الأعمال الظاهرة إبقاء على أنفسهم ، وحذارا من المؤمنين عليها أن يقتلوا أو يسلبوا أموالهم . فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة ، قاموا كسالى إليها ، رياء للمؤمنين ليحسبوهم منهم وليسوا منهم ، لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم ، فهم في قيامهم إليها كسالى ، كما : -
10724 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى " ، قال : والله لولا الناس ما صلى المنافق ، ولا يصلي إلا رياء وسمعة .
10725 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس " ، قال : هم المنافقون ، لولا الرياء ما صلوا .
وأما قوله : " ولا يذكرون الله إلا قليلا " ، فلعل قائلا أن يقول : وهل من ذكر الله شيء قليل ؟ .
قيل له : إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت : ولا يذكرون الله إلا ذكر رياء ، ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلب الأموال ، لا ذكر موقن مصدق بتوحيد الله ، مخلص له الربوبية . فلذلك سماه الله"قليلا" ، لأنه غير مقصود به الله ، ولا مبتغى به التقرب إلى الله ، ولا مراد به ثواب الله وما عنده . فهو ، وإن كثر ، من وجه نصب عامله وذاكره ، في معنى السراب الذي له ظاهر بغير حقيقة ماء .
[ ص: 332 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
10726 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي الأشهب قال : قرأ الحسن : " ولا يذكرون الله إلا قليلا " ، قال : إنما قل لأنه كان لغير الله .
10727 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولا يذكرون الله إلا قليلا " ، قال : إنما قل ذكر المنافق ، لأن الله لم يقبله . وكل ما رد الله قليل ، وكل ما قبل الله كثير .
القول في تأويل قوله ( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ( 143 ) )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "مذبذبين" ، مرددين .
وأصل "التذبذب" ، التحرك والاضطراب ، كما قال النابغة :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
وإنما عنى الله بذلك : أن المنافقين متحيرون في دينهم ، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحة ، فهم لا مع المؤمنين على بصيرة ، ولا مع المشركين على جهالة ، ولكنهم حيارى بين ذلك ، فمثلهم المثل الذي ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي : - [ ص: 333 ]
10728 - حدثنا به محمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرة ، وإلى هذه مرة ، لا تدري أيهما تتبع!
10729 - وحدثنا به محمد بن المثنى مرة أخرى ، عن عبد الوهاب ، فوقفه على ابن عمر ، ولم يرفعه قال : حدثنا عبد الوهاب مرتين كذلك .
10730 - حدثني عمران بن بكار قال : حدثنا أبو روح قال : حدثنا ابن عياش قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .
[ ص: 334 ]
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
10731 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " ، يقول : ليسوا بمشركين فيظهروا الشرك ، وليسوا بمؤمنين .
10732 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " ، يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ، ولا مشركين مصرحين بالشرك . قال : وذكر لنا أن نبي الله عليه السلام كان يضرب مثلا للمؤمن والمنافق والكافر ، كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر ، فوقع المؤمن فقطع ، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر : أن هلم إلي ، فإني أخشى عليك! وناداه المؤمن : أن هلم إلي ، فإن عندي وعندي! يحصي له ما عنده . فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه آذي فغرقه . وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة ، حتى أتى عليه الموت وهو كذلك . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين ، رأت غنما على نشز [ ص: 335 ] فأتتها فلم تعرف ، ثم رأت غنما على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف .
10733 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " مذبذبين " ، قال : المنافقون .
10734 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " ، يقول : لا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا إلى هؤلاء اليهود .
10735 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " مذبذبين بين ذلك " ، قال : لم يخلصوا الإيمان فيكونوا مع المؤمنين ، وليسوا مع أهل الشرك .
10736 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " مذبذبين بين ذلك " ، بين الإسلام والكفر "لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " .
وأما قوله : " ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا " ، فإنه يعني : من يخذله الله عن طريق الرشاد ، وذلك هو الإسلام الذي دعا الله إليه عباده . يقول : من يخذله الله عنه فلم يوفقه له "فلن تجد له" ، يا محمد "سبيلا" ، يعني : طريقا يسلكه إلى الحق غيره . وأي سبيل يكون له إلى الحق غير الإسلام ؟ وقد أخبر الله جل ثناؤه : أنه من يبتغ غيره دينا فلن يقبل منه ، ومن أضله الله عنه فقد غوى فلا هادي له غيره .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|