تحريم إعارة العبد المسلم للكافر
قال رحمه الله: (وعبدا مسلما لكافر) .
ولا يجوز إعارة العبد المسلم للكافر؛ لأنه أولا: إذا أعاره للكافر أهانه وأذله.
وثانيا: أن في ذلك عزة للكافر على المسلم، والله تعالى يقول: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} [النساء:141] .
والعزة للمؤمن على الكافر لا للكافر على المؤمن، وهنا: تفهم أن المسألة مبنية على الوسائل، فلما كانت إعارة المسلم للكافر وسيلة لإهانته وإذلاله وتسلط الكافر عليه حرم، وصار كل شيء فيه إعارة يفضي به إلى هذا المحظور أو أمثاله فإنه محرم.
تحريم إعارة الصيد للمحرم
قال رحمه الله: (وصيدا ونحوه لمرحم (ولا تجوز إعارة الصيد ونحوه لمحرم فقد حرم الله على المحرم الصيد، فلا يجوز له أن يصيد، ولا أن يعين على الصيد بالإشارة أو بالكلام، فلو كان هناك رجل حلال لم يجز للمحرم تنبيه الحلال الغافل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة في الصحيحين: (هل أحدكم أعانه؟ قالوا: لا) ؛ لأنه سقط قوس أبي قتادة رضي الله عنه، فسألهم أن يعينوه فلم يعينوه، فقال: (هل أحدكم أشار إليه؟ قالوا: لا، قال: فكلوا) ، فدل على أنهم لو أعانوه أو أشاروا إليه أو مكنوه من الرمي فيعتبر فعلهم هذا انتهاكا لمحظور الصيد، وقد حرم الله صيد البر دون صيد البحر، فلا يجوز للمحرم أن يصيد ولا أن يصاد من أجله؛ لأن الصعب بن جثامة رضي الله عنه وأرضاه لما صاد من أجل النبي صلى الله عليه وسلم رد الصيد عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) وعلى ذلك ترجم الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه وتقدم بيان هذه المسألة.
من المسائل المتفرعة على الصيد: أنه لا يجوز للمحرم أن يستديم الصيد، كما لا يجوز له ابتداؤه، وهذه مسألة يختلف فيها فبعض المحظورات تجوز استدامتها ولا يجوز ابتداؤها، وبعضها لا تجوز استدامتها ولا يجوز ابتداؤها، فالرجل لو كان عنده زوجة قبل الإحرام يجوز أن يستديم النكاح، وتبقى زوجة له وهو محرم بالحج والعمرة، لكن لا يجامعها، إنما المراد بقاء عقد النكاح، لكن هل يجوز أن يبتدئ عقد النكاح وهو محرم؟
الجواب لا.
إذا: لا يجوز أن يبتدئ ويجوز له أن يستديم، ومن هنا قالوا: يجوز للمحرم أن يراجع زوجته؛ لأن المراد أنه لو طلقها أثناء العمرة، ثم أراد أن يرتجعها، فهل الارتجاع ابتداء للنكاح أو استدامة؟ قالو: استدامة، فيجوز له أن يراجعها، ولا يجوز له أن يعقد عليها بعد خروجها من عدتها.
لكن في الصيد لا تجوز الاستدامة ولا الابتداء، فلو كان عنده صيد قبل الإحرام بالحج والعمرة وجب عليه إطلاقه بمجرد أن يدخل في نسك الحج والعمرة، فلو صاد حمامة أو وعلا أو نحو ذلك من الصيود، ثم قال: لبيك عمرة، نقول له: يجب عليك إطلاق الصيد؛ لأنه لا يستدام ولا يبتدأ، فههنا نفس الحكم: لا يجوز أن تعطيه هذا المصيد وهو محرم، فالمسألة مفرعة على أن المحرم لا يستديم الصيد كما لا يجوز له أن يبتدئ وينشئه، فلا تجوز إعارة الصيد للمحرم.
حكم إعارة الأمة الشابة
قال رحمه الله: [وأمة شابة لغير امرأة أو محرم] .
فلا تجوز إعارة الأمة الشابة، وخرجت المرأة والأمة العجوز؛ لأن الغالب أن المفسدة تحصل بإعارتها لغير امرأة، وكانوا في القديم يستعيرون الإماء، فيقولون: يا فلانة أعطنا الأمة التي عندك.
