عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 09-12-2024, 08:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,386
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب الغضب )
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (371)

صـــــ(1) إلى صــ(18)


شرح زاد المستقنع - باب الغصب [2]

حتى تعود الحقوق إلى أهلها ألزمت الشريعة من غصب شيئا أن يرده إلى موضعه الذي غصبه منه، ويتحمل ما يترتب على هذا من غرامة؛ لأنه هو الذي جنى واعتدى، ويضمن كل ما يترتب على غصبه من زيادة أو نقص في المغصوب، وهذا من كمال العدل.


وجوب رد المغصوب إلى صاحبه


بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وإن استولى على حر لم يضمنه، وإن استعمله كرها أو حبسه فعليه أجرته] .
فقد تقدم معنا بيان حكم الغصب، وبيان حقيقته في اللغة والاصطلاح، وبينا أن للغصب آثارا تترتب عليه، وقد اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان هذه الآثار وذكر ما دل عليها من أدلة الكتاب والسنة، وإجماع أهل العلم رحمهم الله، ولا بد لطالب العلم من أن يعلم هذه الأحكام والمسائل في باب الغصب.
أول ما يترتب على الغصب: الحكم بإثم الغاصب وقد تقدم، والسبب في ذلك: عصيانه لله عز وجل، واعتداؤه على حق أخيه المسلم، ونسيانه لحرمته، وتجاهله للأصول الشرعية التي حظرت عليه ذلك الفعل من الغصب.
أما الأمر الثاني الذي يترتب على الغصب: وجوب رد الشيء المغصوب، وهذا بإجماع العلماء، أن الواجب على من غصب أن يرد الشيء الذي اغتصبه، سواء كان من العقارات أو من المنقولات، وأنه إذا تصرف في الشيء المغصوب فنقله من بلد إلى بلد ومن موضع إلى موضع، فإنه ملزم شرعا برده إلى الموضع الذي أخذه منه، ولو كلفه ذلك ما كلفه، فلو أنه اغتصب دابة وسار عليها إلى بلد بعيد وجب عليه أن يردها إلى البلد الذي اغتصبها منه.
كذلك لو أنه أخذ متاعا ثم نقله إلى موضع؛ وجب عليه أن يرد ذلك المتاع إلى الموضع الذي اغتصب فيه ذلك المتاع.
فإذا: الرد، لكن مسألة رد المغصوب تتوقف على وجود الشيء المغصوب، فإن من غصب شيئا تارة يبقى الشيء وتارة لا يبقى، فإذا بقي الشيء وكان على صفاته وجب رده على الصفة التي أخذه عليها ضمانا لنقصه من حيث الأصل، ووجب رده على صفة الكمال إن طرأ كمال وزيادة بعد الغصب، وهذا كله سنفصله إن شاء الله تعالى.
وبناء على ذلك: ثبت عندنا أنه يجب رد المغصوب، فلو أن هذا المغصوب تلف، كرجل أخذ طعام أخيه المسلم ثم أكله، ففي هذه الحالة لا يمكن رد عين الشيء المغصوب، فيطالب برد مثله، فالأشياء المغصوبة لا تخلو من حالتين:


ضمان المثلي بمثله


الحالة الأولى: أن تكون من الأشياء التي لها مثليات، وذلك مثل المكيلات والموزونات، كرجل اغتصب صاعا من بر، أو كيلا من أرز ثم استهلكه واستنفذه وأكله فإنه مستحيل عليه أن يرد عين الذي أخذ، فنقول له: يجب عليك أن تنظر إلى مثل الطعام الذي أخذته في الصفة من حيث جودته ورداءته، ونفس النوع الذي أخذته، ثم ترده إلى صاحبه بالقدر، فإن كان صاعا فصاع، وإن كان أكثر من ذلك فكل شيء بحسابه.
إذا: يرد عين المغصوب إذا كان موجودا، وإذا تعذر رد عين المغصوب وجب رد مثله، وهذا المثلي -كما ذكرنا- في المكيلات والموزونات، فالمكيلات مثل: الحبوب، والموزونات مثل: القطن والحديد والنحاس، فلو أنه أخذ حديدا ثم أتلف الحديد على وجه لا يمكن رد العين به، فحينئذ ينظر إلى مثل الحديد الذي أخذه، فلو أخذ من جيد الحديد -وهو الصلب- طنا واغتصبه وجب عليه رد طن مثله، فإذا: يرد مثله في النوع، ويرد مثله في الصفة من حيث الجودة والرداءة، ويرد مثله في القدر من حيث الكيل والوزن.


