الإتلاف بالسببية
وقوله: (أو فتح قفصا) هنا الإتلاف بالسببية، وفيه كلام طويل للعلماء رحمهم الله، فالقفص قد يكون فتحه رحمة، وقد يكون فتحه عذابا وبلاء، فمثلا: إذا كان هناك عصفور أو طائر فتحه الشخص شفقة عليه ورحمة به؛ لكن إذا كان بداخله أسد أو كان بداخله سبع مفترس، فهذا لا شك أنه سيفضي إلى هلاك كثير من الناس والحيوانات، فلذلك يختلف فتح القفص من جهة الشخص الفاتح، لكن في صورة الأمر وحقيقته تلاحظ مسألة مهمة وهي: هل فتح القفص يكون مباشرة أو سببية، فيه وجهان للعلماء؟ الوجه الأول: بعض العلماء يرى أن كل من فتح قفصا على حيوان ضار وخرج الحيوان منه وأضر فهذا كالمباشرة؛ لأن الحيوان لا عقل عنده ولا إدراك، ومثل هذا الفعل لا شك أنه مفض للخروج، والخروج مفض للهلاك والإتلاف والإفساد، فيقولون: مثل الذي أمسك حية بيده وقتل بها شخصا، فحينئذ صحيح أن الحية هي التي قتلت، لكن من الذي حركها وقربها؟ فهنا ولو أن في الصورة شيئا من السببية لكنها للمباشرة ألصق وأقرب والحكم بها أقوى، وهذا القول لا يفصل فيه، بل نقول: من فتح قفصا مطلقا سواء خرج الحيوان بعد الفتح مباشرة أو تأخر فعليه الضمان؛ لأن الحيوانات لا تناط بها الأحكام؛ ولذلك تسند الأحكام إلى ما يناط إليه، فهذا الشخص هو الذي فتح وأتلف وحصل بفعله وفتحه ما حصل من الضرر.
وبناء على هذا القول: لا تفصيل، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله.
الوجه الثاني: هناك من أهل العلم من فصل، فقال: من فتح قفصا نظرنا: إما أن يقع خروج الحيوان بعد الفتح مباشرة كما لو كان على الباب فبمجرد فتحه خرج، فحينئذ نعتبره في حكم المباشرة، ونرى أن فتحه مؤثر وموجب للضمان، أما لو أنه فتح وتأخر وما خرج الحيوان أو الطير إلا بعد فترة أو برهة، فالخروج وقع من الحيوان بفعله، وصحيح أن الفتح موجود؛ لكن الخروج أصبح مؤثرا وأصبح مباشرة من الحيوان، فصار سببية ومباشرة، فلا يوجبون عليه الضمان إلا إذا حركه ودفعه إلى الخروج وحرشه عليه.
والفرق بين القولين: أن أصحاب القول الأول يضمنونه ويحملونه تبعة هذا الفتح وهذا التصرف سواء خرج الحيوان مباشرة أو تأخر، فهو ضامن متحمل المسئولية.
أما القول الثاني فلا يضمن إلا إذا تعدى، وهذا الذي ذكرناه في القاعدة: أن السببية لا ضمان فيها إلا بالتعدي، فقالوا: فتح القفص سببية، فإن حرك الحيوان وحرشه أو دفعه للخروج وجب الضمان، وأما إذا سكن ولم يخرج الحيوان فإنه لا ضمان عليه.
ويكون في حكم التحريش إذا كان الحيوان على الباب مباشرة، فبمجرد فتحه نهش وقتل ولدغ، فحينئذ يضمن، والحقيقة قول المصنف أقوى.