وفي زماننا الخدامة، فإذا كان عند الشخص خدامة في بيته، وطلب الجار أو طلبت جارة خدامة جارتها، ففيه تفصيل: إن كانت هذه الجارة هي التي تريد الخدامة للعمل، ورضيت الخدامة؛ لأن الخدامة جاءت لعقد معك أنت فلا يجوز أن تعيرها للغير، وبناء على ذلك إذا طلبت أن تنتقل لتعمل عندها ورضيت الخدامة بذلك لأمر عارض، كمساعدتها في شيء طارئ، إن كانت امرأة مثلها، وغلب على الظن السلامة من الفتن؛ فلا بأس وتكون العارية حينها مندوبة، لكن إذا غلب على الظن وقوع المحظور، أو كان زوجها -والعياذ بالله- فاجرا وهي تعينه على الفجور فإنه لا يجوز ويحرم حينئذ أن تعيرها، ولا يعتبر من منع الماعون، ولا يعتبر داخلا في الوعيد الوارد في منع العارية، وعلى هذا نقول: إنه يفصل في الإعارة على حسب ما يترتب عليها من المصالح والمفاسد.
الأسئلة
حكم العائد في الهبة والعارية
السؤال هل العائد في إعارته كالعائد في هبته؟
الجواب العائد في هبته مذموم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء؛ العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يأكل قيئه) ، وهذا يدل على ذم العودة في الهبات.
والهبة تقع في الذوات وتقع في المنافع، فإذا قلنا: إن الهبة هنا بالمعنى العام، شملت العارية، لكن إذا أعار شخص شخصا لا تخلو العارية من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون مؤقتة.
الحالة الثانية: أن تكون مطلقة.
فإن كانت مؤقتة قال له: خذ سيارتي وانتفع بها، ومتى ما أردت أخذتها، فهذه عارية مطلقة، فالعارية المطلقة إذا أخذها المستعير وانتفع بها ولو مرة واحدة ثم طلبتها منه، فإنه لا بأس بذلك؛ لأن الهبة مطلقة، وتصدق على أقل ما تقع به العارية.
لكن الإشكال إذا قلت له: اسكن في داري شهرا، فقد وهبته السكنى شهرا وقيدت، فحينئذ لا يكون الرجوع قبل تمام الشهر، فإن أتاه في نصف الشهر أو قبل تمام الشهر ولو بيوم فإن هذا يكون رجوعا في العارية.
لكن هذا الرجوع فيه تفصيل: إن كان الرجوع بسبب عارض ألم بك، فأنت معذور فيه.
لو أن شخصا وهب سيارته ثم احتاجها لأهله أو لأمر طارئ عليه، وقد وهبها حينما لم تكن عنده حاجة ثم طرأت له حاجة؛ وقال له: طرأت لي ظروف وأريد أن آخذها، فينبغي على الأخ الثاني أن يقدر، وإن كان الأفضل والأكمل تورعا لهذا الحديث أن لا يسأله ذلك.
وأما لو سأله فعنده وجه إذا اضطر إلى ذلك، وأما إذا لم يضطر وكان ذلك على سبيل الرجوع فهذا لا شك أنه مذموم، ويشمله الحديث لعموم الهبة من الوجه الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.
حكم الانتفاع بالعارية ومنافعها التابعة لها
السؤال لو أعاره ناقة ليحمل عليها، فهل له أن ينتفع بصوفها وبلبنها؟
الجواب الهبة إذا كانت للبن والصوف الذي على الناقة، أو قال له: أعرتك هذا البعير، ووهبتك صوفه أو وهبتك لبنه، جاز الانتفاع به.
أما إذا قيد العارية بالركوب ولم يذكر هبة للصوف ولا للوبر ولا للبن؛ فلا يجوز أخذ شيء من ذلك إلا بالإذن.
وهناك شيء يمكن أن يستفاد من الإبل ضمنا، فلو قال له: خذ هذه الناقة وسافر بها إلى المدينة، فإن الناقة إذا كانت حلوبا أو فيها لبن يمكن أن ينتفع بها.