الضمان بالقيمة عند تعذر المثلي


فإن تعذر وجود المثلي انتقل إلى القيمة، ويتعذر وجود، إما حقيقة، وإما حكما وتقديرا، وإما شرعا، فيتعذر وجود المثلي حقيقة وحسا، مثل: أن يكون أخذ إناء من الأواني التي لا تنضبط ويكون صنعها على وجه لا مثيل له من حيث التقدير، بحيث لا يمكن الإتيان بمثله في مثل ما ذكرنا، وتقدم معنا في السلم أن الأواني ونحوها التي ليس لها ضوابط في صفاتها -بخلاف الأواني الموجودة في زماننا هذا- كالأواني التي تصنع عند الحدادين ونحوهم لا يمكن رد مثلها، بحيث تنطبق الصفات على وجه تام كامل فعند ذلك ينتقل إلى القيمة، ونقول: تعذر وجود المثلي حقيقة وحسا.
كذلك أيضا: يتعذر وجود المثلي شرعا كما تقدم معنا في خمر الذمي، فإنه على مذهب من قال: إن الخمر تضمن إذا كانت لذمي، فإن المسلم لا يمكنه أن يشتري الخمر؛ لأنه لا يجوز أن يتملكها، فحينئذ ينتقل إلى قيمتها ويضمنها لصاحبها؛ لأن أهل الذمة لهم حق كما تقدم معنا في باب الذمة.
أما من حيث التعذر الحكمي فهذا من أمثلته كما ذكر العلماء: أن يكون قد أتلف شيئا له مثل في السوق، ولكن سعره في السوق مبالغ فيه وقيمته أكثر من المثل، فوجد مثل هذه السيارة التي أتلفها ولكن يطلب فيها صاحبها أضعاف قيمتها، فهي موجودة حقيقة لكنها مفقودة حكما؛ والله يقول: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194] فإذا كلفناه أضعاف قيمتها فهذا ليس بمثلي، ولذلك قالوا: هو موجود حقيقة، مفقود حكما.
إذا: أولا: نضمنه العين، فيجب رد العين، فإن تعذر؛ أوجبنا عليه رد المثل، فإن تعذر وجود المثلي حقيقة وحسا أو شرعا أو حكما؛ انتقلنا إلى القيمة.


يد الغاصب يد ضمان


يتفرع على هذا أن تقول: القاعدة أن يد الغاصب ضامنة، فتضمن الزيادة وتضمن النقص، فإذا قلت: إنها ضامنة ففي ضمان النقص تضمن الشيء من الاثنين: ما كان بتعد منها وما كان بآفة سماوية بدون تعد منها.
فمثلا: لو أنه أخذ أرضا واغتصبها، وكانت الأرض فيها مزرعة وجاء إعصار فيه نار فأحرق المزرعة، نقول: يجب عليك أن ترد الأرض كما هي، لأنك بمجرد اغتصابك تصبح يدك ضامنة، فأي تلف يحدث في العين لا نسأل عن سببه، سواء كان منك أو كان من غيرك فيلزمك أن ترد العين كما أخذتها، فإن حصل التلف فتضمن هذا التلف سواء كان بفعلك أو كان بفعل غيرك، وهذا معنى قول بعضهم: يضمن ما كان بأمر الله، أو ما كان إفسادا من مخلوقين، يعني: يضمن في كلتا الحالتين، ولا يقال: إن الضمان يختص فقط بحال التعدي، والسر في هذا أن يده لما اعتدت على هذه العين وأخذتها من مالكها يصبح عندنا أصل وهو الضمان، أي: أن يده يد ضمان، فواجب عليه أن يرد العين، فإذا قلت: يجب عليه شرعا أن يرد العين وكما هي كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها) نهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض لأكل أموال الناس، ثم أمر كل من تعرض لمال أخيه المسلم أن يرده.
فنقول في هذه الحالة: دل الأصل الشرعي على أنه يجب عليه الرد، فإذا حصل التلف والنقص وجب عليه أن يرد المغصوب كاملا لا ناقصا؛ لأنه أخذه كاملا، ثم ما طرأ من النقص يكون متحملا لمسئوليته، كما أن ما طرأ من الزيادة يكون أيضا واجبا عليه ضمانه، وهذا كله سنفصله ونبين موقف العلماء رحمهم الله فيه.
إذا تقرر هذا فالأشياء التي تغصب منها يكون من الأموال التي تباع وتشترى وهي محل للمعاوضات، وهذا ينقسم إلى عقارات ومنقولات، فيكون الغصب في العقارات كالأراضي والدور ونحوها، ويكون الغصب في المنقولات كالأطعمة والأكسية ونحوها.