والنظائر والأشباه توجب أن فتح القفص وفتح الباب على الشيء المحبوس يوجب الضمان، والبهيمة لا شك أنها تندفع إلى الخروج وتريد الخروج، وهذا شيء موجود في البهائم لفطرتها؛ لأن البهيمة -وإن كانت لا تعقل- فإن فيها تمييزا للأمور، كما قال تعالى: {قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه:50] ، فقوله: (ثم هدى) أي: هداه لمصالحه، ودفع المضار عنه، فالبهيمة تدرك أن المصلحة في الخروج فتسعى لذلك وتطلبه، فمسألة أنه لا عقل لها ليس على كل حال يوجب إسقاط الضمان، فإذا فتح القفص وهو يعلم ما فيه وتساهل في ذلك فحصل الضرر؛ فإنه يتحمل المسئولية المترتبة على ذلك، وهكذا لو كان الذي بداخل الغرفة رجلا شريرا معروفا بالفساد والأذية والإضرار، فإذا جاء شخص وهو يعلم ففتح له وأخرجه فإنه يتحمل المسئولية، فيكون المباشر الشخص نفسه، ولكنه يكون حينئذ في حكم السببية فتخف المسألة عن المسألة السابقة من جهة أنها سببية إذا كان حيا يعقل، وتكون قريبة من المباشرة آخذة لحكمها إذا كانت في الحيوان ونحوه.
وقوله: (أو بابا) .
أو فتح بابا كما ذكرنا، إذا كان داخل الغرفة شيء ضار كالسبع المفترس أو مجنون منه ضرر، قد يؤذي ويضر ويقتل وهو يعلم بذلك ثم فتح له الباب، فيكون قد مكنه بذلك من الإفساد، وتعدى بتعاطي السبب الموجب للضمان.
وقوله: (أو حل وكاء) .
كانوا في القديم يحملون اللبن والعسل ونحوه من الأطعمة والأشربة في القرب، وتكون الأوعية مربوطة محكمة، فيأتي شخص ويفك هذا الرباط فتسقط القربة ويندفع ما فيها، فمن أهل العلم من فصل في حل الوكاء: فإن كان الشيء الذي عليه الوكاء لا يثبت ولا يستقر، بحيث إذا انحل الوكاء اندفع ما فيه، مثل: القرب إذا كانت على الأرض وحل الوكاء فإنه يندفع ما فيها من اللبن أو العسل فحينئذ يجب الضمان؛ لأنه لا إشكال أن حل الوكاء سيفضي إلى خروج ما في القربة؛ أما إذا كان الوعاء مستندا إلى حائط وكان ثابتا مستقرا ثم حل الوكاء فلا يجب الضمان إلا بالتعدي، كأن يدفعه فيسقط أو يتعاطى سببا لسقوطه، فإذا لم يفعل شيئا من ذلك ثم سقط الوعاء من نفسه بعد برهة -وكان الغالب استقراره- فلا ضمان عليه.
وقوله: (أو رباطا، أو قيدا، فذهب ما فيه) .
(أو رباطا) كالسبع إذا كان مربوطا فحل رباطه، (أو قيدا) : كالكلب -أكرمكم الله- إذا كان مقيدا فحل قيده فخرج وعض أو قتل أحدا، فهذه كلها تفضي إلى الضرر وفيها تعد، فأصحاب هذا القول يرون أن الحل والفك والفتح للباب ونحو ذلك يعتبر تعديا من الفاعل، والسببية يجب فيها الضمان بالتعدي، فإذا ذهب ما في القفص -وهو إما أن يكون له قيمة أو لا قيمة له- فإذا ذهب ما فيه مما له قيمة كالعصفور أو النغر أو نحو ذلك وجب ضمانه، لأنه في قول طائفة من العلماء: يجوز حبس العصافير والطيور التي لها أصوات طيبة ويستدلون بحديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، قالوا: بشرط أن يطعمها وأن يحسن إليها وألا يعذبها.
فعلى هذا القول: يكون حبسه سائغا شرعا، فإذا فتح القفص وطار هذا الطائر نقول له: اضمنه أو رده.
فإذا لم يستطع رده وجب عليه ضمانه.
وقوله: (فذهب ما فيه) يعني: مما فيه من الطير، أو ذهب ما فيه من الطعام، فقد يكون بداخل القربة لبن أو عسل، فسكب على الأرض حتى فسد، فحينئذ يجب عليه ضمانه.