نفهم من هذا أنه إذا حلبت ليس معقولا أن يحفظ الحليب حتى يرجع إلى مكة -خاصة في القديم- قد يحتاج إلى وقت وقد يفسد اللبن قبل أن يعيده، فنفهم من هذا أنه قد وهبه الأصل ومنافعه المترتبة عليه، فنقول: لا بأس.
وأما إذا لم يفهم ذلك، ولم يكن فيه دليل فإنه يبقى على الأصل من حرمة مال المسلم، إلا بعد إذنه، والله تعالى أعلم.
حكم الحج عن المريض إذا حصل له الشفاء بعد الحج
السؤال حججت عن والدي وهو رجل مسن مريض ثم شفي من مرضه، فهل ينبغي له أن يحج؟
الجواب إذا كان المرض الذي أصاب الوالد مما يرجى برؤه فحينئذ لا يستقيم أن يحج عنه، ولا يسقط حج الفرض على هذا الوجه، وأما إذا كان مرضه مما لا يرجى برؤه وشاء الله بقدرته وشفاه، فحينئذ يقع الحلاف المشهور بين العلماء -رحمهم الله- في مثل هذه المسألة، وهي: أن نظن بقاء العذر على المكلف، ثم يزول العذر ويتمكن، فهل يوجب ذلك الرجوع إلى الأصل أو لا يوجبه؟ ولهذه المسألة عدة صور: فتارة يشفى بعد تمام الحج وبراءة الذمة، وتارة يشفى أثناء الحج، وإذا شفي أثناء الحج: إما أن يشفى بعد وقوع أركانه، وإما أن يشفى قبل وقوع الأركان، فهذا كله فيه تفصيل ويتفرع على المسألة التي ذكرناها.
من أهل العلم من قال: إذا كان الظن صحيحا وكان مرضه لا يرجى برؤه غالبا أو غلب على الظن أنه لا يسلم، وقال: يا بني حج عني، فحججت عنه، قالوا: إن الشرع يجيز هذا الحج لوجود العذر، ثم إذا قام المكلف بالحج عن والده على هذا الوجه، فقد سقطت الفريضة عن الوالد؛ لأن الإذن الشرعي يوجب سقوطها، فإذا سقطت الفريضة وتم الحج وزال العذر بعد تمام الحج فلا وجه أن نطالبه بالحج مرة ثانية.
هذا وجه لبعض العلماء، ويقول: كما أذن له في الأصل؛ فإن هذا الإذن يستلزم صحة الحج وبراءة الذمة.
ومن أهل العلم من قال: القاعدة: (لا عبرة بالظن الذي بان خطؤه) ، فهو إذا ظن أن والده لا يشفى ثم شفي فإنه حينئذ يرجع إلى الأصل؛ لأن الأصل أن يحج عن نفسه، وقد رخص الله عز وجل أن يحج الغير عنه إذا عجز، وهذا لم يعجز لأن العجز كان عارضا ومؤقتا، كما لو مرض مرضا مؤقتا فإنه لا تسقط عنه فريضة الحج ولا يجوز له أن يوكل، ولا شك أن القول ببراءة الذمة من حيث الأصول فيه قوة، لكن إذا كانت البراءة أثناء الحج وكان شفاؤه أثناء الحج فهذا أمر آخر؛ لأن الذين قالوا بأنه تبرأ ذمته اختلفوا: هل العبرة بالابتداء أم العبرة بالانتهاء؟ فمنهم من يقول: إذا وجد العذر عند الابتداء يسقط وله صور.
منها: مسألة ما لو رأى الماء أثناء الصلاة وقد تيمم؛ لأنه ابتدأ لعذر، فيصح له أن يتم ولا يقطع الصلاة.
بناء على هذا لو شفي بعد دخولك في الحج فيتفرع على مسألة زوال العذر أثناء العبادة، فإن قيل في المسألة: التيمم لا يقطع، كذلك هنا: لا يقطع حجه ويتمه، ولا شك أنه في أثناء الحج يختلف الأمر عما لو شفي بعد تمام الحج وبراءة الذمة؛ فإن الخلاف فيه أضعف، والله تعالى أعلم.