كيفية ضمان العين إذا زادت أو نقصت


إذا: يجب ضمان عين المغصوب، ويجب ضمان منفعة العين، فإذا قلنا بالضمان برد عين المغصوب أو ضمانه على التفصيل المتقدم يبقى السؤال في مسألة رد العين المغصوبة، فتارة تكون العين المغصوبة موجودة كما هي، ليس فيها زيادة ولا فيها نقصان، فحينئذ لا إشكال.
فإذا جئت تحكم في هذه المسألة تقول: ننظر إن كانت العين قد مضت مدة على غصبها وجب ردها ومنفعتها، بدفع قيمة المنفعة التي هي الأجرة، وإن لم تمض المدة وجب رد العين وحدها، هذا إذا كانت العين كما هي بدون زيادة وبدون نقصان.
أما لو أن العين اختلفت فإما أن تختلف بزيادة وإما أن تختلف بنقص، فإما أن تختلف فيزيد سعرها وتجمل وتكمل، وإما أن تختلف فينقص سعرها، وحينئذ يجب أن يفرق بين المسألتين ويفرق في حكمهما.
فتارة تختلف العين بالزيادة، كرجل أخذ دابة هزيلة واغتصبها ثم اعتنى بطعامها وشرابها فأصبحت كأحسن ما تكون عليه الدابة، إذا: اختلفت في الزيادة.
أو أخذ أرضا واستحدث فيها البناء وهي أرض بيضاء، فأحدث فيها البناء أو أحدث فيها الزرع، فحينئذ تكون العين المغصوبة قد زادت ولم تبق على حالتها الأصلية يوم أخذت، وهذه من أمثلة الزيادة في العين.
وفي زماننا يأخذ سيارة -مثلا- فيصلح مراكبها ويحسن مقاعدها، أو يتصرف في آلة السيارة، تكون السيارة على حالة ضعيفة فتصبح على حالة أفضل، فإذا: تصرف بزيادة.
الحالة الثانية: أن يأخذ العين على أحسن ما تكون فيردها على أسوأ ما تكون لكنها صالحة؛ لأنه إذا ردها وهي تالفة فالحكم حينئذ: الضمان على التفصيل الذي تقدم، لكن نتكلم في حالة أن العين باقية ولكن فيها نقص، كرجل أخذ دابة وهي سمينة صالحة على أحسن ما تكون عليه، فأساء علفها وإطعامها والقيام عليها، فأصبحت هزيلة، فحينئذ عادت ناقصة، وأخذها كاملة فردها ناقصة.
وفي زماننا لو أخذ البيت واغتصب العمارة أو الأرض وفيها الزرع فأفسد زرعها، أو فيها نخل فأتلف النخل الذي فيها، أو عطش النخل حتى مات بعضه وبقي بعضه، فحينئذ عادت العين بالنقص.
أما في حالة الزيادة وحالة النقص فكلتا الحالتين فيهما تفصيل من حيث الأصل الشرعي فنقول: كل زيادة حدثت في العين المغصوبة فإما أن تكون من فعل الغاصب، وتكون العين لا يمكن فصل الزيادة عنها، كالسمن لا يمكن أن نسحبه من الدابة مع صلاح حالها فهذا صعب جدا، ولا يمكن أن يحدث ذلك، فحينئذ ترد كاملة، ولو أخذ الرقيق فعلمه صنعة فلا يمكن سحب الصنعة منه، فيجب رده كاملا على الصفة التي أصبح عليها.
وأما إذا كانت الزيادة يمكن فصلها عن الشيء المغصوب، مثلا: لو أنه وضع على الأرض بناء من الصناديق، أو البيوت الجاهزة في زماننا فنقول: يجب عليه رفع ما له ورد الأرض كما أخذها إلى صاحبها، فلو أحدث الزرع فيها وجب عليه قلع الزرع ورد الأرض مستوية، وتطمس حفرها وتصلح كما كانت، ويضمن النقص لو أنها نقصت قيمتها بعد هذه الحفر واستصلاحها، وسنفصل هذا كله -إن شاء الله- ونذكر خلاف العلماء رحمهم الله.
لكن نريد الآن أن نشير إلى مجمل مسائل الغصب حتى إذا دخلنا في التفصيل تكون الصور إن شاء الله واضحة.
فمن حيث الأصل لما نظرنا إلى الزيادة، قلنا: في حالة الزيادة التي لا يمكن فصلها عن العين المستحقة وتابعة للعين، فيجب على الغاصب أن يرد العين بكمالها، ويضمن هذا الكمال، ويصبح الكمال ملكا لصاحب الأرض، هذا إذا كان قد أحدث فيها زيادة لا يمكن فصلها.
أما لو أحدث زيادة من ملكه يمكن فصلها نقول له: خذ ما لك واترك ما لغيرك، ورد الأرض كما أخذتها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديها) وترد الأرض على الصفة التي أخذتها عليها، حتى لو أنك نقلت النخلة عنها أو هدمت البناء الذي عليها فاختلفت صفاتها ونقصت قيمتها لزمك أن تدفع هذا الفارق، وسنفصل إن شاء الله.
إذا: يلزم برد الأرض على صفتها، ويأخذ ما له من الزيادة التي استحدثها، ولا يأخذها إن كانت متصلة لا يمكن فصلها عن العين.
أما إذا كان هناك نقص وأحدث في العين المغصوبة نقصا فيجب عليه أن يضمن النقص كاملا، ويرد العين ويرد ضمان النقص، فلو كانت العين -أعني: الأرض- لما أخذها واغتصبها صالحة وطيبة وفيها زرع وكانت قيمتها تساوي مائة ألف مثلا، ولما أراد أن يردها ردها بنقص نصف قيمتها نقول: رد الأرض وادفع نصف قيمتها إلى المغصوب منه، هذا من حيث الزيادة والنقص.