وقوله: (أو أتلف شيئا) (أو) للتنويع، فهذا الشيء إذا تسبب الإنسان أو باشر في إتلافه فإما أن يذهب فحينئذ يضمن إذا كانت له قيمة كالعصفور والحمام ونحوه، وإما أن يكون الشيء مضرا؛ ولذلك قال رحمه الله: (أو أتلف شيئا) يعني: هذا الذي في داخل القفص كالأسد أو النمر لما فتح له خرج وقتل شخصا أو خرج وكسر شيئا، فحينئذ يجب عليه ضمان ذلك الشيء المتلف.
إذا: هذا الشيء الذي يخرج إما أن يكون مما له قيمة فيكون الضرر على صاحبه بخروجه وفراره وشروده، فنقول له: رده أو اضمن، وإما أن يكون خروجه موجبا للفساد والضرر كالحية تلدغ فتقتل، وكذلك العقرب، فالحية ليس لها قيمة، لكن ننظر إلى الضرر المترتب عليها: فمن دقة المصنف رحمه الله أن قال: (فذهب ما فيه أو أتلف شيئا) ، فذهب ما فيه مما له قيمة، أما إذا كان الشيء الذي ذهب لا قيمة له، كأن يكون كلبا عقورا -أكرمكم الله-، فلا نقول: يجب عليه ضمان ما في داخل الشيء المفتوح.
فإذا: (ذهب ما فيه) إما أن يوجب الضمان لعين الشيء الذي ذهب إن كانت له قيمة، وإما أن يكون الضمان مترتبا على ضرر ناشئ عن الذهاب، ومن أمثلة ذلك ما ذكرنا من خروج البهيمة فتكسر شيئا أو تعض شيئا أو تقتل شيئا فحينئذ يجب عليه الضمان على التفصيل الذي ذكرناه.
وقوله: (أو أتلف شيئا ونحوه ضمنه) .
(ونحوه) أي: الضرر، يكون بعض الأحيان بالإتلاف المباشر أو الإتلاف بالسببية، فيفصل في جميع ما يترتب عليه من الضرر.
الأسئلة
حكم حبس الصيد في مكة
السؤال ما حكم حبس الصيد في مكة المكرمة، والحال أن الصيد في مكة محرم؟
الجواب من حيث الأصل بعض العلماء يرى أن الوصف العارض بالحرمة يكون في الشخص، ويكون في الزمان، ويكون في المكان، فيكون في الأزمنة مثل: أزمنة الأشهر الحرم وتحريم القتال فيها، كما جاء بنص الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه الله عز وجل عن قتال المشركين فيها، وكذلك أيضا: يكون بالمكان: كمكة والمدينة على أنها حرم، ويكون بالأشخاص: مثل المحرم، فبعض العلماء يجعلها بمرتبة واحدة فيقول: إذا طرأت هذه الحرمة زمانا ومكانا وحالا، أي: على الشخص وجب عليه أن ينظر إلى الحال ولا ينظر إلى ما سبق، بمعنى: إذا صاد خارج مكة وأدخلها بمكة نظر إلى حرمة المكان، وحينئذ لا يستصحبه، وتزول يده عن الصيد، ولا يبقى ممسكا صيدا في مكة؛ لأنه صيد من حيث الأصل، ومن أهل العلم من قال: لا.
إذا صاده خارج الحرم ودخل به إلى الحرم فليس من صيد الحرم، وإذا لم يكن من صيد الحرم، حل له أن يعامله معاملة المستأنس المملوك، مثل: الدابة التي يملكها من الدواجن والطيور ونحوها إذا أراد يذبحها ويأكلها فلا شيء عليه.