حكم حج من هو في خدمة والديه
السؤال إذا كان لوالدي حاجة لا تقوم إلا بي، فهل يشترط إذنهما للذهاب إلى الحج؟
الجواب إذا كان الوالدان يتضرران ضررا يخشى عليهما منه، بأن يخشى هلاكهما، مثل أن يكونا في منطقة نائية، أو شيخين كبيرين في السن، يحتاجان إلى دواء وعلاج، ولا بد من وجودك بجوارهما لعارض ينتاب أحدهما مثل العوارض التي تكون في الأمراض النفسية أو نحوها، ويغلب على الظن أنه يحصل ضرر عظيم ببعدك عنهما، فحينئذ يرخص لك في ترك الحج ما دام أنهما لا يستطيعان أن يعيشا بدونك، ولا يجب عليك الحج.
أما لو كان حجك نافلة فلا شك أن بر والديك أفضل عند الله من حجك وعمرتك، ولذلك لا إشكال في تقديم بر الوالدين على الحج، قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) وفي الحديث الصحيح: (أحية أمك؟ قال: نعم، قال: الزم رجلها؛ فإن الجنة ثم) فالذي يريد أن يحج حجة نافلة لا يحج إلا بإذن الوالدين، ورضاهما حتى ولو كان الوالدين قويين، ومستطيعين ولا يحتاجان للولد، فإذا قالا لك: لا تحج.
فلا تحج، ويكتب لك أجر الحج لأن العذر شرعي، ولا يجوز للمسلم أن يسافر إلا بإذن والده، لحديث: (أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) وفي الحديث الصحيح الآخر: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما، وأحسن صحبتهما) رده عن الجهاد في سبيل الله وشراء الجنة وبيع نفسه في سبيل الله عز وجل من أجل بر الوالدين.
ولذلك نص العلماء -رحمهم الله- على أنه لا يجوز للولد أن يسافر بدون إذن والده، لما في ذلك من المشقة والعناء النفسي، وقد يقول لك الوالد: لا تسافر مع هذه الرفقة، وقد تكون لك فتنة في هذا الرفقة، فإن أطعت والدك حفظك الله من الفتن، وكم من حوادث وقعت لأناس عصموا فيها من البلاء في دينهم ودنياهم بفضل الله عز وجل ثم ببر الوالدين.
قص لي بعض الأخيار: أن شابا صالحا كان بارا بوالديه، وكانت معه رفقة فيها بعض أقربائه، وكانوا يخفون الشر -والعياذ بالله- ويتعاطون بعض المخدرات، فزعموا أنهم خارجون لعمرة، وسأله أحد إخوانه أن يخرج معهم، وخرج هذا الأخ وكان عاقا لوالده، لم يأذن له والده، فقال: أنا سأخرج معهم رضي الوالدان أو لم يرضيا، وأما الثاني فقال: أنا لا أخرج إلا بعد أن يرضى والدي، فقال والداه: لا تخرج، فلما خرج وإذا بهم أخذوه إلى -نسأل الله العافية- بغيتهم التي يريدون، ثم وقع في هذه الجريمة، وابتلي بها، وذلك من شؤم عقوق الوالدين، والحوادث في هذا كثيرة.
وكم من شاب صالح بر والديه، وامتنع من الخروج, وخرجت رفقته فانقلبت بهم السيارة، فلم تبق فيهم نفس تطرف.
فالله يحفظ الإنسان ويصونه بفضله سبحانه ثم بطاعته، والطاعة فيها خير كثير، وأحب الطاعات إلى الله بعد الإيمان بالله بر الوالدين، فلا شك أن بر الوالدين أفضل من الحج، ومقدم عليه.
في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فلا شك أن برك لوالديك أفضل من حجك وعمرتك إذا كان حجك وعمرتك نافلة.
أما لو كان الحج والعمرة فريضة فحينئذ لا يستأذن الوالدان في الفريضة إلا إذا حدث الضرر وهناك ظروف على نفس الوالدين، كما ذكرنا، ويغلب على الظن أن الوالدين يتعرضان للهلاك كما في الأحوال التي تطرأ عليهما إن كانا شيخين كبيرين في السن، ويتضرران بغياب الولد، فهذه مسألة مستثناة، أما الأصل: فالفرائض العينية من الحج والعمرة والصلاة لا يستأذن فيها الوالدان ولا يشترط فيها إذنهما، كما قدمنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.