كيفية تقدير القيمة عند الضمان


وتقدر قيمة الشيء المغصوب ويجب عليه ضمان القيمة على التفصيل عند أهل العلم رحمهم الله كما سيأتي، فمنهم من يقول: نقدر قيمة المغصوب حين الغصب، وبعضهم يقول: نقدر قيمة المغصوب عند التلف.
وفائدة المسألة: لو أن شخصا أخذ سيارة واغتصبها من أخيه، واغتصبها في أول العام وكانت قيمة السيارة باهظة الثمن، فرضنا: كانت قيمتها خمسون ألفا، ثم لما أصبحت في نهاية العام أتلفها وتعذر وجود مثلها وكانت قيمتها حين أتلفت تساوي خمسة وعشرين، أي: نصف القيمة؛ لأن السيارة في أول العام تختلف قيمتها عن آخر العام، فهل ننظر إلى قيمة المغصوب عند أخذه وغصبه؟ أو ننظر إلى قيمة المغصوب عند تلفه؟ فمن قال: يضمن بالقيمة عند أخذه؛ لأن يده ضمنت ذلك الشيء بأخذه، قالوا: يدفع خمسين ألف ريال.
ومن قال: يضمن المغصوب بقيمته يوم تلفه؛ لأنه استحق القيمة عند التلف، وكان الواجب عليه أن يرد، فلما امتنع من الرد وحصل التلف ننظر إلى وقت التلف فيدفع خمسة وعشرين أي: نصف القيمة.
إذا: تضمن المغصوبات بقيمتها يوم أتلفت أو بقيمتها يوم أخذت على الوجهين المشهورين عند أهل العلم رحمهم الله، وهذه كلها آثار مترتبة على الغصب، لكن هذه الآثار متعلقة بمسألة عين المغصوب.