والأولون يستدلون بدليل الحاج، فإن من أحرم للحج والعمرة، يجب عليه تخلية الصيد، فلو صاد قبل أن يحرم وأمسك صيدا ثم لبى لم يجز له أن يستصحبه، بل يجب عليه أن يفكه، يقولون: وتستوي الاستدامة سواء كان المحرم مستديما أو مبتدئا، فيحرم الصيد بمكة ابتداء استدامة، والواقع القول بأنه إذا صيد خارج الحرم ثم أدخل الحرم فإنه لا يأخذ حكم الصيد فيه قوة، ومذهب طائفة من العلماء رحمهم الله: أنه لا يأخذ حكم الحرم؛ لأنه لم يصد داخل الحرم، والله عز وجل خصص المكان بالتحريم، والتخصيص يقتضي أن يقيد الحكم بما خصص به، وإلا ما فائدة التخصيص؟ وبناء على ذلك: يقوى هذا القول.
وأما مسألة محظورات الإحرام فإن فيها استدامة، فمثلا: من محظورات الإحرام: النكاح، فلو أن الرجل أحرم بالحج والعمرة وهو متزوج من قبل، فهل ينفسخ عقده؟ الجواب: لا.
فنقول: دل على أن نفس الإحرام فيه تفصيل، فما دل الشرع فيه على الاستدامة حكمنا بالاستدامة فيه، وما دل الشرع فيه على أن المحرم هو الابتداء قلنا بتحريم الابتداء، ولا شك أن الإنسان إذا تورع فهذا أفضل وأكمل وأبعد عن الشبهة، والله تعالى أعلم.
خطر الغرور وعلاجه
السؤال من الأمور التي تطرأ على طالب العلم في أثناء الطلب داء الغرور فما هو العلاج لذلك؟
الجواب إن العلم إذا أريد به وجه الله وابتغى به العبد ما عند الله عصمه الله من الزلل وسدده في القول والعمل، وحقق له كل ما يصبو إليه من مرجو وأمل، فالله هو المطلع على السرائر الذي لا يخفى عليه شيء مما غيبته الضمائر؛ فلذلك يجب على طالب العلم أن يحاسب نفسه دائما بالإخلاص لله عز وجل وإرادة ما عند الله، وهذه المحاسبة إذا صحبها شيء من الانكسار والاعتراف بعظيم نعمة الله جل جلاله الذي علم الإنسان ما لم يعلم وفتح عليه أبواب العلم، ويسر له سبيله ولولا الله ما فهم، ولولا الله ما علم، ولولا الله ما استطاع أن يصل إلى شيء من هذا العلم.
قال تعالى مخاطبا نبيه وأشرف خلقه صلوات الله وسلامه عليه: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء:113] ، فالفضل فضل الله والنعمة والرحمة من الله وحده؛ ولذلك جعل لعباده السمع والبصر والفؤاد، وهي أسباب ووسائل يتوصل بها إلى العلم، فالواجب على الإنسان أن يحاسب نفسه دائما في الإخلاص لله عز وجل مستصحبا أثناء محاسبته عظيم نعمة الله عليه وجميل وجليل منته لديه، فإذا عرف نعمة الله انكسر لله.
والقلب المخلص كالوعاء النقي بل هو أشرف وأزكى من تلك الأوعية، ولكن الله ضرب المثل، فالقلب المخلص مليء بنور الله عز وجل القلب المخلص امتلأ بالله وحده، وما من قلب يمتلئ بالله إلا وقد انشغل وانصرف عن كل شيء سواه، ففي الله وحده سلوة للإنسان عن كل شيء سواه، فإذا عرف الله بأسمائه وصفاته، وأخلص لله بقوله وعمله وأدرك نعمة ربه، وصاحب الإخلاص بالمعرفة التامة بنعمة الله عليه ذل لله وحده، وأصبحت تلك القلوب المخلصة النقية التقية الخلية من الشرك بريئة، ومن الرياء ومحبة المدح والثناء والغرور بالنفس معصومة بإذن الله عز وجل، وهذه كلها أسباب تحول بين الإنسان وبين الغرور، ولن تجد إنسانا يبتلى بالغرور إلا وجدت في إخلاصه نقصا وفي عبوديته لله خللا، فلا يدخل الغرور إلا بالانصراف عن الله جل جلاله، ومن جعل الله والدار الآخرة نصب عينيه زكاه ربه، وزكى عمله وجعل هذا العلم مقربا له سبحانه، فلا يتعلم كلمة إلا وقربته من الله جل وعلا، ولا يسمع جملة إلا وحببته إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن القلب ما فيه إلا الله، فإذا انصرفت القلوب إلى الله طهرها ربها وتولى أمرها مقلب القلوب والأبصار، وتولى أمرها من يحول بين المرء وقلبه، والله يقول عن الذين انصرفوا عنه {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف:5] ، نسأل الله بأسمائه وصفاته ألا يزيغ قلوبنا! ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة! كل من يجد الغرور ففيه نقص من الإخلاص وفي إخلاصه دخن، فعليه أن يبحث عن الأسباب والوسائل التي تزيد من إخلاصه لله جل جلاله ومن أعظمها وأجلها: الدعاء، وسؤال الله سبحانه وتعالى، وأن يستشعر أن هذا العلم أمانة ومسئولية وتبعات، إما أن يفضي بالعبد إلى الدرجات، أو يهوي به في الدركات، فإذا خاف من هذا العلم أشفق على نفسه حتى إنك لتراه من أخلص الناس وهو يشك في إخلاصه ويقول: لا.
ما أنا بمخلص، عملي ليس بمخلص وليس بخالص، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم، وقد قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: (أدركت سبعين كلهم يخاف النفاق على نفسه) .
أثر هذا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يخافون النفاق على أنفسهم، فكانوا يحركون القلوب بالإخلاص لله جل جلاله، والمغرور إذا انصرف قلبه عن الله أصابه الغرور، ولقد عتب الله على أقوام اغتروا بأنفسهم وفرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
ليعلم كل طالب علم وليعلم كل متعلم أن الغرور يمحق البركة ويذهب الخير، ولربما صرف الإنسان من الرحمة إلى العذاب فيشقى من بعد السعادة ويهلك من بعد النجاة والعصمة، والله يقول: {فتزل قدم بعد ثبوتها} [النحل:94] ، فمن دخله الغرور فإنه على مهلكة؛ لأن الله اختار القلب للنظر، فقال سبحانه: {إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا} [الأنفال:70] ، ليعلم الله في قلوبكم الإخلاص، فلا خير يراد إلا بالإخلاص لوجه الله جل جلاله، فالغرور يمحق البركة، والغرور يذهب الخير ويصرف العبد عن الله جل جلاله، ولا يزال العبد يغتر حتى يهلكه الله بغروره، وانظر إلى مكان الغرور وشؤمه وشره، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا ممن كان قبلنا يمشي إذ أعجبه برد عطفيه -يعني: نظر إلى ثوبه وهو جميل- فاختال في مشيته فأصابه الغرور فخسف الله به الأرض فهو يتزلزل فيها إلى يوم القيامة) ، هذا في ثوب!! فكيف بمن يغتر بالعلم؟ من الغرور بالعلم: أن يتعاظم الإنسان على الناس وأن يحس أنه بعلمه قد أصبح حاكما على الناس، فيحتقر من هو أعلم منه، وينتقص من هو مثله، ويترفع على من دونه.