وجوب ضمان منافع المغصوب


يبقى
السؤال هذا الشيء الذي اغتصب وتلف قد يكون الغاصب استفاد منه ومضت مدة انتفع فيها منه؟! فالمغصوب إما أن يكون من العقارات أو من المنقولات، فيكون من العقارات كمن اغتصب بيتا أو عمارة أو شقة وأخذها بالغصب وسكنها ثلاث سنين مثلا، فهذا غصب لعقار مستفاد منه مدة الغصب، فهذه الثلاث سنوات لها أجرة وحينئذ إذا جئت تنظر إلى مسألة أجرتها رجعت إلى مسألة منافع المغصوب، فعندنا عين المغصوب، وعندنا منافع المغصوب، ففي منافع المغصوب من حيث الأصل الشرعي يجب ضمانها، وهذا قول فقهاء الحنابلة والشافعية رحمهم الله، والنصوص تدل على صحة هذا القول؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب ضمان الأشياء بمثلها، ولا شك أن هذه المدة مستحقة للمالك، فلما كان الغاصب قد أخذها ومنع المغصوب منه من الانتفاع بها، ومنعه من تأجيرها على الغير، فإنه يجب عليه ضمانها حتى ولو لم يسكنها، فلو أنه منعه من دخول العمارة واستولى على العمارة، أو منعه من شقته أو منعه من سيارته، وعطلت هذه العين سنة كاملة سواء سكن أو ركب السيارة أو انتفع أو أجرها على الغير أو لم يفعل شيئا من ذلك فإنه يضمن.
وإذا سئلت عن وجه التضمين، فتقول: لأن المالك الحقيقي كان بإمكانه أن يستفيد من هذه العين، وأن يتحصل على حقه ولكن هذا الغاصب حينما غصبه وحال بينه وبين ماله امتنع وتعذر عليه أن يصل إلى ذلك الحق ووجب على الغاصب أن يضمن.
إذا: على الغاصب ضمان المنافع، والمنافع تشمل المركوبات كالسيارات والدواب، وتشمل المساكن كالبيوت والعمائر ونحو ذلك من الحرف والصنائع الموجودة في زماننا ومما يستفاد منه من الآلات.
ففي زماننا لو أخذ آلة نجر الخشب للنجارة، أو أخذ آلة للحدادة، وأخذ هذه الآلة وعطلها سنة، فهذه الآلة يسأل أهل الخبرة كم أجرتها في سنة كاملة؟ سيقولون: أجرتها في كل شهر ألف ريال، فمعنى ذلك: أنه يلزم بدفع اثني عشر ألفا استحقاقا للمالك الحقيقي لهذه الآلة؛ لأنه حال بينه وبين الانتفاع بها.
إذا: يستوي أن يكون قد انتفع هو أو مكن الغير من الانتفاع أو حبس الآلة وعطلها؛ لأنه لما حبسها وعطلها كان ضامنا لذلك التعدي متحملا لمسئوليته فيجب عليه دفع القيمة التي هي مستحقة لفوات ذلك الزمان