ومن الغرور: أن ينصب نفسه حاكما على أئمة العلم ودواوين السلف الصالح الذين لهم القدم الراسخة، فوالله لو كانوا أحياء لخرست أفواه هؤلاء، ولو كانوا أحياء لعموا حتى يقادوا بعلم هؤلاء إلى الجادة والسبيل؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يحفظ حرمة السلف الصالح، ويحفظ حرمة العلماء وخاصة أئمة الكتاب والسنة وهم على درجات، فالعلماء الذين شهد لهم أنهم أئمة السلف وأجمعت الأمة على جلالتهم ورفعة قدرهم وحبهم وعلو شأنهم وزكاهم الله بالقبول، فوضع الله لهم القبول في الأرض، لا يأتي الإنسان بعد عشرة قرون يشكك في عقائد هؤلاء، أو يشكك في تبيينهم ومنهجهم مغترا بنفسه، وهو بالأمس كان ضالا شقيا بعيدا عن رحمة الله فما إن وقف في طلبه للعلم حتى يقف مجرحا ثالبا منتقصا مزدريا للعلماء، فإياك ثم إياك أن تقرأ كتابا أو تجلس في مجلس علم فتقوم وأنت محتقر للسلف، والله ما نصحنا لعلماء الأمة والدين إذا كانت كتبنا تقود إلى ازدرائهم وانتقاصهم والحط من أقدارهم، وتجد الإنسان إذا كان الإنسان فقيها، يشعر من معه من معه أنه لا فقه إلا فقهه، وإذا كان محدثا يشعر أنه لا حديث إلا منه أو لا تصحيح ولا تضعيف إلا منه، فلا يبالي بعدها بالعلماء، ويقول: لا تغتر بفلان ولا تعبأ بفلان، هذا لا ينبغي، فإن أول ما يأتي الغرور يبدأ باحتقار أئمة ودواوين العلم الذين شهد لهم بذلك، فينبغي عليك أن تتقي الله في سلف الأمة، وأن تتصور هذا العالم الإمام حافظا للكتاب والسنة، فما كان أحد يتصدر للعلم إلا إذا كان على قدم راسخة، الإمام مالك ما جلس يحدث الناس حتى شهد له سبعون من أئمة الفتوى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أهل للعلم، فما كان يتقدم كل زاعق وناعق، فاتق الله ولا تغتر بنفسك إذا كنت مع علماء السلف وأئمة السلف، فينبغي أن نغرس في قلوب طلابنا وقلوب من يتلقى العلم عنا حب السلف وإجلالهم، والترحم عليهم، وذكرهم بالجميل، والإشادة بفضلهم وعلو شأنهم، وهذا من النصيحة لعلماء الدين، ولأئمة المسلمين.
وكذلك النصحية للعلماء الأحياء بألا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل، فبعض طلاب العلم إذا جلس بمجلس عالم جعل ينتقد ويزدري غيره، وإن سمع علم شيخه أصم أذنه عن علم غيره، بل ينبغي على الإنسان أن يعلم أن هذا سنة، وأننا تحت رحمة الله منا المصيب ومنا المخطئ، وأننا لا نستطيع أن نزكي أنفسنا بأن نقول: نحن أصحاب الحق ونحن الذين على النجاة وعلى الصراط المستقيم، بل نبني على غالب ظنوننا ونجتهد بالدليل والحجة حتى نلقى الله سبحانه وتعالى، فإذا بذل الإنسان السبب فإن كان مصيبا فله أجران، وإن كان مخطئا فله أجر واحد، لكن لا يقتضي هذا ذم العلماء وسبهم وانتقاص غير شيخك، لا.
بل تكون كفيف اللسان عفيف القلب إلا إذا كان هناك أمر فيه اعتداء لحدود الله، فتقول: هذا الأمر خطأ، وفلان أخطأ في هذا الأمر، إذا كان يخالف فيه نصا صريحا من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالهوى، أو يأتي بعلم من عنده واجتهاد من عنده لا يعرف له أصل عن أئمة السلف، فهذا شيء آخر، ونحن نتكلم على مسائل شرعية يسع فيها الخلاف من الفرعيات وليس من الأصول، فعلى هذا ينبغي لطالب العلم ألا يغتر بشيخه، بل عليه أن يستعصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني هذا نسيان فضل أهل الفضل، ولا يعني هذا أن يترك طالب العلم شيخه! لا، بل يتبع شيخه بالدليل، وإذا رأى شيخه يتحرى الكتاب والسنة أحبه لحب الكتاب والسنة، وغار على الحق الذي أجراه الله على يديه وأحب سماع هذا الحق ما دام أنه يرى أنوار التنزيل عليه، وعلى هذا يسير طالب العلم.
ولا يغتر أيضا طالب العلم بانتقاص غيره، فلربما يكون شابا اهتدى فرأى غيره من العوام فينتقصهم ويضحك منهم إذا أخطئوا، أو يستخف بهم إذا سألوا، لا ينبغي هذا، فإن الله قد يمقت العبد بذنب واحد، فيغضب عليه غضبا لا يرضى بعده أبدا: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه) ، وقد يسخط الله على إنسان يغتر بعلمه فينتقص الناس، فإذا جلست بين عوام يريدون الفائدة فأظهر خشوعك ووقارك، لا من أجل أن يمدحك الناس ولا من أجل السمعة بل لله وابتغاء مرضاته، وقل: هذا العلم الذي شرفني وكرمني ينبغي أن أصونه وأن أحفظه كما أن الله جعله صونا لي وحرزا، فيكون الإنسان سهل الكلام مع الناس، سهل الكلام مع العامي إذا سأل أو إذا استشكل، فهذه من الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يراعيها.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد في القول والعمل، وأن يعصمنا من الشرور والزلل إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأل الله العظيم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم، موجبا لرضوانه العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الضابط في معرفة المال المحترم
السؤال أشكل علي الضابط في معرفة المال المحترم؟
الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد المال: هو كل شيء له قيمة، وسمي المال مالا؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه، ولذلك قال الشاعر: رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال فالمال كل شيء له قيمة، وبناء على ذلك: إذا قال العلماء: المال، فلا يختص بالذهب ولا بالفضة، وقد دل على ذلك دليل السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف غير الذهب والفضة بالمال، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته -ثم ذكر الإبل، فقال- إلا فتح لها بقاع قرقر يجدها أوفر ما تكون لا يفقد منها فصيلا، تطؤه بأخفافها وتعضه بأنيابها) الحديث، فذكر الإبل والبقر والغنم، ووصفها بأنها مال، وفي حديث الثلاثة النفر: الأقرع والأعمى والأبرص، فإن الأعمى لما جاءه الملك فقال له: (ابن سبيل منقطع، فقال له الأعمى: كنت فقيرا فأغناني الله، كنت كذا وكذا -وذكر نعمة الله عليه- ثم قال له: والله لا أردك اليوم من مالي شيئا، دونك الوادي خذ منه ما شئت -وكان ماله الغنم- فقال الملك -وهذا موضع الشاهد- أمسك عليك مالك) ، فسمى الغنم مالا، فإذا: قول العلماء: مالا محترما، المال: هو كل شيء له قيمة سواء من النقدين أو غيرهما، والعرف الدارج عند الناس أنهم لا يطلقون المال إلا على النقدين من الذهب والفضة، وهذا في الاصطلاح خاص، لكن المعروف: أن المال عام، وبناء على ذلك يشمل الأشياء كلها، لكن قولهم: (محترم) المحترم: هو الذي له حرمة، وهو المأذون باتخاذه، فإذن الشرع باتخاذ المال يعطيه الحرمة؛ لأن الله جعل لك -إذا ملكت هذا المال- حق التصرف فيه، فيصبح المال له حرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم وحسابهم على الله) ، فقال: (عصموا) ، صار في عصمة وحرمة.