حكم غصب الحر وضمانه


وقوله: (وإن استولى على حر لم يضمنه) أما بالنسبة للأشياء التي لا تملك كالحر فإنه إذا غصب فإننا ننظر إلى مسألة استهلاكه كما سيأتي، فلو أن هذا الحر اغتصبه ثم مات عنده بأمر الله عز وجل وبقدر من الله عز وجل، فنقول: لا يضمنه؛ لأن الحر هذا ليس محلا للمعاوضة، لكن لو كان رقيقا فهذا أمر آخر، ولو كان دابة فهذا أمر آخر، لكن الحر ليس محلا للمعاوضة؛ لأنه لا يباع ولا يشترى؛ ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى يقول: (ثلاثة أنا خصمهم ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجل أعطى عهدا ثم غدر، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فلم يوفه أجره) .
فقوله: (ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه) فجعله من كبائر الذنوب، ومن الأمور الموجبة للعقوبة الشديدة وهو كونه خصما لله عز وجل -والعياذ بالله- يوم القيامة، وهذا يدل على أنه قد أخذ ما ليس له، وقد ظلم ببيع ما لا يباع؛ لأن الحر لا يباع.
وإذا ثبت هذا فنقول: إذا مات فحينئذ لا نبحث في مسألة ضمانه، وهذا إذا مات قدرا، أما لو أنه تعدى عليه وقتله فهذا له باب الديات وباب القصاص، وينتقل من مسألة الغصب إلى مسألة التعدي، فالشريعة جعلت لكل شيء حكمه ولكل شيء شرعه: {قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق:3] .
فأنت تقول: إذا أخذ هذا الحر واعتدى عليه بالضرب فهناك باب خاص بالاعتداء، فاعتداء المسلم على أخيه فيه الضمان، فإذا حصل تلف في العضو الذي ضربه عليه فإنه يضمن العضو الذي أتلفه على التفصيل الذي سيأتي في الديات.
وإذا قتله بالضرب فحينئذ يفصل فيه فيما لو قتله عمدا أو قتله شبه عمد ولم يقصد قتله، وكان الذي ضربه غير قاتل خطأ، فهذا يفصل فيه في باب القتل وأحكام القتل.
وإذا اقتصر على غصبه ولم يتعرض له بشيء فمات عنده فحينئذ يكون قد مات قدرا ولم يتعرض له بالتلف ولم يتعاط أسباب تلفه، فحينئذ يكون قد مات قدرا ومثله لا يضمن؛ لأن الحر لا يضمن إلا بالاعتداء، وهنا لم يحدث اعتداء فلا وجه للتضمين، هذا بالنسبة للحر.
فابتدأ المصنف رحمه الله بهذه المسألة بأنها ليست محلا للمعاوضة، ثم سيدخل بعد ذلك فيما هو محل للمعاوضات ببيان ما للمغصوب منه وما على الغاصب من الحقوق التي يجب عليه أداؤها، وتركبت على اعتدائه وغصبه لحق أخيه المسلم.
فقوله: (وإن استولى على حر لم يضمنه) .
لاحظ (استولى) ؛ لأن الغصب ما يكون إلا بالاستيلاء، وعلى هذا فالمستولي على حر لا يضمنه، أي: إذا استولى على حر فمات الحر عنده لم يضمنه، إلا إذا كان قد تعاطى أسباب موته وهلاكه، كأن يكون -مثلا- وضعه بغرفة وأقفل عليه فيها، ثم نسي أن يطعمه ويسقيه حتى مات، وقال: ما قصدت قتله، إنما أدخلته على أساس أني أريد أن أروعه وأخوفه وأمنعه من أن يتعرض لي، فأقفلت عليه الغرفة ثم نسيت، فحينئذ إذا ثبت هذا وتقرر فهذا قتل خطأ؛ لأنه تعاطى السبب الذي أوجب هلاكه، ويضمن ديته على التفصيل الذي سيأتي في مسألة الخطأ.
إذا: لا يضمنه إلا إذا تعدى أو فرط في القتل، وهذا معنى قوله: (وإن استولى على حر لم يضمنه) ، في تقدير: إن استولى على حر فمات، لكن مات بدون تعد ولا تفريط لم يضمنه.


حكم استعمال الحر المغصوب أو حبسه


وقوله: [وإن استعمله كرها، أو حبسه فعليه أجرته] .
عندنا -كما تقدم-: الذات والمنفعة، فالحر ذاته لا تملك، وليس محلا للبيع والشراء، لكن منافع الحر تملك ويعاوض عليها، ولذلك استأجر موسى عليه السلام نفسه على طعمة بطنه وعفة فرجه صلوات الله وسلامه عليه، فأجر نفسه ثماني حجج وأتمها إلى عشر، فجعلها إجارة ومعاوضة على مهره.
فالحر لا يملك من جهة الذات، ولكن من جهة منافعه، وكما لا تملك ذاته لا تملك أيضا أعضاؤه، فليست محلا للبيع والشراء، ولذلك لا يجوز بيع الأعضاء ونقلها ونحو ذلك؛ لأنها ليس محلا للمعاوضة، لا كلا ولا جزءا، فلا يجوز بيع كليته ولا قرنيته ولا بيع أجزائه؛ لأنها ليست محلا للمعاوضة، والوعيد في قوله: (باع حرا ثم أكل ثمنه) يشمل الشخص نفسه إذا باع هذا الجزء؛ لأنه ليس محلا للمعاوضة.
فإذا ثبت هذا فيبقى
السؤال هل منافع الحر كذات الحر؟
و الجواب لا، فإن منافع الحر لها قيمة ويستفاد منها ويستفيد منها صاحبها، فلو أنه أخذ حرا وأقفل عليه، فهذا الحر إما أن يكون صاحب صنعة ويستفيد من عمله وعنده عمل فعطله عن عمله ومنافعه، فيضمن مدة تعطيله، سواء استعمله أو لم يستعمله، كرجل عنده عمل، فجاء شخص وأخذه وأغلق عليه في داره شهرا، فتعطل عن عمله، وعادة أن يكون له في هذا العمل ألف ريال، فنقول له: هذا حر يجب عليك ضمان منفعته التي عطلتها بمنعه والإغلاق عليه، فتضمن الألف ريال له، فيضمن منفعته ولا يضمن شيئا آخر، ولو كانت أجرته في الشهر عشرة آلاف يجب عليه ضمان العشرة آلاف؛ لأنه حال بينه وبين هذا الانتفاع بسبب حبسه قاصدا الاعتداء؛ فوجب عليه أن يضمنه.
إذا: إذا منعه ولم يستعمله فإنه يجب عليه ضمانه إذا كان له عمل ومصالح عطله عنها وهو صاحب صنعة، أما لو استعمله ففيه تفصيل: فإنه إذا استعمله لا يخلو من حالتين: مثال: شخص أخذ صبيا، واغتصب هذا الصبي وأخذه من عند أهله، ثم أخرجه -مثلا- إلى مزرعته خارج المدينة، وجلس هذا الصبي في مزرعة الرجل ثلاثة أشهر، وفرضنا أن هذا الصبي بالغ، أخذه وجلس معه ثلاثة أشهر، فإذا جلس هذا البالغ ثلاثة أشهر في المزرعة وعمل فيها فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون عمل بطواعية منه، كما لو جاء فوضعه في المزرعة، فرأى العمال يعملون فجاء وعمل معهم أو ساعدهم ولم يكرهه أحد على العمل، فحينئذ يكون فعله محض التبرع، ولا يجب على الغاصب أن يضمنه؛ لأنه محض تبرع، فقال: (استعمله كرها) .
إذا: إذا حصل استغلال من الغاصب فلا يخلو من حالتين: إما أن يستغله بالعمل قهرا وكرها، فيجب عليه ضمان أجرة مثله في العمل، فلو كانت الثلاثة الأشهر عمل فيها ومثله يستحق في العمل الذي قام به في سقي الزرع -مثلا- ثلاثة آلاف، فيجب عليه ضمان الثلاثة آلاف التي هي أجرته، ولو كانت أجرته ألفين في كل شهر فإنه يضمن ستة آلاف.
إذا: يشترط في استغلال الغاصب للمغصوب وعمل المغصوب عند الغاصب أن يكون بالقهر والقوة، أما لو كان باختياره والرضا فإنه لا يجب عليه الضمان؛ لأنه خرج إلى محض التبرع والإحسان ولا يجب ضمان مثل هذا.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.26 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.61%)]