فإذا: قولهم: (مال محترم) أي: مال مسلم، ويدخل في ذلك: مال الذمي، لكن لو أنه أتلف مال كافر حربي فإنه لا يجب عليه ضمانه؛ لأن مال الكافر الحربي ملك لنا: ولا يكون له حرمة؛ لأن الشرع أسقط عنه الحرمة بدليل الغنيمة، وعلى هذا لا بد أن يكون المال محترما، فيكون محترما من جهة الشخص كما ذكرنا في المسلم والكافر، ويكون محترما من جهة الوصف، فيكون نفس المال مأذونا به شرعا مثل: الأطعمة والأكسية ونحوها، ويكون ضدها الأطعمة المحرمة، مثلا: لو جاء شخص إلى طعام خنزير، فإذا كان لذمي فإنه محترم؛ لأن شرط العهد الذي بيننا وبينهم: أن نقرهم على دينهم وهذا مباح لهم في دينهم، لكن نحن نتكلم على الأصل العام: أن الخنزير ما له حرمة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) ، فلو أخذ الصنم وكسره فليس عليه ضمان، وهكذا لو كان هناك شيء من الأطعمة الفاسدة المحرمة فأتلفت، فإنها إذا أتلفت ليس لها حرمة ومن هنا ساغ للمحتسب -كما ذكر العلماء في أحكام المحتسب-: أنه إذا دخل السوق ووجد طعاما فاسدا أتلفه؛ لأن الطعام الفاسد ما له حرمة، وإذا بقي عند الشخص ربما باعه على مسلم فقتله وأضر به، فمثل هذا يوجب سقوط الضمان، فإذا وقع الإتلاف على مثل هذه الأموال سقط ضمانها، والله تعالى أعلم.
مناسبة إدخال أحكام الإتلافات في باب الغصب
السؤال ما وجه مناسبة هذه الأحكام في باب الغصب مع أن أحكامها متعلقة بباب الضمان؟
الجواب تختلف مناهج العلماء رحمهم الله، فبعضهم يذكرها في باب الضمان، لكن المشكلة أن الضمان إذا كان بمعنى: الكفالة المتقدم معنا في باب الكفالة -فمن العلماء من يجعل الضمان والكفالة بمعنى واحد- فحينئذ لا يسوغ أن تجعل أحكام الضمان للإتلافات تحت باب الضمان؛ لأنك إذا جعلت الضمان والكفالة بمعنى واحد، فهذه متعلقة بالديون، فالضمان: كأن يأتي شخص ويريد أن يستلف سيارة مثلا، فتقول: أنا أضمنه أن يسدد، فهذه ما لها علاقة بالإتلافات، لكن إذا كان الضمان بمعنى: ضمان الحقوق والإتلافات فهذا باب مستقل، فحينئذ يسوغ أن تفرده بمادته، والسائد والذائع عند العلماء رحمهم الله أنه قل أن تجد من وضع باب الضمان بمعنى ضمان المتلفات، والمؤلفات المعاصرة تعبر بالضمان وتدخل مسائل الإتلافات، وهذا مصطلح صحيح وسائغ؛ لأن اسم الضمان يسوغ أن تندرج تحته هذه المسائل؛ لكن المصنف رحمه الله منهجه هو الصحيح؛ فإن الغصب اعتداء على الأموال والإتلاف اعتداء على الأموال، والمناسبة بينهما لا إشكال في وضوحها وتمامها.
فإذا كانت عندك مادتان: مادة فيها نصوص ولها أصل، ولها باب مثل الغصب ولها نصوص خاصة وتفصيلات وتفريعات، ومادة ملحقة بهذا الباب مندرجة تحت أصله، فالأفضل أن تبدأ بالمادة الأولى وهي الغصب، ثم ترفقها بأحكام الضمان للمتلفات وأحكام الاعتداء، فالمصنف رحمه الله هنا سلك هذا المسلك، وإلا فبعض العلماء يجعل الضمان بابا مستقلا، إلا أنه لم يجعل ضمان الاتلافات بابا مستقلا؛ لأنا لو قلنا بهذا لوجب إدخال الديات والقصاص فيه؛ لأن هذه كلها ضمان للحقوق، وبناء على ذلك: نجد كثيرا من العلماء لا يدخلون الإتلافات تحت باب الغصب، والشافعية عندهم هذا المنهج، والإمام الشافعي رحمه الله عليه من أئمة السلف ومع ذلك ذكر أحكام الإتلافات بعد الغصب، فجعل مسائل الإتلاف -كما في مختصر المزني في مسائله على الإمام الشافعي رحمه الله- بعد الغصب، والمصنف رحمه الله وأئمة الحنابلة رحمهم الله يذكرون هذه المسائل عقب الغصب وهذا وجيه، والمسألة كلها في الأولى والأحسن، والأمر واسع -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم.